ما بين "ملوك اليمن" و "المسيخ الدجال"!
بقلم/ أ د فؤاد البنا
نشر منذ: 13 سنة و 6 أشهر
الثلاثاء 10 مايو 2011 09:28 م

من المعلوم أن الإسلام جعل الحرية ثمرة العقيدة ، لأن إفراد الله بالوحدانية مع الإيمان بوجود رسل جاؤوا لتحرير البشر من عبودية العباد إلى عبودية الله ، وبأن الله أنزل كتباً لتحقيق هذا المقصد العظيم ، وخلق الملائكة لوظائف عدة ، منها مناصرة المستضعفين الأحرار ، وبأن القدر ركن من أركان الإيمان الذي يتضمن الإيمان بأن الأجل والرزق مكتوبان ومحسومان ، ثم الإيمان بالآخرة وما فيها من إثابة المحسنين ومعاقبة المسيئين ، كل ذلك يجعل الحرية من صميم العقيدة ، ويضعها قبل الشريعة .

في هذه المقالة سنمر بعجلة على عدد من العناوين ذات الصلة بملوك اليمن وبزعيم الفساد أو المسيخ الدجال وما بينهما من نقاط ، نجملها في النقاط الآتية:

لماذا طال اعتصامنا؟   

يتساءل كثيرون عن أسباب طول مدة الاعتصام مع أن السلطة أوهى من (بيت العنكبوت) ، وتُدرج عادة في التقييمات الدولية ضمن الدول الفاشلة ، وقد رأينا أنظمة أقوى من النظام اليمني ، ومجتمعات أضعف في مناعتها من المجتمع اليمني ، ومع ذلك سقطت بسرعة أكبر (تونس: 28 يوماً) ، (مصر: 18 يوماً) ، فلماذا أسرعت وتأخرنا؟  

إنها ضريبة السكوت عن حماقات ارتكبت في حق الوطن ، وسفاهات نالت من مقدرات الشعب ، وهي ضريبة الانتماء إلى مجتمع كثير الامية (60%) تنطلي عليه أكاذيب المستبد وحيل الفاسدين وشبهات الشموليين .

ومن ذلك الحديث عن الانتخابات كبوابة وحيدة للتغيير السلمي للسلطة ، مع أن هناك أنظمة ديمقراطية صعدت بالفعل عبر صناديق الاقتراع ، لكنها عندما حادت سقطت عبر ثورة الشارع أو انتفاضته ، فكيف بالصندوق السحري الذي تدخله الكروت باسم وتخرج عند الفرز باسم آخر ، بسبب حواة اللجنة العليا للانتخابات الذين كانوا مثل سحرة فرعون في قلب الحقائق ، لكنهم لم يكونوا بصدق أولئك السحرة عندما رأوا الحقيقة!

ومن تدابير القدر أن الانتخابات اليمنية تجري عادة في شهر إبريل ، كأنها (كذبة إبريل) ، إذ حوَّلها الحاكم إلى انتحابات على الحريات المستباحة وإلى موسم لإهدار كرامة الإنسان وحقوقه ، حيث يمتزج مداد الاقتراع بعرق ودماء كثير ممن يحاولون الدفاع عن أصواتهم ، وممن يرفضون تحويل هذه (الأصوات) إلى (أسواط) لجلد ظهورهم .

لقد استمات صالح في العمل الحثيث من أجل تفرد حزبه الحاكم بالصندوق الانتخابي ، وبينت الأحداث أنه ما خلا سلطوي بالصندوق إلا كان الشيطان ثالثهما ، ومع ذلك مازال صالح يمارس كذبه وينفث أغاليطه ، حول أن الطريق السلمي الوحيد هو صندوق الاقتراع ، وقد رأينا كيف حاول صالح أن يحجب الشمس بغربال ، وأن يبخس الناس أشياءهم في عز الظهر وأمام الدنيا بزعمه أن المتظاهرين من مائة إلى مائة وعشرين إلى مائة وخمسين ، عندما كان المتظاهرون بمئات الآلاف ، ولما صاروا بالملايين زعم صالح أنهم حوالي ثمانية آلاف يحاولون فرض رأيهم على عشرين مليون ، وهذا ديدن المستبدين ، وخاصة الذين يتعمرون أكثر ، ولكن كيف يمكن ائتمان هذا الكذاب على صناديق الاقتراع وهو يحصي كروتها خلسة في الليل؟!

