أمة عرفت طريقها
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: 16 سنة و 8 أشهر
الأحد 09 مارس - آذار 2008 06:12 م

مأرب برس - خاص

جربت أمتنا طوال هذا القرن والذي قبله، جملة من المشاريع التحررية والفكرية والسياسية، وللأسف أن هذه المشاريع كلها كانت فاشلة، في بلدانها وأوطانها، وحين حاول التلاميذ غير النجباء نقل هذه المشاريع الكاسدة إلى مجتمعاتنا، لم تجن منها أمتنا سوى الخيبة والحسرة والذل والخنوع والكساد والاستعمار، وكما قال القائل:

ومن يكن الغراب له دليلا ... يمر به على جيف الكلاب .

بيد أن القارئ والناظر للخارطة الإسلامية الجديدة من المحيط إلى المحيط في الوضع الراهن، يجد أن الصورة لم تعد على النحو السابق، وأن ثمة مستجدات وتحولات كبيرة طرأت على الساحة الإسلامية، في غضون هذا العقد، وأن ثمة عوامل ومؤثرات جديدة بدأت تظهر وتتشكل بقوة متزنة ومعتدلة وغير متطرفة في المحيط الإسلامي، ليس فقط على مستوى النخب السياسية والإسلامية والوطنية، بل حتى على مستوى الشارع الإسلامي، وثقافة الرجل العادي، من أبرز هذه العوامل:

1) عامل المقاومة الشاملة، فيما مضى كانت الأمة مفتوحة الذراعين والصدر والثغر .. لكل ما هبّ ودب من أفكار وثقافات وفن ومنتجات وبضائع وسلع غربية ..الخ، وأيما فكرة كسدت في بني قومها، أعيد تعليبها وإنتاجها وتصديرها إلى الشعوب الإسلامية، وطبل لها المستغربون، لقد تغير الوضع الآن تماما فيما يرى الرائي الحكيم، فهاهي الأمة كلها تنادي بالمقاطعة الشاملة، للمنتجات الأمريكية والدنمركية، وهذا مؤشر لمقاطعة شاملة بدأت الأمة تنهجها، حتى على مستوى الصحف والفضائيات الموجهة ضد أمتنا وثقافتها ودينها، ورأينا دولا وحكومات تعلن مبدأ المقاطعة الشاملة، بدأها السودان حين أعلن من أول يوم اعتلت فيه ثورة الإنقاذ سدة الحكم، ورفعت شعار نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع، وها هي السودان فعلا تأكل مما تزرع وتلبس مما تصنع، بل وأضحت تصدر لأمتها وللعالم القمح والدقيق والسكر والأرز، وصناعة المعدات والأسلحة، كل ذلك في غضون أقل من عشر سنوات، وهاهو الرئيس السوداني الصامد، يعلن مقاطعة البضائع الدنمركية والأميركية، ويعلن أن السودان لن تستقبل دنمركيا واحداً، ولن تطأ قدمه أرض السودان، بعد أن أقدمت الدنمارك على جريمتها الشنعاء، في النيل من خير البشرية محمد صلى الله عليه وسلم، وهاهي دول أخرى إسلامية تنهج ذات الطريق المبارك كدولة ماليزيا وإيران وتركيا.. وباتت ثقافة المقاطعة الشاملة والاعتماد على الذات ثقافة إسلامية شعبية عارمة .

2) عامل النضال والتحدي والصمود وتقديم الدم القاني، برائحة المسك والعنبر، على كل مشاريع الخنوع والذل والاستسلام والمفاوضات غير المجدية، والتي جربتها أمتنا طوال قرن مضى، فأضحى الشارع الإسلامي يهزأ بما يسمى بمشاريع السلام والمفاوضات العربية الإسرائيلية، وبات أمرا مفروغا منه، بعد أن رفضت إسرائيل كل المبادرات العربية، وضربت بها عرض الحائط، وزادت من عربدتها، وتيقن لكل ذي عينين أن الحل القسّامي هو أفضل وأنجع وأحلى وأجمل وأسرع الحلول، لقد رأته الأمة في حرب الأيام الخمسة، وكيف أن المقاومة الفلسطينية المباركة بكل فصائلها هي التي تصدت للدبابات الإسرائيلية، وجعلتها تنسحب مولية الأدبار، نعم المقاومة القسامية وأخواتها هي التي تصدت، وليست المفاوضات العربية، وتكررت الصورة المباركة فيما سبق في لبنان وحزب الله، وهو ذات النهج المبارك في العراق والصومال وأفغانستان، وهاهي المقاومة المباركة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها .

