غزة و الثور الأبيض
بقلم/ محمد يحيى محمد الكبسي
نشر منذ: 15 سنة و 10 أشهر و 16 يوماً
الأحد 28 ديسمبر-كانون الأول 2008 10:34 ص

مأرب برس – خاص

دخل الحكيم على الملك الهمام ، وبعد إلقائه للسلام ، بدأ الملك في الكلام : أما ترى هذه الأمة وما صارت عليه من الغمة ولم يظهر فيها رجل ذو همة.

يختلف فيها الصالح مع الصالح ،ويمكر فيها الفاسد بالفالح، وما عادت تفرق بين الفرات والمالح.

وها هي دموع غزة، أرض الياسين ومِنبات العزة، ما هزت قلوب جيرانها أدنى هزة. تنادي وامعتصماه وتنوح، أطفئوا محرقة في الطرق والحقول والسفوح.

يقول جارهم ألم نقل قد أعذر من أنذر، فقد حذرنا ولكن الندامة جزاء من لم يحذر، فلتذوقوها لا تبقي ولا تذر.

لكن ما أجمل من عليه ردَّ ، إذا لم تكن لأهل الحق سند، فاصمت فكيف يرى النورَ الرَمِد، فالموت كان لنا يُعد، بمرض دون دواء، أو جوع يحرق الأحشاء، أو غارة في ليلة ظلماء.

 لكن لا عجب ممن باع نفسه بلا ثمن، وأصبح عند صهيون هو الناطق والمؤتمن. فهمه في الدنيا بين فَرج وشراب، وآماله كذاك إلى سراب.

فاللحن يفضح تبسمه بقتل الناس، ولو قال إنه من حزنه عبّاس، ألم يهدد ويوعد ويرعد كالنسناس، وعند الفرحة لو قال مُبارك، فمقصده هي لك يا بَارك. فاقتل من شئت وبُث الهلاك. ومع هذا قد يزعم أنه عبداللهِ، وهو عن نصرة الحق لاهي، وهمه ملكه والجاهِ.

ومن العبرة في مثل هذا الحدث قصة أسد وثور حزين فمن يخبرني فيها بالنبأ اليقين.

قال الحكيم: كان في ما كان في خالف العصر والأوان في ما حكاه هذا الزمان.

أن ثلاثة من الثيران القوية القرون والأبدان تعيش في هذا العنوان.

(غابة السباع والهوام) وكانت تحيا في وئام وسلام.

وعلى الرغم من كثرة الأعداء فوحدتهم كانت هي الدواء وأخوتهم صارت لغيرهم حداء. فبها ثم بقرونهم القوية وعضلاتهم الفتية ردت كل من له أمنية.

فاشتكت السباع إلى الملك المطاع الأسد المحنك الشجاع.

فقام الذئب باكيا ومن حظه العاثر شاكيا ولمشكلته حاكيا: هذه الثيران حولنا تحوم، ولا نشبع من هذه اللحوم، وتجلب رؤيتها لنا الهموم والغموم.

وبكى النمر المنقط :مالنا إليها من سبيل قط إلا الأماني والأحلام فقط.فلحمها أبعد من نجم السماء وأكثر استحالة من طاير العنقاء،وهذا واضح لا لبس فيه ولا خفاء.

فتبسم الثعلب وقال:الجواب في أصدق مقال،أخوتهم صيرتهم صعب المنال.فمن أراد لحمها أصاب قرنها، ومن تمنى قضمها نال رفسها.

وأنا عندي الحل الرشيد ،من يفرقهم ينل العيش الرغيد ولا يعدم من اللحم المزيد.

فقال الأسد أصبت يا أبن الثعلبان، وانتم فارقوني فقد واليت الثيران وأعلنت ميلي إلي لحوم الطير السمان وموعدنا ولو بعد قرن ونيف وأظن أن أكلهم في هذا الصيف أن صدق حدسي ولا تسألوني كيف.

الراوي :وجاء الأسد إلي الثيران فتصدى له الثور الأبيض :ماذا تريد يا ملك الغابة ؟ إن ترد لحمنا وغلبتك الصبابة ! فأعلنها ونازل بلا خلابة !

