في ذكرى رحيل الابتسامة
بقلم/ نشوان محمد العثماني
نشر منذ: 14 سنة و 4 أسابيع
الأحد 17 أكتوبر-تشرين الأول 2010 03:40 م

بعد ثمانية أيام على اغتيال الإنسان.. المشروع.. الابتسامة, لم تشأ جريدة "السياسة" الكويتية في عددها رقم (3338) إلا أن تقول: إن "العين تبكي الحمدي والقلب ينزف دماً وحسرة على اليمن، وعلى مستقبل اليمن بعد غياب الرجل الذي التقت على محبته قلوب جميع أبناء الوطن اليمني ماعدا حفنة من مصاصي دماء الشعب شاء القدر أن تكون شيوخا ومشايخا لقبائل هذا الشعب البريء".

وفي اليوم الثاني لاغتياله, أي في 12 أكتوبر 1977, كتبت جريدة الأهرام المصرية في افتتاحيتها تقول "لقد رحل عن المسرح السياسي رجل التوازن البارع إبراهيم الحمدي".

وأردفت "السياسة" الكويتية في 19 أكتوبر 1977: "جاء الرجل إلى الحكم من أجل أن يصحح المسار، من أجل أن يضع حداً لانقسامات الشعب. من أجل أن تبدأ المسيرة الفعلية لبناء يمن العصر على أنقاض يمن العصور الوسطى.. نجح الرجل، حقق خطوات أساسية هامة في هذا الاتجاه. وضع نصب عينيه ضرورة بناء دولة عصرية وأدرك الخطوة الأولى: يجب أن تكون في تكاتف وتعاون جميع أبناء الشعب اليمني، أطلق سراح المعتقلين من العناصر الشريفة ورسم الخطوط العريضة لمسيرة البناء والتعمير. مد يده إلى الجميع فتسابقت إلى التعاون معها جميع الأيدي الشريفة ما عدا مصاصي الدماء مشايخ القبائل الذين أصروا على أن يضل اليمن مجرد قطيع كبير", وأضافت: "أرادوا الإمامة بلا إمام".

وواصلت, لتقول: "رفض أن يقترن اسمه بالمذابح، ولكن الخونة ذبحوه. مات الحمدي.. الرجل الذي حاول أن يصنع القدر في اليمن فنجح في مكان وتعثر في آخر، وجاءت الأقدار من جديد برجال إلى الواجهة لا يدري ماذا خبأت الأيام لليمن في عهدهم".

وصحيح, لقد بكت العين, ولا تزال تبكي الحمدي.. كما لا يزال القلب ينزف دما على مستقبل اليمن.

من هو إبراهيم الحمدي؟؟

لم تتفق المصادر التاريخية على تاريخ محدد ليوم ولادته, لكن أغلبها ترجح أنه ولد في الـ28 من يوليو عام 1943 في مديرية قعطبة بمحافظة إب, وسط اليمن. وكان والده القاضي محمد الحمدي قد تزوج حينها بأم إبراهيم في قعطبة، وهي من أسرة الخطيب, وكان يعمل هناك.

وولد إبراهيم محمد صالح الحمدي في واحد من أهم بيوت العلم والتصوف، حسبما يذكره الكاتب محمد صالح الحاضري, الذي يقول إن معظم الرجال في بيت الحمدي اشتغلوا بالقضاء، مما أثر على نشأة إبراهيم في اتجاه احتمالات الاحتراف لنفس المهنة لولا ظروف المرافقة لاندلاع الثورة السبتمبرية والأجواء العربية والدولية المفعمة بانتصارات العديد من حركات التحرر، وبنداءات التحديث التي أدت إلى انخراطه في المظاهر الجديدة التي بدأت تعم اليمن على حساب الإرث التقليدي للمجتمع اليمني، الذي بسبب التجاوز له لم يصبح إبراهيم الحمدي قاضياً مثل أبيه بعد أن كان في مرات عديدة يجلس على كرسي القضاء، ويقرر كثيراً من الإحكام الصائبة نيابة عن والده.

وتعلم في كلية الطيران، ولم يكمل دراسته وعمل مع والده في محكمة ذمار في عهد الإمام أحمد يحيى حميد الدين، وأصبح في عهد الرئيس عبد الله السلال قائداً لقوات الصاعقة، ثم مسؤولاً عن المقاطعات الغربية والشرقية والوسطى.

وفي العام 1972 أصبح نائب رئيس الوزراء للشؤون الداخلية، ثم عين في منصب نائب القائد العام للقوات المسلحة.

