|
«قد نبشتُ قبور ملوكهم السابقين والمتأخرين الذين لم يخافوا من هيبة آشور، والذين أقلقوا أسلافي من الملوك، لقد نبشتها وعرضت هياكلهم للشمس وأخذت عظامهم إلى بلاد آشور».
تجسد هذه العبارة الواردة في حوليات «آشور» بانيبال اتجاهه للانتقام من خصومه، من خلال النيل من أجدادهم وتاريخهم، وهو دأب جنرالات الحروب على مرّ التاريخ، فقائد القوات الفرنسية الجنرال هنري غورو الذي احتل دمشق بعد معركة «ميسلون» عام 1920، توجه نحو قبر صلاح الدين الأيوبي وركله بقدمه قائلًا: «ها قد عدنا يا صلاح الدين»، ولا يُتصور أن ينم هذا عن الحقد التاريخي فحسب، بل عن العداء الراهن أيضًا، على سبيل الانتقام من الأحفاد بالنيل من الأجداد، وعلى الدرب سارت دراما محمد بن زايد.
كتبتُ في الأسبوع الماضي عن المسلسل الذي أنتجته الإمارات بعنوان «ممالك النار» قبيل انطلاقة عرضه بسويعات، واستندتُ إلى برومو المسلسل للإشارة إلى أنه كيد إماراتي للأتراك تجسده الدراما. وما إن طالعتُ حلقته الأولى، حتى استوقفتني البداية البغيضة لها، والتي عرضت لنا في الدقيقة الأولى سيلا من حمم الحقد تجاه التراث العثماني، عندما تعرضتْ لقيمة إسلامية وتاريخية كبيرة بالطعن الخالي من التوثيق التاريخي، وأعني شخصية محمد بن مراد الثاني الملقب بمحمد الفاتح، الذي تحقق على يديه حلم المسلمين، منذ أيام الصحابة بنشر الإسلام في القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية. بدأ المسلسل بفرية تاريخية تقول إن الفاتح وصل إلى الحكم بعد صراعه على العرش مع ثلاثة من إخوته، مع أن المؤرخين أمثال المؤرخ والفيلسوف الروسي كانتمير، ذكروا أن السلطان مراد الثاني عندما توفي كان جميع أبنائه – عدا محمد – قد ماتوا، كما أن الثابت تاريخيا أن محمد الفاتح تولى السلطنة في عهد أبيه بعدما مات ولده الأكبر علاء، فحزن عليه وزهد في السلطة، ووكل أمر السلطنة لولده محمد، لكنه عاد إليها بعدما دبت الفتن وقرعت الحرب طبولها، ثم تولى محمد السلطنة بشكل رسمي بعد وفاة أبيه دون أي صراعات.
وإضافة إلى ذلك، فقد خلط المسلسل بين ظروف تولي محمد الفاتح السلطة، وتولي جده محمد جلبي الحكم في البلاد في أكثر الحقب العثمانية تخبطا، حيث دار الصراع بينه وبين ثلاثة من إخوته موسى وعيسى وسليمان، إلى أن آل إليه الأمر، فنسب المسلسل هذا الصراع لمحمد الفاتح لا جده. وجاء في المسلسل أن السلطان محمد الفاتح عندما تولى السلطة قتل أخاه الرضيع حتى يأمن عدم تنافسه معه على الحكم.
قطعا لو ثبتت هذه التهمة فلا يمكن بأي حال من الأحوال الدفاع عن الرجل وتبرئة ساحته مهما كانت مبرراته، وعلينا الاعتراف بهذا الجرم وعدّه من السقطات الفادحة لسلطان عثماني، لكن بنظرة موضوعية للأمر، نقول إنه يلزمنا لإثبات هذه التهمة البشعة دليل وسند تاريخي. الملاحظ أنه لا يثبت لهذه الادعاء قدمٌ، ولن أستند لما استند إليه البعض في دفع هذه التهمة إلى كون السلطان محمد تلقى تربية إسلامية على يد العلماء وحفظ القرآن ونحو ذلك، لكن ما أود الإشارة إليه، أن خصوم العثمانيين قد نفوا ذلك، كما سبق أن ذكرنا شهادة المؤرخ الروسي كانتمير، الذي أكد على أن مراد الثاني عندما توفي كان جميع أبنائه – عدا محمد – قد توفوا، ومن ضمنهم الأمير أحمد الذي توفي عندما كان واليا في أماسيا، وهذا ينفي أمر قتل الأمير أحمد وهو رضيع.
