|
لا شك ان التوريث في اليمن مسألة متعلقة بثقافة الإنسان اليمني ومتأصلة في ثقافته المحلية وليست فقط نتاج حكم عائلي فرض سطوته وزرع ابناء العائلة الحاكمة في كل مفاصل الدولة المدنية والعسكرية..
ابن شيخ القبيلة في اليمن .. يصبح شيخا للقبيلة بالوراثة ، وقد يكون حتى عاجزا عن أحداث اي فعل سلمي او حضاري غير الشغب والقتل وعمل المتاريس وقيادة العصابات التخريبية، قد يكون ابن الشيخ حتى عاجزا عن سياسة ورعاية أمر نفسه فضلا عن سياسة ورعاية أفراد قبيلته ، وهاكذا سقطت قبائل كبيرة في اليمن ووهنت وكثرت فيها الحروب والثارات ، حتى أصبحت القبيلة والانتماء اليها عيبا بعد ان كانت فضيلة ، عندما سلمت القبيلة زمام أمورها وراثيا لمن لا يستطيع فعليا إدارة القبيلة كمكون اجتماعي والسير بها إلى بر الأمان ، والحفاظ على تقاليدها الراسخة المتمثلة في إغاثة الملهوف والإعانة على البر وحماية الأرض والعرض.. ودعم السلم الأهلي والاجتماعي..
وابن عالم الدين أصبح عالما عندما حمل اسم ابيه ويفتي في الحلال والحرام ، والكفر والايمان ويوزع صكوك الغفران ويتدخل في السياسة والاقتصاد ولا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب .. وربما في حقيقة الأمر يصعب عليه فك الخط فضلا عن فهم المقاصد الشرعية العليا وجلب المصالح للأمة بعد درء المفاسد عنها.. وبذلك تم إغلاق باب الاجتهاد والاعتماد على أراء فقهية حفظها هؤلاء الأبناء قادمة من القرن الثاني للهجرة لتحل لنا مشاكل العصر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ، وان كان ولا بد من العصرنة اجتزؤا بعض فثاوي أهل مصر او الحجاز او الشام وقالوا هذا هو الدين بدون تبصر في الزمان والمكان الذي هو احد اهم شروط الفتوى ودعائمها...
حتى الزاوية الصوفية والمعرفة بالله ، تم توريثها أيضا فأصبح ابن الصوفي صوفيا نتقرب به الى الله تعالى وربما هذا الوارث عن أبيه مقاليد الصوفية لا يفرق كثيرا بين الله الحق والعدل والنور والشيطان الظلم والظلال والطغيان.. وهكذا وبسهولة انحدرت الصوفية من مبادئها المتمثلة في التجرد من الدنيا وأحمالها والتوجه الى الله لتصبح مجموعة من الرقصات البهلوانية والمدائح التي تشبه الغزل أكثر منها شبها بالعبادة وأصبحت احد طبول الحاكم وأبواقه .. فضاع صفاء الروح بسبب التوريث..
النبوة نفسها في هذا الزمان.. تم حصرها و توريثها ، فأصبح الرسول صلى الله عليه وسلم بنبوته وعظمة شأنه – عند البعض - متاورثا دينا ودنيا في الائمة من أهل بيته من بعده – شرطا لا عرضا – وتم توريث العصمة والقدرة والفضل وكل شيء ، حتى الشفاعة وحوض الكوثر والصراط تم توزيعه بين الأبناء من نسله عليهم رضوان الله ، واشتبه الأمر وأصبح ثمن الحب التعبدي لبيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذو تبعات سياسية أيضا . وأصبح الدين عند البعض أمرا متوارثا عند أسرة محددة ينتقل في أصلاب أبناءها كابرا عن كابر..
وابن التاجر أصبح تاجرا.. فضعفت تجارتنا وتحول معظم تجارنا إلى أصحاب بقالان بعضها كبير وبعضها صغير، حتى مغتربينا في الخارج يذهبون ليفتحوا بقالات وأصبح اسما يشاع عن اليمني في الخليج بأنه ابو بقاله... وكلها تبيع السجائر والماء .. وغابت المشاريع التجارية العملاقة والمؤسسات المالية الضخمة التي بإمكانها رفد اقتصاد البلاد الا ما ندر.
