|
" إنني أحلم أن يستطيع أبناء العبيد السابقين وأبناء مالكي العبيد السابقين، يوما ما، الجلوس معاً إلى مائدة الأخوة على تلال جورجيا الحمراء" مارتن لوثر كينج الابن 1963
السحر الحقيقي في فوز باراك أوباما، لم يكن سوى: أن حلم الدكتور مارتن لوثر كينج تحقق به بعد حوالي أربعة عقود ونيف من تحقيق "كينج" نفسه لحلم السود الاستراتيجي الإنساني الأول، بتحريرهم من التمييز العنصري ومساواتهم بالحقوق السياسية مع البيض.
في (1965م) أثمر نضال الدكتور ذو البشرة السوداء بصدور قانون حقوق الانتخاب الذي ساوى بين البيض والسود في الحقوق السياسية.. ومنذ ذلك الحين كان الرجل الأمريكي ذو البشرة السوداء يدلي بصوته في الانتخابات، لكن أحداً منهم لم يكن يجرؤ على التفكير بالترشح لمنصب سياسي عال مثل عضوية الكونجرس الفدرالي، غير أن أوباما استطاع في عام 2005 أن يكون هو ذلك السيناتور الأسود في كونجرس اعتاد أن يكون بلون واحد.
هناك في واشنطن، وفي أعلى الدرج العريضة الموصلة إلى نصب أبراهام لنكولن (الرئيس الأمريكي الذي دافع عن حقوق السود) وقفت بنا المرشدة السياحية الشابة ذات الأصل الفلسطيني على بلاطة من الرخام ضخمة، ثم أشارت إلى أرض تلك البلاطة وقد نحتت عليها العبارة الشهيرة لـ"كنج" ( I have a dream ). وقالت وهي تخاطبنا: يقال إن الدكتور"مارتن لوثر كنج" وقف هنا ليخطب بأنصاره (200،000 شخص) وقال عبارته الشهيرة تلك.
اليوم وبعد أكثر من (43 عاما) قطف السيناتور الأمريكي الأسود "أوباما" ثمرة تلك النضالات ليحقق الحلم الكبير الذي وعد المناضل الأول للسود أنه سيتحقق ذات يوم. ففي الرابع من هذا الشهر، جسدت أمريكا مبادئها الديمقراطية على أرض الواقع بعد أن ظلت – على مدى أربعين عاما ونيف - مجرد حبر أسود على ورق أبيض في القانون الأمريكي.
بهذا الفوز التاريخي يكون الجزء المهم من سيناريو درامي ساحر، عاطفي ومؤثر، قد اكتمل، فيما سيتوجب على منتجي الأفلام الأمريكية في هوليود، الانتظار ربما لأربعة أعوام أخرى، للبدء في إنتاج فيلم أمريكي ممتاز خلال المرحلة القادمة.
بين القيمة الإنسانية والسياسة البحتة:
ربما كان فوز رجل أسود بمنصب رئيس الولايات المتحدة، أمراً مؤثراً على مستوى العالم، من حيث كونه مستثيراً لتجسيد معنى الإنسانية. وربما زاد من قوة تأثيره، السيرة الذاتية للرجل.. غير أن هناك من ينظر إلى الأمر من زوايا أخرى سياسية. ويرجع هؤلاء ذلك الفوز لعوامل سياسية بحتة لا ترتبط بالقيمة الإنسانية، الأمر الذي يمكنهم من النظر إلى المستقبل من الزاوية ذاتها حين يتوقعون ما ستكون عليه أمريكا خلال الفترة القادمة.