وأريد أن أشير إلى عامل آخر مهم ساهم بقوة في تأخير الاستجابة الصالحية لمطالب الشعب الحثيثة في التنحي ، هو مرارة الفطام عن مغريات السلطة المطلقة ، بما فيها من مغانم تجعل الحاكم يتأله ، وفي الحد الأدنى يشعر أن له حقاً إلهياً في هذا المنصب. ولهذا قيل إن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة ، وتوصل الغرب إلى ضرورة تحديد أعلى مدة للسلطة بفترتين ، مع التفاوت في عدد السنوات .

وتتضح مرارة الفطام من السلطة المطلقة من قوله تعالى: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء} [آل عمران: 26] ولاحظوا معي الفعل: وتنزع ، حيث يطلق هذا الفعل على عملية إخراج الملائكة لروح الإنسان ، وما يزيد الأمر صعوبة هنا أن روح الزعيم المستبد تنزع مرات كثيرة تساوي عدد السنوات التي قضاها في الحكم المطلق ، فوق ما تعارف عليه البشر في العالم المتحضر ، ولذلك سيتحمل صالح مرارات خروج روحه ثلاثا وثلاثين مرة ، بينما ستخرج روح القذافي اثنتين وأربعين مرة وستكون مقاومته أشرس ، وقد رأينا يف قاوم ابن علي ومبارك من قبل هذا (النزع) للسلطة من يديهما ، لكنهما كانا أقل مقاومة من صالح والقذافي لعوامل عدة ، أهمها ما نحن بصدده هنا ، وهو عدد السنوات التي مارس فيها كل منهما ممارسة دور الفرعون والتأله على الشعب ، وما راتكبا من جرائم في حق الشعب ،لأنه كلما زادت الجرائم زاد التشبث بالسلطة خوفاً من العقاب! 

وبالنظر إلى مزاعم صالح بأنه يحب الشعب اليمني وأنه لا يريد السلطة ، وأنه سئم منها ، وأنها مغرم لا مغنم ، ومع ذلك فإنه يقاوم بشراسة محاولات الأغلبية الساحقة من الشعب للانعتاق من حكمه العتيق ، مع استعداد كامل للقتال إلى آخر قطرة من دم الجيش ، يعود ذلك إلى خوف صالح على الشعب اليمني من أن يموت من شدة الفرح!!

تزكية الملوك:

إن ملايين اليمنيين اليوم يستنشقون عبق الحرية في ميادين التغيير بعد طول اختناق ، حيث امتلأت رئاتهم بثاني أوكسيد العبودية ، وبحرياتهم أصبحوا ملوكاً كما أوضح القرآن عن سلفهم من بني إسرائيل الذين حررهم موسى من عبودية الفراعنة ، قال تعالى: {وإذ قال موسى لقومه يا قومي اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين} [المائدة: 20] ، فأين الملك من بني إسرئيل الذين كانوا مازالوا في سيناء في طريقهم إلى الأرض المقدسة ، ولم يصل الملك إليهم إلا بعد أربعين سنة من التيه وكان موسى عليه السلام قد مات أثناءها ، لا معنى للملك هنا إلا الحرية ، وهو ما ذهب إليه أكثر المفسرين .

والملك بهذا المعنى مع ما يتبعه من التمكين ، ليسا منحة مجانية ، بل يحتاجان إلى تأهل ، بحيث يتطهر الإنسان من ذنوبه ، ويتزكى من طبائع الفجور والظلم والجهل والطغيان في شخصيته.