ويذكر الحاضري أن المطلعين على تفاصيل فترة طفولة إبراهيم، قالوا إنه كان نابغاً بوضوح جعل والده يتوقع له شأنا عظيماً، ويعامله بأسلوب مختلف.

وكان والده, محمد الحمدي, هو المعلم الأول، بل ومصدر التأثير الأساسي عليه في فترة الطفولة، بالإضافة إلى الشيوخ الذين تلقى على أيديهم علوم الدين والنحو والتجويد.

وأورد هنا بضعا مما كتبه الحاضري, ونشر في موقع الرئيس الحمدي على شبكة الانترنت:

(إيديولوجيا، فكل الحقائق تؤكد عدم اعتناق الحمدي سوى للفكر الاجتماعي المناهض للاستغلال والداعي للعدالة الاجتماعية، بمعزل عن أية ملحقات مادية تابعة للنظرية السياسية اليسارية.

وثمة مؤشرات دالة على جوهرية الحمدي، تطرحها عملية المشاركة المبكرة والقوية في الحكم، الذي جعلته يبدو أكثر حنكة إزاء مجمل العوامل والأدوات السياسية والفكرية التي اندمجت مع بعضها ضمنياً بما يشبه زاوج المتعة بعد نوفمبر 67م، الذي جعل البعث يدخل في نوع من التحالف السياسي مع القوى والعناصر اليمنية، وفي مقدمتها بعض كبار المشايخ، في ضل معرفة مسبقة لكل الإطراف بنوايا وتخطيط الآخر، ليؤدي هذا إلى اتساع شهية قوى الإقطاع السياسي المشاركة، إضافة إلى بداية نشوء ما يمكن تسميته بالعائلية داخل السلطة لبيت الارياني وبيت أو لحوم.

وقد بدأ النوفمبريون يأكلون، بداية من تصفية الفريق قاسم منصر جسدياً، ثم الفريق العمري سياسياً، وهما الحليفان اللذان أدى غيابهما لتعزيز مواقع القاضي الارياني في السلطة، وهي الفترة التي كان قد أصبح الحمدي فيها قائداً لقوات الاحتياط العام، ثم قائداً للمنطقة المركزية ونائباً لرئيس الوزراء أوائل السبعينات. وهنا بدأ التنافس يأخذ أشكالا جيدة بين بيت الارياني وبيت أبو لحوم، النافذين في أهم قوات الجيش، في حين كان يتبوأ شيخهم منصب محافظ الحديدة.

وأيضاُ بدأ الخلاف يتطور بين الارياني ومعسكر الحجري المتحالف مع الإخوان المسلمين والمشايخ، ثم الدخول في صراع متواصل مع الشيخ الأحمر. وهنا كان البعث يتعامل مع أشخاص مزدوجين داخل السلطة من الذين كانوا يستلمون مرتبات شهرية نقداً بعشرات الآلاف من الدولارات من العراق، في نفس الوقت الذي كانوا فيه محسوبين في نظر المراقبين السياسيين على السعودية.

يقول الحمدي في حديث صحفي لمراسل مجلة "المصور" المصرية:

"إننا بعد البيان العسكري في 72م، تعرضنا للاستدراج من قبل السياسيين بغرض الاشتراك في لجنة عليا لمتابعة الإصلاح المالي والإداري المقترح في بياننا (أي بيان الضباط) وهو العمل الذي سيتم في ظل بقاء نفس العناصر المتسببة في الفساد والجمود، وكان سيفشل مهمتنا ويعرضنا للاحتراق في ظل التمييع الذي سيتعرض له نشاط اللجنة، وأيضا مخاطر السقوط لعناصرنا في نفس المستنقع جراء اليأس من عملية الإصلاح في هذه الظروف، وجراء الإغراء المدروس الذي كان يتورط فيه بعض السياسيين لإفساد العسكريين الشباب ذوي النزعة الإصلاحية الضاغطة".

ومن هنا كان لابد من التفكير في الحل الجذري من موقع القدرة على صناعة القرار الوطني في مستوى القيادة، لتكون هذه اللحظة هي التي شهدت اختمار فكرة الثورة على الأوضاع في رأس الحمدي.

 أما اللحظة البدء في التخطيط، فقد كانت مفعمة بإحساس عميق لدى كل الشرفاء بضرورة التحرك لإنقاذ البلاد بعد أن وصلت الكراهية بين الفرقاء إلى حد تهديد الأحمر باحتلال العاصمة لطرد الإرياني، وربما قتله كما قيل.