وهناك نظرة ثالثة تجسدها شعوب العالم الثالث ترتبط بالفعل الديمقراطي التغييري (الإيجابي) مقارنة بالديمقراطيات التي عليها بلدانهم. ومن بين هؤلاء أيضاً من يعتقد أن مثل هذا الفوز ستصل أمواجه العاتية لتطال معنى الديمقراطية في العالم الذي نعيشه، وبالأخص ديمقراطية الشرق الأوسط. حيث أنه سيعمل – من وجهة نظر هؤلاء - على استثارة الهمم الشعبية للوصول إلى تغيير الواقع السلبي في مجتمعاتنا الديمقراطية الناشئة. وبالنسبة للمستقبل السياسي والحقوقي، فإن نسبة كبيرة من هؤلاء لديهم قناعة أن الرجل الذي ناصروه من بعيد وشاركوه قلق الانتخابات، سيكون المخلص العظيم الذي سيعمل على تغيير العالم إلى الأفضل، مستمدين ذلك من خطاباته الانتخابية التي اعتمدت على الحوار والاعتدال في الرؤية. على أن نسبة أقل من بينهم، يفضلون فصل القيمة الإنسانية الآنية للفوز،عن القيم السياسية لما ستؤول إليه السياسة اللاحقة للرجل. يرى هؤلاء أن الفوز بحد ذاته تجسيد للقيم الديمقراطية الحقيقية وانقلاب على الواقع التاريخي الأمريكي. مع أنهم في الجانب الآخر يؤمنون أن السياسة في واشنطن مرسومة سلفاً ومرتبطة بمصلحة أمريكا، وأمنها القومي مقدم على كل شيء.
لكل خلفياته لما يؤمن به:
لكل قسم ممن سبق مرجعياته التي يستند عليها. فقد نستطيع القول أن تلك الاختلافات مبعثها الأول الخلفيات التي يقف عليها كل طرف. فالذين يؤمنون بتغيير العالم إلى الأفضل هم غالبية الشعوب المظلومة في مساحاتها الجغرافية، الذين يحلمون بقيم الديمقراطية كمغير أساسي لتطلعاتهم نحو أنظمة عادلة تتجسد فيها كلمتهم ورغباتهم. غير أن أحلامهم صعبة المنال بسبب قوة السلطة التي تعمل على تغذيتها بإضعاف قوة سلطتهم كشعوب. القانون هنا يضعه الأقوياء حفاظاً على مصالحهم، بينما يكون الإنسان هو آخر متغير يمكن النظر إليه في منظومة تلك القوانين، وإن صيغت القوانين لمصلحة الإنسان، فتجسيدها على أرض الواقع لا يكون إلا لمصلحة المتسلطين عليه. لقد انعكس ذلك الواقع الذي تقف عليه الشعوب في هذه البلدان، كعقدة نقص برزت بقوة كقيمة مستحثة، عقب تجسدها واقعياً في ذلك الأمريكي الأبيض قبل الأسود، الذي استخدم حريته في اختيار رجل من أصول أفريقية لقيادة أعظم دولة في العالم. إنه أكثر من الحلم الذي تبحث عنه شعوب العالم الثالث، لتغيير واقعها المزري، هاهو يظهر بعيداً في دولة ارتكزت كل قيمها وسياساتها في خدمة الإنسان. ولو لم يفز أوباما الأسود، لكان الأمر مر بعيداً عن الحلم، كما مرت على شاكلته 43 عملية انتخابات رئاسية سابقة. بيد أن الأمر اختلف في ذهنية هؤلاء كون ما حدث في تلك الانتخابات فاق الحلم المنشود هنا بتغيير الواقع وإن برجل ذو شأن أو من عائلة كبيرة، أو حتى بملك.. المهم أن يأتي عبر رغبتهم. أن يشعروا أنهم هم من اختاروه رئيساً لبلادهم، وأنهم قادرون على إزاحته من موقعة في حالة أن انحرف عن تحقيق رغباتهم وأحلامهم بدولة عادلة يتجسد فيها معنى أن الإنسان محور كل سياساتها وأنه مالك الأرض والمال والثروة والقوة، وأن الحاكم فيها مجرد موظف براتب شهري وامتيازات محدودة..
معظم الانتخابات التي تمت في دول العالم الثالث – إلا ما رحم ربي – تنتهي بتهم التزوير والخلافات والاعتصامات والاعتقالات في أحسن الأحوال. ذلك إن لم تنتهي بالصراعات والمواجهات بين سلطة كتب لها أن تفوز دائماً ومعارضة مصيرها أن تخسر على الدوام.
أما انتخابات لا تنتهي فقط بالتغيير الشعبي، ويطلب المهزوم من أنصاره مؤازرة من كان خصمه، بل تنتهي بفوز ساحق لشاب أسود لا يساوي تاريخه السياسي والعسكري والوطني حتى أقل من ربع تاريخ خصمه، فذلك أكثر من الحلم الذي تنشده شعوب العالم الثالث! وهو ربما ما استدعى رفع سقف أحلامها، كنتيجة انعكاسية على أحلامها البسيطة.