وتبسم الأسد وقال :معاذ الله يا أخواني فقد أعجبني ما انتم عليه من البذل والتفاني .فأردت بذل الود والإحسان.

وهذه دعوة ابذلها بلا صلف، لنترك ما قد سلف ،ونبني بيننا ما قد تلف ،ونحمد الله علي النعمة ،فليس من الحكمة ،ولا من المصلحة الملمة ،أن نعيش في جهاد بعضنا ،وان نفرق معشر الحيوان من جمعنا. فقد رأيت عدونا الإنسان، يتربص بنا الزمان ولا يترك لنا راحة ولا أمان، ونحن بعد لم نفق، فتعالوا نصلح مابيننا ونتفق وبعهدنا نثق.

فقال الأصفر بنية نقية:فاظهر بنود الاتفاقية، بصورة واضحة جلية. تزيل كل غبش وشبهة، فأرى أن لكل واحد منا طبعه.

فأعلن الأسد :أنا من عندي ارغب عن لحوم الثيران،فأنا أكره أذية الإخوان ، ولا تستسيغها البطن مني ولا الأسنان ،إلا لحوم ما تغطية الريش ،فبها أحيا وأعيش وان قلت لا فذاك تغشيش.

فسالت دموع الثيران، من كلام الأسد المشبع بالحنان، وتبادلوا فيما بينهم التهاني ، واقسموا له بالمحبة ،ونسيان ما كان من مغبة ، واعتبار ما كان من عداوة مسبة .وقاسمهم إني لكم لمن الناصحين وعلي علاقتنا لمن الحافظين ،ونعيش فيما بيننا آمنين .

الراوي :وهكذا مرت الأيام والأسد تراوده الأحلام، بقرب ما يتمنى ونيل ما به يتهنى.

وفي ذات يوم اختلف الأبيض مع أخويه وقال:دعونا نخرج إلي مكان آخر، فالمزن هناك أمطر والعشب هنا أندر .فرد الأحمر نحن هنا في سعه فلاتك في مقه وكن بالله علي ثقة .

فترنم الأصفر :هب جنة الخلد اليمن & لاشى يعدل الوطن

فغضب الأبيض :هكذا دائما تريدون مخالفتي، ولا تنفكون عن معاتبتي فانا لكم مفارق ،ولحوض غيركم طارق، حيث العشب والماء رائق .

فتبسم الثوران:بعد قليل سيعود،فليس من عادته الجحود، وكما قيل لاينفك عن أصله العود. فصاح الأسد : واعجبًا إلى من أساء إلي إخوانه، مع ما هم عليه من إحسانه ، ولم يعملوا علي امتهانه . أما يكفيه أنه لنا مشكلة ،ولونه الأبيض لنا معضلة. يدل كل عدو علينا، ويظهرنا لكل من بعد أو دنا إلينا ، وهذا هو الحق شئنا أم أبينا .

فحركتنا محدودة،وأبصارنا مشدودة .ولولاه لما عرفنا أحد، ولم يلمحنا الأدنى والأبعد.

فرد الأصفر :هذا صحيح ولكن لابد من الصبر، فترك الإخوان من المكر ، ومفارقتهم موصلة للقبر.

فقال الأحمر : ولكنه أتعبنا كثيرا، ومشاكله تثير لنا تكديرا ، ولن نقبل منه الآن تبريرا .

فأحيانا يخاصم بلا سبب، ونقاتل معه بلا أرب، وهكذا هو مع من هب ودب.اتُهمنا بالغلو والتطرف، ومن آخرين بالرجعية والتخلف، و بعد هذا نتعامل معه بالحب والتلطف.

 وتبسم الأسد وقال في نفسه:الآن أدركني الوطر، وأرداه البطر وقرب الخطر .

ثم قال ما رأيكم لو أدبناه، ونال بعض ما تمناه. بحيلة كحيلة أخوة يوسف، نلقيه في بئر كما تعسف، فيأتي بعدها يتأسف. و مهما صاح وزاد فلا تجيبوه ولو أعاد، وهذا جزاء من عن الصواب حاد.فاتفقوا على رميه في البير، فيأخذه راعي العير، فيعمل في الحرث مع النكير، ويعلمه الأدب، ويذوق منه العطب، فيرجع بعدها بلا عتب.