وكانت لحظة البداية هذه مطلباً ضمنياً ملحاً لكل الفرقاء في نهاية الأمر، إذا جاز لنا القفز على التعبير الأدق ، وهو أنها تحولت إلى ضرورة هي محل تفهم من كل المتصارعين ليكون ذلك أهم المنعطفات في نضال حركة الأحرار اليمنيين، لكونه شهد أول انتفاضة بيضاء داخل مدرسة الأحرار لم ترق فيه قطرة دم واحدة، أو تجري فيها أية ممارسة تعكس مضموناً انقلابياً بالمعنى المعروف سياسياً، وإنما كانت محاولة للإنقاذ الوطني لا تختلف عن أية حالة من حالات التداول السلمي للسلطة، وانتقالاً بالبلاد ضمن مقاييس تلك الأوضاع والظروف إلى الديمقراطية المحققة لمصالح أوسع الجماهير في أعلى تطبيقاتها المتزامنة والمتلازمة سياسياً واجتماعياً، بما يلغي فرص الانتهازيين والطفيليين الطامحين على إجهاض مكاسب الشعب وتحويل العمل السياسي إلى إلهاء وتكريس للذاتية المريضة، وليس أسلوبا راقياً للتغيير والتطور.

وعلى طريق التصحيح للأوضاع، وإعادة البلاد إلى أجواء السادس والعشرين من سبتمبر 62م بكل بياض أهدافه النبيلة وأجواء اندفاعاته الجسورة المعززة بآمال المقهورين وأحلامهم المشروعة الخضراء، بدأت نسائم يونيو تهب نهار اليوم الحادي عشر منه الذي شهد توديع الحمدي لرئيس الأركان المسافر جواً إلى عمان).

ما بعد الحركة التصحيحية.. 13 يونيو 1974

لقد تولى إبراهيم الحمدي رئاسة الجمهورية العربية اليمنية ما بين (1974- 1977) بعد الرئيس عبد الرحمن الإرياني الذي تولى السلطة بعد المشير عبد الله السلال.

وقد سار الحمدي في نهج سياسي مستقل عن الجارة السعودية في الشؤون الخارجية, كما سار في نهج معاد للقبائل في شؤونه الداخلية, حيث حد من سلطة المشايخ ونفوذهم في الدولة والجيش, وهذا ما أدى إلى اقتصار وجوده على السلطة بثلاثة أعوام وأربعة أشهر فقط, وتدبير خطة لاغتياله لا يزال الشعب والوطن يتجرع نتائجها المأساوية حتى اليوم.

ولا يزال اليمنيون يذكرون جيدا أن الحمدي حين أتى إلى السلطة كان برتبة عقيد, وحين أصدر قرارا بإنزال جميع الرتب العسكرية رتبة عن كل ضابط بدأ بنفسه ليصبح برتبة "مقدم".

وحقيقة لابد من قولها, فلم تشهد الجمهورية العربية اليمنية مشروعا لإيجاد دولة النظام والقانون, تعم صرامتها الجميع إلا في عهد إبراهيم الحمدي, ولعل البعض لا يغالي حين يقول: إن الحمدي عمل في ثلاثة أعوام ما لم يستطع غيره فعله في ثلاثين عاما.

ولم يكن السير في اتجاه الاستقلال عن المملكة السعودية واتجاه المعاداة للقبائل إلا سيرا محفوفا بالمخاطر؛ نظرا لحجم التغلغل لهذين الركيزتين في الواقع اليمني المعاش, واللتين حولتا الحلم بدولة النظام والقانون إلى دولة تبعية تحكمها النزعة القبلية ويتولى أمرها المشايخ, ومن أجل ذلك كان الإعداد والتخطيط لإزالة الحمدي الذي كان عائقا أمام تلك الأطماع التي أعادت فرض سطوتها بعد تصفية الملعب السياسي من العقبات التي أوجدتها دولة الحمدي, وهي الدولة أو النظام الذي كان يشار إليه بالبنان.

ولا يخفى على الجميع أن تصفية الحمدي جسديا وبتلك الطريقة قد التقت حوله قواسم مشتركة داخليا وخارجيا, ما يدعو إلى أحقية التساؤل عن موقع الخارج من تدبير الاغتيال الذي قضى على الحلم.. المشروع في أكتوبر 1977م, مع أن الحقيقة التي أجزم بها هي أن المشايخ لن يتجرءوا في قتل الحمدي وأخيه بتلك الطريقة ما لم يكونوا قد حصلوا على الضوء الأخضر من جهة خارجية حاولت, هذه الجهة, ترويض الحمدي طوال ثلاثة أعوام وأكثر لكن الحمدي لم يكن إنسانا سهلا بحيث يتحول إلى رجلها في اليمن المنفذ لما تريد والمطيع لما تقول.

