|
تراجعت نسبة الجريمة في تونس خلال شهر آذار/مارس الماضي بنسبة 23 في المائة بالمقارنة مع نفس الشهر من العام الماضي، ووفق الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية فإنه رغم فرض حظر التجوال وإقرار الحجر الصحي وما يتطلبه ذلك من جهود إضافية من قوات الأمن الداخلي إلا أن عمل هذه الوحدات لم ينقطع في مقاومة الجريمة بكافة أنواعها.
وإذا كان عادة ما يقال إن الشياطين مغلولة خلال شهر رمضان المبارك الذي نحن على أبوابه، فإن عددا كبيرا من المجرمين والمنحرفين باتوا خلال حظر التجوال والحجر الصحي أكثر انكشافا وأقل قدرة على المراوغة والاختفاء.
لا توجد حتى الآن أرقام محددة عن انخفاض مماثل للجريمة في دول عربية أخرى، على الأقل وفق تصريحات رسمية، لكن هذه الظاهرة بدت جلية في أكثر من مدينة وبلد حول العالم. لقد جاء في تقرير لــ«يورونيوز» أن عمليات ضبط المخدرات في مدينة شيكاغو مثلا المصنفة الأكثر عنفا في الولايات المتحدة تراجعت بنسبة 42 في المئة خلال الأسابيع التي تلت إغلاق المدينة، أما أمريكا اللاتينية، فقد انخفضت معدلات الجريمة فيها إلى مستويات غير مسبوقة منذ عقود، ففي السلفادور مثلا، وبعدما كان يُبلغ عن 600 قتيل يوميا قبل بضع سنوات، هوى الرقم إلى متوسط قتيلين فقط الشهر الماضي، أما في جنوب أفريقيا، فقد أعلنت الشرطة انخفاضا مذهلا للجرائم خلال الأسبوع الأول من الإغلاق من ذلك مثلا أن حالات الاغتصاب انخفضت من 700 إلى 101 جريمة مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي.
من المفترض أن تكون الظاهرة نفسها في دولنا العربية رغم أن «وقاحة» بعض المجرمين في تونس مثلا لم تظهر في استمرار عمليات سرقة أو اعتداء بالعنف وإنما في ما هو أخطر بكثير. في هذه الأيام العصيبة التي تواجه فيها البلاد وضعا غير مسبوق بإمكانات محدودة وبتجند قسم كبير من الدولة والكثير من منظمات المجتمع المدني، ورغم الكثير من مبادرات التطوع المشرفة لتوفير كمامات مثلا أو مساعدة العائلات الفقيرة بمدها بحاجياتها الغذائية الأساسية في بيتها وما صاحب ذلك من مظاهر تكافل اجتماعي مؤثرة، فإن بعض المجرمين لم يستطيعوا حتى تعليق إجرامهم لفترة فواصلوه في أحلك ظرف تمر به بلادهم.
بين الفترة والأخرى، تعلن الأجهزة الأمنية عن توقيف شاحنة في عملية تهريب كبيرة للأدوية أو عن مداهمة لمستودع خصصه أحد التجار المحتكرين لتخزين مواد غذائية حتى يستطيع بيعها لاحقا بأضعاف أضعاف سعرها المعتاد، ما حدا بالرئيس قيس سعيّد لوصف هذه الفئة من المحتكرين بــ«مجرمي حرب»، كما أن «الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد» أصبحت مجنّدة بالكامل لكشف عديد حالات الفساد والاحتكار وإصدار بيانات دائمة عن كل ما تفضحه، كما طالبت جميع المواطنين، مع توفير الحماية القانونية لهم، الإبلاغ عن حالات الاحتكار ورفع الأسعار وغيرها والتي وصلت حد استحواذ بعض المسؤولين المحليين على المساعدات التي أئتمنوا على إيصالها إلى العائلات الفقيرة.!!
في كل الأزمات الكبرى يخرج من المجتمعات أجمل ما فيها وأبشع ما فيها كذلك. ومثلما يجب تحية الكادر الطبي وشبه الطبي والعاملين في المستشفيات جميعا على ما يبذلونه من روح بذل وعطاء، وكذلك رجال الشرطة والجيش ومختلف الأجهزة الأمنية على يقظتهم الدائمة والعمل على أكثر من جبهة، وأيضا كل الشباب المتطوع وأصحاب المبادرات الخيّرة في الأحياء والقرى والمدن، يجب أيضا معاقبة المتلاعبين بقوت الناس وأرزاقهم، مصّاصي الدماء هؤلاء، بلا شفقة ولا رحمة.
لن نصل إلى ما فعله الرئيس العراقي الراحل صدام حسين من إعدام المتاجرين بالعملة في السوق السوداء سنوات الحصار الرهيبة لبلاده طوال تسعينيات القرن الماضي وإلى غاية سقوط نظامه في 2003، ولكن لا بد من معاقبة هؤلاء بأقسى ما في القانون من أحكام حتى يكونوا عبرة لمن يعتبر.
تونس الآن أمام فرصة تاريخية قد لا تتكرر، فمن رحم المعاناة الحالية في التصدي للوباء يمكن أن تتولّد الكثير من الإيجابيات: مع إقفال الحدود البرية والحرية والجوية، انقطع حبل الحياة لكثير من عصابات التهريب وما يعرف ب»التجارة الموازية» التي تغولت طوال السنوات الماضية، أقفلت تلك الأسواق التي كانت تروج للبضاعة المهربة وأصبح بالامكان إيقاف وتفتيش كل الشاحنات التي تتسلل ليلا وتعتمد الرشوة للمرور والنجاة وغير ذلك كثير. إنها فرصة العمر أمام الحكومة التونسية، خاصة مع التفويض الذي حصل عليه رئيسها مؤخرا لإصدار مراسيم دون العودة إلى البرلمان في كل ما يتصل بمكافحة الوباء، لإعادة الاعتبار للقانون والقضاء على مافيات الفساد في تونس التي يتحدث عنها الجميع دونما جرأة للقضاء عليها بلا انتقائية ولا حسابات سياسية.
لا بد من استغلال كامل لهذه الفرصة لاستعادة هيبة القانون وفرضه في كل المجالات، لأن تونس إن لم تفعل الآن فلن تفعل أبدا. قد يعود هؤلاء المجرمون بعد الأزمة وقد ازدادوا إجراما لتعويض ما فاتهم… رجاء لا ترحموهم و تتركوهم يفلتون!!
في الأربعاء 15 إبريل-نيسان 2020 06:45:43 م