هذا التخلي عن شوائب النفس الأمَّارة بالسوء ، مع ما يتبع ذلك من ترقي في مدارج الكمال البشري ، بحاجة إلى وسائل أودعها الله في سننه الكونية وسننه الشرعية ، ومن ذلك المحنة والابتلاءات والشدائد .

لقد تلطخ كثيرون بالكثير من الأخطاء والخطايا التي مكَّنت المستبد من أن ينشب أظفاره في أجسادهم ، وصار من اللازم أن يتخلصوا من هذا الوباء الذي أزمن حتى صار سرطاناً .

وليس الخلاص من السرطان بالأمر السهل ، إنه محنة كبرى تحتاج إلى أدوية عديدة وإلى صبر عميق ومصابرة متواصلة .

وعبر حقب التاريخ اشتهرت اليمن بأنها (أرض المدد) حيث ظلت مخزن الرجال ، ولما كان صالح وحكمه السرطاني قد طال أمده ، فإنه قد أثَّر على أجيال عديدة من الشباب ، فصار كثير من أفراده نفعيين أو سلبيين ، ليستيقظوا على (أمطار الحرية) وهي تهطل عليهم بغزارة ، لكن هذا العدد الضخم من شباب التبر الثمين بحاجة إلى استخلاص حتى يصير ذهباً ، والذهب كما نعرف ثلاث درجات ، يبدأ من عيار 18 الذي تختلط به الشوائب ، وعندما تُسلط النار عليه تقل الشوائب فيرتقي إلى عيار 21 ، وعندما تزيد النار ويطول أمدها يصبح ذهباً خالصاً ينتمي إلى عيار 24 الشديد النقاء .

ولهذا طالت مدة المدافعة ، وتعاظمت التضحيات ، وسالت دماء الآلاف حتى الآن (بينهم مائة شهيد) وربما ارتفع العدد وتضاعف إذا رأى الله أن الشوائب ماتزال تخالط النفوس ، والثغرات مازالت تتخلل الصفوف ، وهكذا تولد النعمة من رحم النقمة ، وتخرج المنحة من قلب المحنة!.

 وربما زادت المحنة أكثر ، لأن عامة الشعب اليمني تعامل مع صالح الذي عاث فسادا في الأرض ، فنشر الفقر ، وأشاع الجهل ، وزرع الفرقة ، وتسبب في هدم الكعبة آلاف المرات ، لأن كل روح تُزهق بمثابة هدم للكعبة حجراً حجراً ، بل هو أشد كما جاء في الحديث الشريف من هدمها. ومنح الشعب الكثير من الأوهام ، وسقاهم السراب ، وأطعمهم الحنظل ، وتسبب في تهجير مئات الآلاف في أصقاع الأرض باحثين عن أحقر الأعمال بمقاييسهم الاجتماعية ، وقصف أعمارهم بالأوبئة والأمراض ، وسوء التغذية ، ومع ذلك اشترك الملايين منهم في مهرجانات الزور ، التي زعمت أن صالح أحد الخلفاء الراشدين أو سادسهم ، وفي الحد الأدنى زعم بعضهم أنه العبقري الذي عقمت النساء عن أن يلدن مثله ، وأنه هبة السماء ، وأنه فريد العصر و (وحيد القرن) ، وبالتأكيد أن وحيد القرن عندما يغضب يرفس من تحته وربما قتلهم دون أن يدري!!

فقهاء السلطان:   

 إذا كان الأمراء هم رأس هذه الأمة فإن العلماء هم قلبها ، وكلاهما يشكل مضغة الأمة التي إذا صلحت صلحت الأمة ، وبفسادها تفسد .

 وقد أثبتت وقائع التاريخ وأحداث هذه الثورة أن هناك من المنتسبين إلى العلم ممن لا يقل انحطاطاً عن الأمراء المستبدين ، ولأن الطيور على أشكالها تقع ، فقد تعاون الطرفان لاستلاب إرادة الأمة ، الزعماء يقومون بالفعل ، والعلماء يوفرون المبررات والدواعي .