أعتقد أن هذا النهج وإن تظاهرت بعض دولنا العربية برفضه ومقاومته، نتيجة الإرهاب الأميركي والصهيوني، لكن في قرارة الضمير العربي ومستقر النفس وجدت بعض الأنظمة العربية نفسها تباركه، وربما تدعمه في جنح الظلام، لأنه لا حل سواه، ولا بديل إلا إياه، وإلا سقطت كل العروش والكراسي العربية، كما هو المخطط الصهيوأميركي المعلن عنه .

 بل أزيد القارئ الكريم من الشعر بيتاً فأقول: أن هذا النضال العربي المبارك في صورته الوضاءة على صعيد فلسطين ولبنان والعراق، يبدوا أنه أفضل بكثير من كل الجيوش السبعة أو قل كل الجيوش العربية مجتمعة، لأن هذه الجيوش مع حبنا لها وثقتنا بقدراتها وإمكانياتها وحسن تدريبها وإعدادها، إلا أنها قد لا تصمد أمام الأسلحة المتطورة والنووية، بخلاف النضال على غرار صواريخ القسام وإخوانه التي أعجزت كل تكنولوجيا أمريكا وإسرائيل عن مواجهتها، أو التصدي لها .

 على أن هذا لا يعفي بالطبع الجيوش العربية من مهامها ومسؤولياتها في الدفاع عن أمتها وأرضها ومقدساتها، بل يبقى عليها الواجب قائماً ومتعيناً، لكن يظهر أن الصواريخ القسامية أكثر فاعلية وأسرع نصرا، سيما لو وجدت لها شيئا من الدعم العربي والإسلامي، إعلاميا وسياسيا واقتصادياً .

 ومن يأمن الدهر الخئون فإنني ... برأي الذي لا يأمن الدهر أقتدي 

 وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخرا يكون كصالح الأعمال .

3) العامل الثالث الذي طرأ على ساحتنا الإسلامية المعاصرة هو عامل الوحدة الإسلامية، ذلك أن الوحدة الإسلامية متحققة شعوريا ووجدانيا، في أمتنا من المحيط إلى المحيط، وإن حال دونها أذناب الغرب وسدنة القرار العربي غير الحر، لكنها متحققة بين أحرار فتح وحماس وبين عقلاء السنة والشيعة، وبين حكماء المؤتمر الشعبي العام وحزب الإصلاح اليمني، وبين الشعب الليبي والخليجي والسوري والمصري، وإن حالت دون ذلك أيادي العمالة العربية، لقد تعانقت أعلام فتح وحماس في أيام الحرب الخمسة، ورأينا كيف التقت أعلام حماس وفتح في فلسطين ولبنان، ورأينا الأعلام الإصلاحية والمؤتمرية تجوب شوارع صنعاء في مظاهرات النصرة والمؤازرة لغزة وفلسطين، ورأينا الشعب الجزائري والخليجي والليبي والمصري واللبناني، كالجسد الواحد الكل يقف مع غزة وأهلها بالدم والدعاء والمال، بل الكثير لم ينم ليله ساهراً داعياً خاشعاً متضرعاً إلى الله بالنصر والرحمة والسداد، فأي وحدة شعورية وقلبية أعظم من هذه الوحدة المباركة .

 تلكم هي أهم ما يمكن قراءته من تحولات في الثقافة العربية والإسلامية، وهي تحولات وعوامل تبشر بنصر وفرج من الله قريب، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ }البقرة214 .

 والحمد لله رب العالمين .

Moafa12@hotmail.com