السياسة أولا.. السياسة أخيراً:
أما القسم الآخر الذي ينظر إلى ذلك الفوز بعيداً عن كونه تجسيداً لقيم إنسانية ضائعة أو عاطفية مستحثة من رغبة شعب بالحياة اللحظية على عاطفة مشوبة بالانتصار لقيمه، فهم أولئك السياسيون الذين يبنون أحكامهم على معلومات ومتغيرات الواقع السياسي كأساس لما آلت اليه النتائج في نهاية الأمر، وبالتالي ما سيترتب عنها في المستقبل.
هؤلاء تغنيهم التجربة والفعل المجرد من العاطفة للنظر إلى ما حققه "أوباما" بعيداً عن لون بشرته.
يؤمن هؤلاء أن هذا الفوز، لم يكن إلا نتاج عدة عوامل سياسية بحتة. فما خلفه بوش الابن وإدارته خلال فترتي حكمه كان سبباً رئيسياً لسحب كرسي الرئاسة من الجمهوريين ونقلها للديمقراطيين. هذا أولاً. وأما ثانياً فإن انحصار المعركة بين الديمقراطيين فقط بين أوباما وهيلاري كلنتون دون آخرين من مفكري وسياسي وخبراء الحزب الديمقراطي، ساعد على فوز أوباما كون منافسته برغم قوتها لم تكن محل قبول داخلي بين الديمقراطيين مقارنة برجل أسود يجيد تنميق خطاباته ويعمل مع الجميع. إلى جانب ذلك كانت الأنظار قد بدأت تتجه اليه أثناء اختياره ليخطب في الناس في حملة سلفه الديمقراطي (2004) "جون كيري"، وكذا أثناء اختياره لإلقاء كلمة الحزب في مؤتمره العام الأخير. لقد رأى الديمقراطيون أن حظوظ أوباما ستكون أكثر من هيلاري، فما كان منهم إلا اختياره بعيداً عن التفكير بشيء آخر مرتبط بلون بشرته. على أن هذا الفارق اللوني لن يكون تأثيره حاسماً بالنظر إلى العامل الأقوى الذي يرجح كفة الديمقراطيين في هذه الانتخابات (كما أسلفنا بسبب سياسة بوش الابن وحزبه خلال الفترة الماضية).
وبالتالي يمكن أن ينظر هؤلاء إلى فوز أوباما من زاوية سياسية بحتة، وهي ذات النظرة التي سيحددون فيها سياساته خلال فترة حكمه. على أن هؤلاء أنفسهم ينقسمون – من وجهة نظر سياسية – عند الحكم على ما ستكون عليه الفترة القادمة. فمنهم من يرى أن الديمقراطيين سيستفيدون من أخطاء فترة الجمهوريين، وخصوصاً في تلك القضايا التي كان عليها إجماع شعبي أنها أثرت على سمعة أمريكا. وهي كثيرة وعلى رأسها: الاقتصاد داخلياً، وحرب العراق، وأفغانستان، في السياسة الخارجية.
أما القسم الآخر فيعتقدون أن السياسة الخارجية الأمريكية سياسة ثابتة ولا يمكن المغامرة بالمساس بها وتغييرها. يؤمن هؤلاء أن المصلحة القومية الأمريكية فوق كل شيء. وبالتالي من المحتم أن يجد الديمقراطيون أنفسهم في معركة صعبة مع تلك المعطيات التي رسمتها سياسة أسلافهم الجمهوريين. سيجد أوباما وحزبه أنفسهم أمام تلك المعلومات الاستراتيجية التي سيتكفل بتقديمها إليهم القادة العسكريون وخبراء الأمن القومي. وسيجد أنها معلومات خطيرة بالنظر إلى مستقبل أمريكا القومي، وبالتالي قد تمنعه من المساس بمصلحة أمريكا إذا حاول تغييرها. وقد يلجأ الديمقراطيون في ذلك إلى الأمر السهل: تغيير قناعات الجماهير الداخلية عبر استخدام الإعلام المحلي كمساند لهم في سياساتهم المفروضة كما كانت عليه الإدارات من قبله. فالانهيار المالي الأخير ربما سيزداد إلى درجة العجز عن معالجته فيما لو انسحبت القوات الأمريكية من حقول النفط العراقية. والخروج من أفغانستان، قد يهدد العالم بتنامي قوة الإرهاب والسيطرة على القوة النووية الباكستانية. كما أن ترك افغانستان كموقع استراتيجي قريب من بحر قزوين الغني بالنفط، ومن إيران وروسيا التي بدأت تصحو من كبوتها، سيمثل خسارة كبيرة لموقع استراتيجي مهم. وحل الصراعات بين شعوب المنطقة في الشرق الأوسط ستقلل من الحاجة للحراسة الأمريكية وشراء الأسلحة منها. ومساعدة دول أوروبا في إصلاح اقتصادياتها، سيجعل منها قوة كبيرة تهدد الأمن القومي الأمريكي في المستقبل. ومحاورة الإرهابيين بالحسنى، سيساعد على نمو قوتهم المعادية لأمريكا كونهم في نهاية الأمر سيشعرون بالنصر.. الخ.