وليس مجالا هنا للتطرق إلى محاولة فك الغموض وكشف بعض الخفايا في عملية الاغتيال التي أودت بأحد أشهر الشخصيات السياسية اليمنية في القرن الماضي, وخصوصا تلك التي تتعلق بالدور الخارجي والمحوري, برأي, في التخطيط لـ11 أكتوبر 1977.

ما الذي حدث؟

لقد كان يوما كئيبا وموعدا حزينا ووداعا مرا شهدته الجمهورية العربية اليمنية في الـ11 من أكتوبر 1977, في رحيل الابتسامة التي كانت قد بدت ترتسم على محياها في الـ13 من يونيو "حزيران" عام 1977, ولم تشهد الأجيال التي خلقت بعد هذا اليوم, أي 11 أكتوبر 1977, أو كانت ناشئة حينها, أي شفاء للجرح الذي لا يزال غائرا في جسد الوطن, في حين لا تزال حوادث هذا الزمن, وقد انتهت الجمهورية العربية اليمنية, تذكر بآلامه كلما مرت فينة تطرح أمام الجميع صعوبة المقارنة أمام الزمن الذي سبق وتلى الحدث الجلل.

إننا نتحدث عن الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي, الذي ودعته اليمن وودعه شعبها, لتحفر الدموع أخاديد في وجنات الوطن المثخون بالمآسي ولا يزال, لتظل الأحلام عالقة على شباك الأمل تنظر للأفق وكأن شكا يساورها من أن الحمدي لم يمت, أو ربما تنتظر عودته من السماء.

في مقبرة الشهداء

الاثنين الماضي, وفي مقبرة الشهداء بصنعاء, لم تستطع صفية محمد الحمدي, حبس دمعها الجاري منذ 33 عاما, وأجهشت بالبكاء على قبري شقيقيها "إبراهيم", و"عبد الله".

كان الصباح قد بزغ, وأشعة الشمس قد تناولت قهوتها في صنعاء القديمة, وكان من المتوقع عندي أن قبر الحمدي سيكتظ في مثل هذا اليوم بالزوار, وقراءة الفاتحة أقل ما يمكن القيام به.

كانت شقيقة الحمدي بمعية زوجها وابنها عادل, وكنا ستة من زملاء المهنة, أو العدد يقل عن ذلك, ولنا أن نستحضر مهابة الرجل المدفون هنا بجوار شقيقه وكانا قد لقيا مصرعيهما غدرا وببشاعة, فأي مهابة تلك التي نستطيع أن نستحضرها؟, فما قالته لي شقيقته بعد ذلك - ولأول مرة أقابل فيها أحد أقرباء هذا العظيم – كأني بالخليفة العادل عمر بن عبد العزيز, من الزهد ومراعاة مصالح العامة, ومحاصرة النفس من نزواتها في الحكم والإمارة.. لكن لماذا تم التفريط بهذا الرجل؟.

لا يزال يتناول الغداء في منزل الغشمي

في حوار سابق لها نشرته صحيفة "المصدر", قالت صفية الحمدي, وهي الأخت الصغرى لـ"إبراهيم" بل وأصغر أفراد عائلته المكونة من ثمانية ذكور وأربع نساء: "كان (إبراهيم) عندي في البلاد "ثلا" قبل استشهاده بأربعة أيام قضاها معي ثم عاد لصنعاء, يوم الجريمة نفسها دخلت أنا إلى صنعاء ووصلت إلى البيت وكان هو في مقر القيادة, أتى ظهرا إلى البيت وطلب "بطاط وسحاوق" قبل الغداء, كان جائعاً لأنه لم يتناول فطوره, طلعوا إليه البطاط, وما بين الواحدة والواحدة والنصف وما أسوأها من لحظة – اتصل به أحمد الغشمي وطلب منه الذهاب لتناول الغداء, قال له الشهيد أنا مرهق والغداء الآن أمامي, إلا أن الغشمي أصر. فنزل وأنا كنت في المطبخ وجاء إلي وقال لي أنت هنا؟ قلت له أيوة, قال لي "لا تروحي إلا لما أرجع" ولكنه لم يعد, قبلته وكانت القبلة الأخيرة وخرج من باب المطبخ وشعرت كأن روحي خرجت معه, ذهب للغداء ولليوم وهو يتغدى".