الراوي:ثم اختلى الأسد بالسباع أصحابه، و دلهم علي مكان البئر وأوصافه.

وقال خذوا الثور فكلوه ولا تنسوا نصيبي فاحفظوه. ومن هذه القصة درس فعوه.

الراوي:وبعد فترة انتظار لم يرجع الأبيض ولا حار، ولم ير في الغابة ولا في الجوار.

فزفر الأصفر؛ آه لقد افتقدنا الأبيضَ، أعجبته عيشة الفلاح أم عليها قد تريضَ، و للراحة وجد من له بها قيضَ.

فنهره الأسد:مالك دوما تذكره، فهو لم يفارقه بعد تضجره، وإن كنت محبا له فلا تَكفره.

فالحق به وسر معه، فالحقل أمامك يا إمعة، وفي الأرض كما قيل سعه.

فقال الأصفر:عشنا في سعادة وهنا، حتى حللت بيننا، فحل بيننا العنا والضنى.

فقال الأحمر ساخرا: تقول رأيا غير سديد، وتعيش بيننا في تنكيد، وعهدي بك تلقب بالرعديد. فهذا ملك الغابة المطاع ورأيه بيننا يطاع، لا يُشترى في وده ولا يباع.

الراوي:فانصرف الأصفر وهو من الأسد على تغيضِ، وبدأ يبحث عن الثور الأبيضِ:

فقال الأسد للثور الأحمر:أنا وأنت سواء فبشرتنا حمراء، وتخفينا ليس فيه عناء، بينما هو أصفر اللون ويلفت حدقة العين ،وهذا عندي شديد البون، فلو أرتحنا منه عشنا آمنَين ،إلا أن يرجعا إلينا تائبَين ، وأنا وأنت وودنا روحان حللنا بدنا ، ونعيش دوما في هَنا، وإنما الفرق في أن صوتي زئير وصوتك خوار وهذا لا يضير ، فأني قد يصيبني التغيير ، فأخور وينالني الفضل الكبير .

فشاركه الأحمر وقال عن الأصفر:وهو مع هذا الكلام لم يبق لنا في الغابة احترام، فهو لا يأخذ بقوانين الغابة كما يجب، ولا عقل عنده ولا ندرى بما نُجب ، والولاء و البراء عنده ليس كما نحب ، رمينا بالتساهل وإتباع الهوى ، وعن لوائح الغابة بالنوى ،وأخيرا عن طاعة الوالي قد غوى .

وقال الأسد :فلو يفارقنا عشنا في سعادة ، و ظفرنا في الغابة بالسيادة ، وأصبحت لي ولك القيادة .

 فوافقه الأحمر :دونك به فافعل ما تذكر ، وأنا أطيع لما تأمر ، وإن ترحني من خواره فأنا اشكر ، ويكفيني مجالسة الأسد ، وليس في محله مسد ومن فارقنا ليس له مرد .

الراوي :وهكذا ألحق الأصفر بالأبيض وبعدها بفينة قصيرة :

جاع الأسد وإلى الأحمر نظر ، وقال لي فيك بعض وطر ، وهذا في نفسي قد خطر .

فقال الثور الأحمر :ما علي هذا اتفقنا ، وسرت بعدك وأخوتي ما انتظرنا ، ورميت بالغلو والتطرف ، أو التساهل والتخلف ، وأتباع الهوى وعن الحق بالنوى .

ولكن قد يعيد التاريخ قصه ، وهي لكل من ترك إخوانه غصة ، ولابد أن تأتيه منها حصة .

فزار الأسد وقال:يا اغفل من جال، من ترك إخوانه لا أصلح الله له الحال، أتمن علي أن أبقيتك أياما ، تحرمني الراحة وارى الغابة نياما ،فنجاتك من أنيابي اعلمها أحلاما ، ولن يزعجني بعد خوارك فأنت في قلبي الأبغض !فصاح ثورنا أكلت يوم أكل الثور الأبيض .