 ومنذ أن أشيعت مقولة "لحوم العلماء مسمومة" ووظفت توظيفاً خاطئاً زادت انحرافات وخطايا علماء السلاطين ، وأصحاب العلم المنقوص ، من الذين انشغلوا بالسند عن المتن ، وبالصورة عن الجوهر ، وبالسنة عن الفريضة ، ومارسوا صوراً من التدين اللاهوتي الذي لا يتدخل في الأمور المرتبطة بالناس إلا إذا استدعاه الحاكم لكي يهدئ بقرة الشعب حتى يحلبها بدون عَلَف!!.

 لقد أثبتت الأحداث أن علماء طاعة ولي الأمر ، كثيرو الانشغال بدم الحيض والنفاس عن دماء المظلومين ، وأنهم أظهروا الإسلام كالمسيحية ، حيث الفصل بين ما لله وما لقيصر ، لكنهم يتخلون عن هذا الدور ، عندما تشتد الضائقة على الزعيم ، كما فعل صالح عندما ارتجت الأرض من تحت كرسيه نتيجة المظاهرات السلمية للشباب ، فقد استدعى العلماء ـ مع من استدعى ـ وطلب منهم أن يوضحوا للشباب وجوب طاعة ولي الأمر حتى ولو جلد ظهورهم ، وخطف اللقمة من أفواههم ، ومارس معهم كل صنوف الاستعباد والإقصاء والحرمان!.

 وقد تميز العلماء العارفون بدينهم والواعون بواقعهم ، والصادعون بكلمة الحق ، عن العلماء الذين لم يتورعوا عن أن يكونوا "صوتاً" في فم الحاكم الكذاب ، و "سوطاً" في يد الزعيم الجلاد ، لكن حكمة الله اقتضت أن يذهب الزبد جفاء وأن يبقى ما ينفع الناس ، غير أن ذلك لا يحدث إلا بعد دفع ضريبة هذا التدليس!.

 وإن تعجب فعجب قول بعضهم إن طاعة صالح واجبة ؛ لأنه لم يمنع الناس من الصلاة كما فعل الرئيس التونسي ابن علي ، ولأنه يحترم العلماء ويجلهم!!.

  ويبدو أن من علامات ذلك أنه لا يستفتيهم في الدماء التي أراقها ولا في الأموال التي استلبها ، ولا في الأراضي التي اغتصبها ، ولا في نواهي الإسلام التي استباحها ، لكنه عندما يحتاج إلى "شهادة زور" للضحك على عواطف العامة لا يني عن استدعائهم وتحميلهم المسؤولية .

 ولإدراكه لمنزلة العلماء واحترامه لهم ، فقد عيَّن أحد كبار البلطجية في بلاطه ليكون وزيراً للأوقاف ، ولم يتمعر أصحاب العمائم حتى لمثل هذه الصورة الصارخة من امتهان العلم والعلماء ، فضلاً عن امتهان مقاصد الإسلام وحقوق الإنسان!.

 وأحب في هذا المقام أن أُحدِّث بنعمة الله عليّ ، حيث كرَّم وجهي عن عبادة الظالم ، إذ لم أشارك في انتخابه قط ، حتى في انتخابات 1997م التي كان فيها مرشح الإصلاح ، فقد عمدت إلى تعبئة الشباب لاختيار منافسه رغم عدم قناعتي به ، لكني أردت أن أساهم في التقليل من طغيان صالح الذي يرتفع منسوبه بقدر ارتفاع نسبة الذين صوَّتوا له! وأخشى لهذا السبب أن يأتي أحد علماء البلاط ليتوعدني بالويل والميتة الجاهلية ، لأنني لم أنتخب الخليفة الصالح الذي عاث في الأرض فساداً!.

 وأذكِّر هؤلاء أن الصحابي عبدالله بن مسعود قال: إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه ، فيخرج وما معه دينه. قيل: وكيف ذلك؟ قال: يرضيه بما يُسخط الله عز وجل!.

ويروى عن الأحنف بن قيس قوله بهذا الصدد: سهرتُ ليلتي أفكر في كلمة أُرضي بها سلطاني ولا أسخط بها ربي ، فما وجدتُها!