بعض الروايات تقول إنه كان لمراد الثاني طفل صغير من زوجته خديجة خاتون، وقتل هذا الطفل بعد تولي محمد السلطنة، لكن بدون ذكر أي تفاصيل عن ظروف مقتله، فهل هذا كافٍ في إلصاق التهمة بالفاتح؟ وهذا ينقلنا بدوره إلى عدة تساؤلات يلقي بها العقل والمنطق:
هل يعقل أن يقدم السلطان على هذا العمل البشع بقتل رضيع، وهو مقبل على عمل عظيم (فتح القسطنطينية) يتطلب منه لم شمل الدولة وتعبئتها وراء هدفه؟ ألا يفرض المنطق أن يُرجئ هذا العمل ـ إن كان ينويه حقا- إلى ما بعد إنجاز هدفه، وتحقيق حلمه بفتح القسطنطينية؟ خاصة أنه طفل رضيع لن يُخشى جانبه لسنوات لاحقة. أليس الأولى بالسلطان تربية الرضيع على آرائه وكسب انتمائه وولائه بدلا من قتله في هذه السن؟
وهل يعقل أن السلطان المعروف بالحكمة والدهاء، يقتل الرضيع بتلك الطريقة الساذجة التي ذكرها خصومه في الاتهام؟ فهم يقولون إن أحد أتباعه اقتحم حمام النساء عندما كانت المربية تقوم بغسل الرضيع، فأمسك بالطفل وغطسه تحت الماء، فهل يعجز السلطان أن يجد طريقة أخرى لقتل الولد من دون إثارة البلبلة والشكوك؟
هذه الأسئلة تفرض نفسها وتؤكد براءة السلطان من التهمة طالما أنه لا دليل ينهض لإثباتها، ومن رواد القومية التركية الذين نفوا هذه التهمة عن السلطان محمد، الصحافي الأديب نامق كمال الذي كان لكتاباته أكبر الأثر على مصطفى كمال أتاتورك والأب الروحي له. ثم يطالعنا المسلسل بقانون قتل الإخوة، الذي سنّه الفاتح للحفاظ على النظام، ونظرًا لأن المسلسل موظفٌ سياسيًا، فقد تجاهل القائمون عليه ما ورد في الأرشيف العثماني تجاه هذا القانون وتكييفاته الفقهية، وتعلقه بضوابط وقيود معينة في تطبيقاته، بل تمت الإشارة إليه هكذا بدون تفصيل، بما يوحي بأنه يبيح قتل الإخوة مطلقا من أجل العرش. رغم أن بعض المستشرقين نفوا نسبة القانون للفاتح، إلا أن مؤرخا تركيا شهيرا على دراية واسعة بالتاريخ العثماني ولغته كالأستاد الدكتور أحمد آق كوندوز، أثبت بالأدلة في كتابه «الدولة العثمانية المجهولة» صحة نسبة القانون للفاتح، لكنه أوضح أن القانون مقيد بإيقاعه بحق من يعلن العصيان، ويحاول مغالبة السلطان بالسلاح للاستيلاء على الحكم، أو التعاون مع أعداء الدولة، وله مرتكز شرعي فقهي، وهو مسألة الخروج المسلح على الحاكم الشرعي ولو كان من إخوته.
وهذا ليس موجودا فقط في قانون الفاتح، فكل القوانين تعمل به، حتى القوانين التي وضعها أتاتورك وزمرته تنص بعض مواده على عقوبة الإعدام ضد كل من يحاول تجزئة تربة الوطن، والعمل ضد حياده، كما أن تهمة التواطؤ مع أي دولة أجنبية جريمة تستحق الإعدام في كل القوانين بتهمة الخيانة العظمى. فهذا القانون كان معالجة لإشكالية واقعية تتعلق بالصراعات بين الأبناء بعد وفاة السلطان، إلا أنه وإقرارًا بالحق، قد أخل بعض الحكام في العمل به، وقتلوا بالاشتباه والظن والوشاية وضلالات المفتين.
التاريخ العثماني ليس ملائكيا، وفيه من فترات الجور والظلم وإسالة الدماء ما به، لكن غير مقبول أن يُنسف كليةً بجميع مآثره وفضائله، ودفاعي عن الفاتح هو دفاع عن قيمة تاريخية وإسلامية كبيرة كغيره من الرموز، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
في الإثنين 25 نوفمبر-تشرين الثاني 2019 08:27:08 م