يقلل هذا القسم من حجم التغييرات التي يمكن أن يقوم بها أوباما بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية، كون أمريكا لا تسير على رغبة الأحزاب الحاكمة وإنما على جماعات الضغط (اللوبيات) التي ترسم لها سياستها بغض النظر عن الحزب الذي يحكم. فاللوبي اليهودي هناك - باعتباره الأقوى – يعتقد هؤلاء، أنه يساعد على تغيير الرؤساء والأحزاب الحاكمة كلما رأى توجه الشعب إلى التغيير، فيعمل على عقد الصفقات المسبقة لتصعيدهم إلى سدة الحكم، مقابل المحافظة على أجندته الدائمة التي لم نلحظ أنها تغيرت مع تغيير رؤساء أمريكا.
لقد رسخ معظم المفكرون هناك (ومنهم يهود وعرب) قناعاتنا عندما التقينا بهم – ضمن زيارتنا لأمريكا الصيف الماضي- أن اللوبي اليهودي هو الأكثر تأثيراً على السياسة الخارجية الأمريكية. وقال لنا العرب إن ذلك يحدث بعيداً عن نظرية المؤامرة، إذ أن اللوبي العربي متشرذم وضعيف ولو أنه اتحد وزاد عدد أنصاره (وهذا مستحيل في مثل هذه الظروف) لكان هو المؤثر الغالب.
ربما كان الفرق الوحيد الذي يمتاز به الديمقراطيون هناك أن الكثير من مفكريهم يعملون ضد فكرة المحافظين الجدد التي تفضل استخدام القوة على أي شيء آخر، وخصوصاً ما يسمى بنظرية القوة الاستباقية من أجل مصلحة أمريكا. إلا أن هناك من مازال يعتقد أن معارضة أولئك لهؤلاء لم تكن إلا من باب محاولة إسقاط حكومة الجمهوريين، وأن القادة العسكريين هم من يحدد أولا وأخيراً الخطوط الرئيسية في استخدام القوة من عدمه، حيث تقف مصلحة أمريكا مقاساً أولياً في كل شيء.
ربما يرى البعض أن مثل هذه المعلومات قد تكون ذات جدوى حقيقية وعملية في النظر إلى ما ستكون عليه سياسة حكومة الديمقراطيين التالية، بيد أن هناك من يعتقد أن شخصية أوباما وتاريخه المتحدي للواقع، سيكون له دور مؤثر في تغيير معظم تلك السياسات، يدعمه في ذلك عدة أمور. على رأسها سيطرة الديمقراطيين على أغلبية مجلسي النواب والشيوخ. وأيضاً المواطن الأمريكي الذي يبدو أنه أعلن ضجره من تلك السياسات من خلال صناديق الاقتراع. على أن اختيار أوباما ليهودي مخضرم على رأس جهاز موظفي البيت الأبيض، شكل صدمة كبيرة لمناصريه البعيدين في الشرق الأوسط، حيث اعتبرها البعض دلالة شؤم أولية لما ستكون عليه سياسة الرئيس الجديد في الشرق الأوسط، لدرجة أن ذهب البعض لتفسير ذلك، أن الرجل بدأ في تنفيذ بنود صفقة سرية بينه واللوبي اليهودي، خصوصاً وأن استطلاعات الرأي الميدانية يوم الاقتراع ذهبت إلى أن (60%) من الجالية اليهودية صوتت له.