 ولمثل هؤلاء قال ابن قيم الجوزية بيته الشهير:

فيا رجال الدين يا ملح البلد من يُصلح الملح إذا الملح فسد!.

 فهل يمكن أن يصدق ابن القيم أن الانحطاط وصل ببعض هؤلاء اليوم إلى حد الإفتاء بجواز قتل المتظاهرين سلمياً ، بزعم أن هذا خروج يقوم مقام البغي ، وقبل ذلك ذهب صنف من هؤلاء إلى حرمة منافسة الرئيس صالح في الانتخابات الرئاسية عام 2006م ، مع أن الذي دعا إلى الانتخابات هو صالح نفسه ، وهو من "الشطارة" بمكان ، بحيث يستطيع أن يسحر الصندوق ويقول له: "كن فيكون" وليس بحاجة لمثل هذه الفتوى الرخيصة التي تضع هؤلاء بنفس خندق الجُرم الذي يقف فيه صالح اليوم!. 

ثورة الحكمة وحكمة الثورة: 

 كلما اتسعت خبراتنا ومعارفنا ندرك مدى إعجاز نصوص هذا الدين ، حتى في نصوص السنة النبوية ، ومنها ما يتحدث عن الحكمة اليمانية ، فقد كانت هذه الحكمة عاصماً للملتزمين عن الانجراف إلى خانة ردود الفعل العنيفة ، رغم استفزازات صالح في حروبه البارده والعسكرية على الشعب الذي أراد الخروج من بيت الطاعة والهوان!

 وعلى سبيل المثال ، يعرف الجميع مدى هزلية ما تسمى بالانتخابات ، وما فتئ صالح يحمد ذكاء الشعب اليمني وقدرته على انتخاب رئيسه ونوابه ، ونحن نعرف أن الرئيس هو كل شيء في البلد ، أما النواب فهم أهل الحل والعقد ، ممن أنيطت بهم مهام التشريع للدولة والرقابة على أداء مؤسساتها!.

  ولكي يتأكد من لايزال يجهل أن صالح لا يثق بالشعب اليمني إلا لأنه ينتخبه أو يسكت عن تزوير إرادته ، فإن صالح وقف بالمرصاد لقانون الجامعات الذي كان يتيح لأعضاء هيئة التدريس (الدكاترة) أن ينتخبوا من بينهم رئيساً للقسم وعميداً للكلية ، مع أنهما بدون أي صلاحيات سوى تنظيم الجدول الدراسي وما شابه من الأمور الإدارية ، ثم إن الذين يقومون بالانتخابات هم أعلى طبقة في المجتمع علمياً وثقافياً ، مع أن كثيراً من هؤلاء يحملون عقلية العامة في تقديس الرئيس وحزبه .

 غير أن شموليته ظلت تدفعه للعصف بهذا القانون ، لكنه لم يتمكن بسبب تصدي نقابة هيئة التدريس بجامعتي صنعاء وعدن ـ آنذاك ـ لذلك. وعندما وقعت حادثة السوداني محمد آدم في مشرحة جامعة صنعاء ، استغل صالح الفرصة ، فزعم أن هذا بسبب العميد المنتخب ، وأنه لو كان معيناً لما وقع ما وقع ، ومارس ضغوطاً شديدة على قيادة النقابة للموافقة عل تعديل القانون ، ممنياً الأساتذة بكادر يوازي أعضاء هيئة التدريس بالجامعات الأردنية .

 وكعادته في الاستحواذ والمخاتلة ، حقق مراده في تأميم إرادة الأساتذة ، لكنه لم يساوهم بكادر الجامعات الأردنية ،فهل هذا المخادع يمكن أن يعطي الشعب حقه في اختيار رئيسه بحق؟!

 والشاهد في هذا كله أن هذه الاستفزازات لم تدفع شباب التغيير والحركة الإسلامية إلى اليأس من التغيير أو الإنجرار إلى مربع العُنف .