ولم تتحدث صفية قط عن شقيقها الحمدي, وعن لحظة اغتياله دون أن تجهش بالبكاء, أو أن تخالط تعبيرها عبرات تستذكر مكانة الراحل وحبها له.

تؤكد صفية أن إبراهيم يوم اغتياله لم يرتد البزة العسكرية, بل أخذ "زنة (قميصا) وكوتا وجنبية", وكان لها أن تنتظره طالما قال لها "لا تروحي إلا لما أرجع", إلا أنها لا تزال تنتظره حتى الآن وقد مرت على عبارته تلك أكثر من 33 عاما.

تقول صفية: "انتظرته طويلاً وجاء العسكر, قالوا: الفندم (الحمدي) يريد قاته, ولم يكونوا يعلموا حين أرسلهم القتلة إن إبراهيم قد مات - الله يجازي من كان السبب - سألتهم أين إبراهيم: قالوا: سيتأخر لن يأتي الآن, فقلت خلاص سأعود إلى القرية قد تأخرت, طلبت زوجته مني الانتظار لرؤيته, قلت لها قد رأيته بالظهر خلاص البيت وحدها, وعدت إلى البلاد حوالي الساعة التاسعة ليلاً وككل الناس سمعنا الخبر من التلفاز "اغتيل الحمدي", عندما كانت حراسته تذهب تسأل عنه كان القتلة يراوغون مرة "روحوا هاتوا قاته" ومرة "خرج من الباب الخلفي الحقوا به" ونحن ننتظر".

وكان عبد الله- شقيق إبراهيم, أحد المعزومين وقُتل قبل إبراهيم, هذا ما يتداوله الناس لكن الحقيقة أنهما اغتيلا في منزل الغشمي, تضيف شقيقتهما.

الذكرى الكابوس

الاثنين الماضي قالت صفية لـ"مأرب برس" إن شهر أكتوبر/ تشرين الثاني, وبالذات يوم الـ11 منه, يمر كأنه كابوس على عائلة إبراهيم وعبد الله الحمدي, غير أنهم لا يقولوا إلا "إنا لله وإنا له راجعون, والله يجازي من هو السبب".

تستذكر صفية إن إبراهيم "دُعي إلى الغداء وسار يتغدى في بيت الغشمي, وما رجع لحد الآن", ومع أن إبراهيم كان يتلقى تحذيرات كثيرة من أن هناك مؤامرة لاغتياله "لكنه لم يكن ليصدقهم.. كان واثقا فيهم كلهم وما كان يصدق أحد أن هناك تآمر ضده".

ويتذكر, عادل الأكوع, وهو ابن شقيقة إبراهيم الحمدي, أن خاله كان دائما ما يردد:

"ولست أبالي حين أُقتل مسلما/ على أي جنب كان في الله مصرعي".

وتضيف صفية الحمدي "تلقينا نبأ وفاته من الإذاعة والتلفزيون في نفس اليوم الذي قتل فيه, ويومها كنت عنده, وكان قبلها بأربعة أيام في ثلا. كأنه شاعر أنه سيموت. رأيته جالسا ويتأمل ويقول الدنيا لله".

ولم يقتل الحمدي إلا بعدما تمكنوا من الأول "عبد الله", كانوا خائفين من الأخير, أما إبراهيم فكانوا عارفين أنهم يستطيعون اصطياده في أي بقعة.

وتضيف "صفية": عبد الله كان حذرا, والاثنان كانا واثقين من الغشمي على أساس أنه صديقهما وأخوهما بالرغم من تحذير الناس لإبراهيم, حتى أخي الكبير حذره.

تفرد في السلوك

وبعد 13 يونيو 1974, لم يتغير سلوك إبراهيم الحمدي "بالعكس كان متواضعا وإنسانا عاديا وبسيطا ويحب المساكين ويحب الخير. لا يحب الكبر والعنجهة", وتؤكد أم عادل أن إبراهيم كان متأثرا بـ"عمر بن عبد العزيز".

وحين كان إبراهيم لا يزال طفلا, تنبأ له والده بمستقبل كبير "لكن لم نكن لنتوقع أنه سيكون رئيس جمهورية".