مؤشرات مسبقة لسقوط الجمهوريين:
الرأي العام الأمريكي تشكله عدة أمور. لعل أهمها: الإعلام المحلي– مخازن الأدمغة (مراكز الأبحاث). ومن المؤسف جداً أن نسبة كبيرة من الأمريكيين لا يأبهون للإعلام الخارجي وخصوصاً العربي. ويتم قياس توجهات الرأي العام الأمريكي عن طريق الاستطلاعات.
وبحسب الكاتب الأمريكي البارز فريد زكريا في كتابه "مستقبل الحرية" فإنه في أوائل الستينات، كانت الغالبية العظمى من الأمريكيين – أكثر من 70 % - توافق على العبارة القائلة "يمكنك أن تضع ثقتك بالحكومة في واشنطن بأنها ستفعل ماهو صحيح طوال أو معظم الوقت". لكن بعد ثلاثين سنة من التراجع، وصلت النسبة إلى نحو (30 %) فقط.
وقال إنه: بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 أبدى من شملهم المسح زيادة في الثقة بواشنطن. إذ أظهر استطلاع للرأي أعده معهد جالوب في أكتوبر 2001 أن نسبة (60%) يضعون ثقتهم بواشنطن طوال أو معظم الوقت. غير أن هذا الرقم ما لبث أن عاد إلى مستويات ما قبل 11 سبتمبر وذلك بحلول يونيو 2002. وفي الانتخابات الرئاسية 2004، هبطت مستويات المشاركة بنحو 20% منذ عام 1960.
أما انتخابات نوفمبر الأخيرة فقد ارتفعت لتتجاوز 70% تقريباً بحسب بعض الإحصاءات، فيما أبقتها إحصاءات أخرى تحت السبعين متجاوزة الـ 65% وفي كل الأحوال فقد اعتبرت أنها نسبة كبيرة مقارنة بالعقدين الأخيرين.
لقد دلت زيادة النسبة – عند بعض المحللين – على شعور الأمريكي بواجبه في التغيير بسبب الأخطار التي حدقت ببلادهم خلال فترتي رئاسة بوش.
لكن السؤال المهم هنا: هل شعر الأمريكي بخطورة ذلك بناء على السياسات الخارجية لواشنطن، أم بناء لسياساتها الداخلية؟ بطريقة أخرى: هل كان هم الناخب الأمريكي منصب على تحسين صورة أمريكا خارجياً، أم اقتصاده الداخلي فقط؟
دلت استطلاعات الرأي التي أجريت يوم الاقتراع أن أكثر من 52% من الذين أدلوا بأصواتهم فعلوا ذلك من أجل المشكلة الاقتصادية الداخلية، بينما تفاوتت النسب بالنسبة للسياسة الخارجية، فقد صوت ما نسبتهم 9 % تقريباً وفي بالهم قضية الإرهاب، و10% للانسحاب من العراق.
فيما يتضح من ذلك أن الهم الأساس لم يكن السياسة الخارجية التي أساءت لسمعة أمريكا. هل يعني ذلك أن الأمريكي لا يهمه سوى مصلحته الداخلية؟ هل كانت الأزمة المالية سبباً لزيادة نسبة المشاركين في الاقتراع؟ وهل كان فوز الديمقراطي أوباما بسبب ذلك؟
قد تكون تلك هي الحقيقة قياساً بتلك النسب الضئيلة التي نشرتها مؤسسة فوكس نيوز الإعلامية الأمريكية. غير أن حقيقة أخرى يجب أن تظهر بوضوح هنا: أن الأمريكي ترك محور السياسة الخارجية لواشنطن تفعل فيه ما تشاء، بينما أن ما يمسه هو داخلياً يجب أن يكون له دور بارز في تغييره. للإعلام الأمريكي دور كبير فهو لا يعطي السياسة الخارجية إلا ما تضخه له وزارة الخارجية من أخبار. ونسبة اهتمامه بها تقل إلى أدنى المستويات، كما أن مصلحة أمريكا تجعله إعلاماً متقبلاً لكل سياسات إدارته. هكذا اتفق الأمريكيون على تسيير أمور بلادهم: شأننا فيما يمس بطوننا وصحتنا وحريتنا. وللسياسيين شأنهم الخارجي..!!