 أما ما فعلته سلطة صالح بالمتظاهرين السلميين من قتل وتشويه وقلب للحقائق ورميهم بشتى التهم ، فقد رآه الجميع ، وتسخير كل الأجهزة الأمنية والقوات الخاصة والحرس الجمهوري للكيد لهم ، لكن ذلك لم يجرهم إلى مربع العنف ولم يتزحزحوا قيد أنملة عن انضباطهم وسلميتهم حتى بعد أن سالت بِرَك من الدماء في جمعة الكرامة من عروقهم النابضة بالحياة. وأنا واثق أن هذه التجربة ستكون درساً لكثير من الشعوب الحرة ، ولو جرت في بلد آخر لكان للإعلام معها شأن آخر ، مع أنها أعظم عندما تظهر في اليمن ، بسبب شيوع القبلية ، وارتفاع نسبة الأمية ، ووجود حوالي خمسين مليون قطعة سلاح!.

 ستساهم هذه الثورة إن شاء الله في رفع أسهم الإنسان اليمني ، وستمنحه شيئاً من التوازن في تقدير الذات ، والظهور الكريم أمام الأشقاء ، بسبب ما كشفته من نفاسة في معدن الإنسان اليمني ، وما يمتكله من كنوز حضارية أظهرته بكل هذه النصاعة والألق .

 

الجبال لا تتزحزح والجنين لا يعود إلى بطن أمه:    

 أظهر شباب اليمن ورواد الثورة إرادة وتصميماً لا نظير لهما ، فرغم الجهود الجبارة للسلطة ، في مجالي الوعد والوعيد ، وفي ميداني الترغيب والترهيب ، إلا أن الشباب يرفض أي طريق لا يفضي إلى الرحيل ، وأي حوار لا يتركز حول كيفية إعادة أمانة السلطة إلى صاحبها وهو الشعب .

 لقد قالها المعتصمون بكل اللغات واللهجات: لن نعود إلى بيوتنا إلا بعد أن يعود الفاسدون إلى بيوتهم ، تاركين الشعب وشأنه .

   وأظهرت عزائم الشباب أن إراداتهم قُدَّت من حجارة جبال اليمن ، إن حالهم يقول لن يعود صالح رئيساً إلا إذا عادت الشمس قبل غروبها إلى حيث أشرقت ، وإلا إذا عاد الجنين إلى بطن أمه ، والحليب إلى ضرع صاحبته ، أو إذا ولَجَ الجمل- بل الحصان -في سم الخياط!!

  هناك طريق واحد لتعود المياه إلى مجاريها ، وهي أن يُعيد صالح الدماء المراقة إلى العروق التي تدفقت بغزارة منها ، بفعل حرارة الإرادة ودفقات الحرية ، رغم فقر الدم الذي يعاني منه اليمنيون ، ولكن يبدو أنهم أغنياء في دماء الحرية مقارنة بأكثر العرب والمسلمين!.

 لا عودة إلى الوراء إلا أن تعود عقارب الزمن إلى الخلف ، ولا حل إلا أن يرحل ، وقد قالها الشباب مجلجلة إنهم ربما تراجعوا إذا أعاد صالح الشهداء أحياء إلى الأرض ، ومع شعور أغلبهم بالمرارة من أفاعيله ، سيقول بعضهم: لو أعاد الشهداء إلى الدنيا أحياء ما تراجعنا ، لكننا سنقول حينها: إنه المسيخ الدجال!!

 تقول ألسنة حال الشباب: لقد طلبت منا أشياء كثيرة يا صالح طيلة ثلاثة عقود ، ونحن نريد منك مقابل ذلك أن تنفذ جملة من أربع كلمات: الشعب يريد إسقاط الرئيس ، أو كلمة واحدة من أربعة أحرف: ارحل!.

دام المواطنون أحراراً والشباب ملوكاً ، فلا حرية لوطن إلا بمواطنين أحرار!.

*أستاذ الفكر الإسلامي السياسي بجامعة تعز

رئيس منتدى الفكر الإسلامي