وعوضا عن ذلك, كان يرفض المحاباة لأفراد عائلته حتى لا يتم استغلال منصبه واسمه, فـ"ابن عمه واخو زوجته "إبراهيم" كان قد حصل على منحة دراسية إلى روسيا, فجاء إلى عنده عمه "حميد الحمدي" يقوله إن ولده إبراهيم يريد الدراسة في أمريكا أو أي دولة أخرى, وما كان من الحمدي (الرئيس) إلا أن اتصل بالجهات المختصة ليقول: إذا لم يعجبه روسيا يرجع صنعاء", لتبقى أمريكا مجرد حلم لديه..

- بعد 3 عقود لم نر شيئا من هذا.

وثمة قصة أخرى, فـ"ذات يوم, عاد الرئيس الحمدي من عمله مبكرا ليجد أمامه ابن أخيه "عبد الملك الحمدي" نائما, وكان يعيش عنده في البيت, وموظفا في التلفزيون, وقال الأخير إنه مريض لكنه لم يأخذ إجازة من إدارة عمله.

المكالمة لمدير التلفزيون:

أنا إبراهيم الحمدي, أكلمك بصفتي ولي أمر الموظف عبد الملك الحمدي, أخبرك أنه مريض وذاهب للعيادة ويريد منكم إجازة لذلك".

تقول صفية: كان ينوي الاستقالة وتداول السلطة سلميا. ويحول بيته إلى مدرسة للحي الذي يوجد فيه". وتعود إلى ذلك الزمان: "كان القضاء مثل السيف. سعر المهور محددة. كان إبراهيم إذا اتخذ أي قرارات يبدأ بأهله, كنا نعمل له ألف حساب, كان يوبخنا دائما إذا ما رأى أي مظاهر للترف. وكان يجلس معنا بشكل دائم", إضافة لذلك الزهد "كان يأكل عصيد ومطيط, وجحينة (وجبات شعبية) لم تكن وجباته فاخرة كالملوك والرؤساء".

وبالنسبة لـ"عادل الأكوع", فـ"يكفي عزاء الشعب وحب المواطنين الذين عرفوه والذين لم يعرفوه", فخاله إبراهيم كان له الشيء الذي لم يستطع وصفه.

ويشارك محمد مهيوب- زوج شقيقة الحمدي: "الراوية تقول إن عبد الله الحمدي لم يستدع من أجل الغداء. هناك رواية تقول إن عبد الله استدعي وقيل له إن هناك سيارات نريد توزيعها على الوحدات العسكرية فتعال خذ نصيب وحداتك العسكرية؛ وإلا لما كان سيحضر من أجل الغداء؛ حتى لا يجتمع الاثنان هو وإبراهيم".

نسرق أموال الناس ونديها لكم؟

وليس من التكلف تشبيه الحمدي الرئيس بـ"عمر بن عيد العزيز" الخليفة العادل, فـ"صفية" تتذكر أن أخاها كان يتسلم أموالا طائلة كهدايا من الملوك والزعماء, "وكنا نقول له اعمل لنا حاجة من أجل المستقبل", وماذا يرد إبراهيم الحمدي؟.

- نسرق أموال الناس ونديها لكم؟ أنا واثق أنه لا أحد سيفلتكم (سيترككم), والأموال هذه أعطيت لي بصفتي رئيس, وإلا لمَ لم يعطوها لأخي؟.

وكان يحيلها مباشرة إلى الخزينة العسكرية لدعم القوات المسلحة من أجل بناء الدولة.

يؤكد عادل الأكوع أن خاله الرئيس كان يتبرع بأمواله للخزينة العسكرية ويأخذ سندات بذلك, ومجمل الأخيرة عندهم تؤكد أن المبلغ الذي تبرع به يقدر بـ"105 مليون دولار", مع أنه في آخر زيارة له لبلاده "ثلا" لم يكن ببيته ولا مئة ريال.

ولم يتبق من إخوة صفية الذكور إلا "محمد, ويحيى, وعلي, وعبد الرحمن", في حين توفي منهم "عبد الوهاب, وأحمد", وقُتل "إبراهيم (الرئيس), وعبد الله".

أيادٍ غاشمة

يقول الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان- الرئيس السابق لـ"الإمارات العربية المتحدة" في بيان نعيه لـ"إبراهيم" في الـ12 من أكتوبر 1977:

"إن الأيادي التي امتدت إلى ابن الأمة العربية المخلص الشهيد إبراهيم الحمدي, هي أيادي غاشمة أثيمة تتربص دائما بأبناء الأمة العربية المخلصين, أصحاب العزائم والمنجزات الكبير".