ربما لا تدرك نسبة كبيرة من الأمريكيين أن صورة بلادهم هبطت إلى أدنى مستوياتها في الخارج.
"أثرت السياسة الخارجية الأمريكية خلال الحرب علي الإرهاب بشكل سلبي علي المكانة الدولية للولايات المتحدة"، هذا هو الاستنتاج الرئيسي الذي توصلت إليه اللجنة الفرعية للمنظمات الدولية وحقوق الإنسان Subcommittee on International Organization & Human Rights بلجنة الشئون الخارجية التابعة لمجلس النواب الأمريكي House Committee On Foreign Affairs في تقريرها الصادر يوم 11 يونيو 2008 بعنوان "تراجع سمعة الولايات المتحدة دوليا: لماذا؟ " " The Decline in American Reputation ، Why ? " الذي كان موضوع جلسة الاستماع التي عقدت في ذات اليوم لمناقشة ما ورد في التقرير من نتائج بمشاركة عدد من المتخصصين الأكاديميين في العلاقات الدولية ودراسات الرأي العام.
حيث أشار بيل ديلاهنت Bill Delahunt رئيس اللجنة الفرعية للمنظمات الدولية وحقوق الإنسان في افتتاح الجلسة إلي أن غالبية استطلاعات الرأي توصلت فيما يشبه التوافق العام إلي أن السياسة الخارجية الأمريكية في عهد إدارة الرئيس بوش الابن قد أدت لتنامي تيارات مناوئة للمصالح الأمريكية، سواء في منطقة الشرق الأوسط أو في إطار حلف شمال الأطلسي أو بين دول أمريكا اللاتينية الفناء الخلفي للولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما أثار تساؤلاً هاماً حول أسباب هذه الظاهرة وأثرها علي وضع الولايات المتحدة في النظام الدولي الذي يشهد تحولات في طبيعة التفاعلات الدولية ووزن الفاعلين الدوليين المشاركين في إطارها.
تدل خيارات التصويت التي أشرنا إليها يوم الاقتراع على وجود انفصام بين الأمريكي كمواطن، وبين ما يحدث خارج أسوار مملكته الحصينة.
وهو أمر يدركه السياسي الأمريكي تماماً. بيد أن المواطن العربي ما زال يؤمل على أن الرئيس الجديد لأمريكا يمكنه أن يوصل الخير إليه بتغيير سياسته الخارجية.
قد يعني ذلك أن أوباما لن يوفي بوعوده في إصلاح السياسة الخارجية، التي أطلقها أثناء حملته الانتخابية. وهو أمر بكل بساطة لن يؤثر على رأي الناخب الأمريكي كثيراً أمام ما يمكن أن يقوم به في إصلاح السياسة الداخلية.
يدعم ذلك عدة أمور، لعل أهمها: ما يشير إليه سياسيون ودبلوماسيون أمريكيون أن السياسة الأمريكية الخارجية ثابتة ولا يمكن أن تتغير. أضف إلى ذلك اهتمام جماعات الضغط – خصوصاً اللوبي اليهودي – بالسياسة الخارجية. وهناك أمر لعله يسند تلك التوقعات: أن الرئيس الأمريكي لا يمكنه تغيير سوى 3000 موظف في حكومته من أكثر من 3 مليون موظف.
تجربة فريدة لأمة عظيمة:
لا تسير الأمور كما نحب. على العربي أن يغير واقعه بيده، دون أن ينتظر حدوث ذلك بمساعدة من أحد. على أن ذلك لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يقلل من ذلك التحدي الذي تجاوزته القيم الأمريكية بانتخاب رجل ذو بشرة سوداء رئيساً له. جاء والده الكيني إلى هناك للدراسة، تزوج امرأة أمريكية بيضاء، فأنجبت له رجلاً أسود، ليرحل الأب إلى بلده ويظل الابن هناك يكافح ليصل إلى أعلى موقع في العالم، بعد أن كان السود ذات يوم عبيداً لا يجرؤ أحدهم على المرور أمام رجل أبيض دون أن يفسح له الطريق. إنها أمة عظيمة حقاً.
في الجمعة 14 نوفمبر-تشرين الثاني 2008 09:26:57 م