ما ذكرته من ثقافة التوريث أعلاه تم في المجتمع اليمني البسيط الذي لم تكن تشكل له الحكومة او الإدارة أملا او هاجسا.. وعندما جاءت الحكومة وجاءت المؤسسات لم يكن هناك غرابة ولا استهجان ان يصبح ابن القاضي قاضيا ، وابن الوزير وزيرا وابن قائد المعسكر قائد معسكر وابن البواب بواب .. وابن الشارع ظل ابن شارع أيضا وابن المهمش ظل مهمشا ، وكتحصيل حاصل ومن باب احترام العادات والتقاليد أرادوا ان يصبح ابن الرئيس رئيسا..
هذا كان الاختلاف الثقافي الجوهري بين الشمال والجنوب قبل الوحدة ، الذي لم يتنبه له الجنوبيون في وقتها اما لعدم دراستهم العميقة لأوضاع الشمال وبنيته الاجتماعية او لاعتمادهم على الديمقراطية كركيزة للحكم في اليمن الموحد الذي قبلوا ان يكونوا طرفا مشاركا فيه او لشيء في نفس يعقوب لا نعرفه الآن..وكانت أول مؤشرات بقاء التوريث كثقافة بعد الوحدة في الأمن المركزي ، فبعد وفاة المرحوم محمد عبدالله صالح تم وضع ابنه يحي بدلا عنه وبشكل طبيعي وعادي ، لم يعترض احد ، لا المفتي ولا شيخ القبيلة ولا حتى رئيس الحزب لان الأمر عادي وطبيعي ، وهم بالأصل مجهزون أبناءهم لنفس الموضوع وبنفس الطريقة وبمباركة الجميع ، لقد تعرض الجنوبيين لصدمة ثقافية.. واستطيع ان أتفهم صدمتهم ، خصوصا ان الجنوب كانت قد اختفت فيه هذه الثقافة البالية وأصبح جيل كامل "الشريك في الوحدة" قادم من أباء عاديين – فلاحيين او صناعيين او موظفين بسطاء – فلا احد يستطيع معرفة من هو والد العطاس مثلا او هيثم او غيرهم.. الا ما ندر..
ولعلاج القضية وهذا الاختلال الثقافي بين شركاء الوحدة تم فرض ثقافة التوريث على الجنوب أيضا ، فتم النفخ في قبور الموتى وبعث ابناء الرؤساء وأبناء السلاطين وأبناء الشيخ وحتى أبناء مشايخ الدين والصوفاء السابقين وتقريبهم حتى يتماشوا مع ثقافة التوريث السائدة في المحافظات الشمالية ، والأسماء معروفة ومشهورة أمام الجميع ولا تخفى على احد.
محاولات النظام البائد في اليمن فرض التوريث في الرئاسة والجيش لم يكن الا محصلة ثقافة محلية وشعبيه سائدة ، وما لم يتم تجفيف منابع هذه الثقافة ووضع الضوابط والاليات والقوانين التي تمنع حدوث اية عملية توريث ضمن المؤسسات المدنية والعسكرية الا بتدخل قانوني في المستقبل ، فلن يتحقق أهم المبادئ التي قامت من اجلها الثورة وهي إسقاط مبدأ التوريث في الوظيفة العامة في الجمهورية اليمنية.
بإمكاننا اضافة مادة الى الدستور اليمني المزمع كتابته بأن لا يشغل قريبين "من اسرة واحدة" وظيفتين عامتين الا بعد صدور فتوى من المحكمة الدستورية العليا وموافقة مجلس الشعب عليها ، بإمكاننا حصر هذا التحريم في الوظائف العامة المؤثرة التي تبدأ مثلا من مرتبة مدير عام وما فوق ، والتحريم القطعي لتولي احد الاقرباء مناصب محددة كالرئاسة او النواب او القضاء بعد وفاة قريبه الا بمضي مدة محددة تحدد بقانون كعشر سنوات مثلا.
وفي المجال الاجتماعي ينبغي ان ترفض الدولة التعامل معي اي شيخ قبيلة لا يأتي ضمن الية توافق واضحة داخل القبيلة (انتخاب مثلا) وهذا الحل سوف يؤدي في الحقيقة الى تحديث القبيلة وتحويلها من مؤسسة لتفريخ الموت والجهل والعنصرية ، إلى مؤسسة لحفظ الأمن وبناء المجتمع والحفاظ على عاداته وتقاليده وعمقه الحضاري ، ولا بد من منع التوريث في مجال العلم الشرعي وفي مجال العلم الدنيوي عن طريق خلق آليات وشروط وتصانيف للعلماء والمجتهدين و الدعاة .
التوريث في اليمن يا شباب ليس مجرد فكرة نظام منحل ، بل هو ثقافة مجتمعية وقد يطل علينا براسه من جديد في وقت ربما غير بعيد.
في الخميس 15 مارس - آذار 2012 06:11:11 م