ما لا يعرفه العرب عن فوائد زيت الزيتون وعجائبه في جسم الإنسان الضالع: وفاة شابة ووالدتها غرقاً في حاجز مائي غلاء عالمي لأسعار الغذاء إلى أعلى مستوى ست مواجهات شرسة ضمن بطولة الدوري الإنجليزي الممتاز إستعدادات كأس الخليج.. لجنة الحكام باتحاد كأس الخليج العربي تجتمع على هامش قرعة خليجي 26 أول رد من المجلس الرئاسي لوزارة الدفاع السعودية بخصوص مقتل وإصابة جنود سعوديين بحضرموت تقرير: مليون يمني ألحقت بهم أمطار هذا العام أضراراً متفاوتة وضاعفت مخاطر الإصابة بالكوليرا ضبط عشرات الجرائم في تعز والضالع خلال أكتوبر حزب الإصلاح يتحدث لمكتب المبعوث الأممي عن مرتكزات وخطوات السلام وأولوية قصوى أكد عليها المسلمون في أميركا صوتوا لمرشح ثالث عقاباً لهاريس وترامب
لا تزال دمشق المدينة التي سحرت بجمالها الباب وأفئدة العرب, شعراء وأدباء ومثقفون, قديمًا وحديثًا. فليس هناك شاعر ولا كاتب ولا مفكر إلا وترك لدمشق نصيبًا من ميراثه. فكما كانت باريس قبلة الشعراء والفنانين في أوروبا وغيرها تعد دمشق كعبة المثقفين العرب ومحط رحالهم.
إلا أن لدمشق شأن آخر وقصة مغايرة في شعر أحمد شوقي - أمير الشعراء العرب في العصر الحديث - الذي نال دمشق أكثر من قصيدة رائعة تعد بالمجمل من عيون ما قاله هذا الشاعر من قصيد مسميًا إياها تارة «جلقا» (الاسم التاريخي لدمشق) وتارة «الفيحاء» كما هو معروف, وأحيانًا ينعتها بـ«الشماء»؛ وكلها أسماء تنسجم مع ما لهذه المدينة من تاريخ عريق.
والحق أن التاريخ هو الذي يحلق بشاعرية شوقي في فضاء دمشق إذ نراه بكل قصائده التي قالها فيها لا يفتأ يصف حدثًا ما إلا وعادت به ذاكرته إلى الماضي البعيد, حيث كانت دمشق تمثل العاصمة الأولى للدولة الإسلامية في العصر الأموي.
ففي خالديته التي يستهلها بقوله
قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا *** مشت على الرسم أحداث وأزمان
هذا الأديم كتاب لا كفاء له *** رث الصحائف باق منه عنوان
وما يلبث أن يعود إلى الماضي فيمدح من خلاله بني أمية التي كانت الشام حاضرتهم, فيقول:
بنو أمية للأنباء ما فتحوا *** وللأحاديث ما سادوا وما دانوا
كانوا ملوكًا سرير الشرق تحتهم *** فهل سألت سرير الغرب ما كانوا
عالين كالشمس في أطراف دولتها *** في كل ناحية ملك وسلطان
يا ويح قلبي مهما انتاب أرسمهم *** سرى به الهم أو عادته أشجان
بالأمس قمت على الزهراء أندبهم *** اليوم دمعي على الفيحاء هتان
معادن العز قد مال الرغام بهم *** لو هان في تربه الإبريز ما هانوا
ولا يفوت شوقي في حديثه عن بني أمية وعن الشام أن يذكر الرمز التاريخي لهم وهو الجامع أي «الجامع الأموي» الذين شيدوه في قلب الشام, فيقول:
مررت بالمسجد المحزون أسأله *** هل في المصلى أو المحراب مروان
تغير المسجد المحزون واختلفت *** على المنابر أحرار وعبدان
ثم يأتي ببيته الرائع:
فلا الأذان أذان في منارته *** إذا تعالى ولا الآذان آذان
وسرعان ما يعود شوقي للحديث عن تاريخ المدينة فيصفها بأنها مهد للحضارة العربية جمعاء, فيقول:
لولا دمشق لما كانت طليطلة *** ولا زهت ببني العباس بغدان
لكن التاريخ ليس وحده ما يهم شوقي في هذه المدينة, فهو لم يهتم بماضيها إلا لشغفه بحاضرها ولِمَا كان يشعر به تجاهها. وهذا ما يؤكده شوقي في الأبيات الذي يقول في تضاعيفها:
آمنت بالله واستثنيت جنته *** دمشق روح وجنات وريحان
قال الرفاق وقد هبت خمائلها *** الأرض دار لها الفيحاء بستان
جرى وصفق يلقانا بها بردى *** كما تلقاك دون الخلد رضوان
فالشاعر بقدر ما كان مهتمًا بما تمثله للعرب في القديم كان مشغوفًا بجمال المدينة الآسر وعاشقًا لها ولأهلها حتى أنه يبالغ في الوصف فنسمعه يؤمن بالله ولكن لا يؤمن بالجنة, فالجنة هي دمشق في نظره كما أن رفاقه يقولون إن الأرض هي عبارة عن دار ومنزل فسيح ودمشق هي البستان الذي يحيط بهذا الدار, ونهرها المسمى بردى يتلقى زائريها كما يتلقى رضوان - وهو ملك أهل الجنة - أهل الجنة.
إذن فهي جنة, ونهر بردى هو رضوان كما يخبرنا به شوقي.
وفي قصيدة أخرى قالها أحمد شوقي عندما قصف الطيران الفرنسي دمشق إبان الاحتلال الفرنسي لسوريا يتجلى عشق شوقي لهذه المدينة وإخلاصه لها ما دفعه لكتابة واحدة من أجمل ما جادت به شاعريته الغزيرة فيقول في مطلعها:
سلام من صبا بردى أرق *** ودمع لا يكفكف يا دمشق
ومعذرة اليراعة والقوافي *** جلال الرزء عن وصف يدق
وما يلفت الانتباه في هذه القصيدة هو البحر الذي كتب عليه الشاعر أبياته وهو «بحر الوافر» الذي يتميز بسرعة الإيقاع وجودته وكذلك القافية التي اختارها الشاعر واللذان يعكسان ما كان يعتمل في نفس شوقي من الحزن العميق للمدينة والإشفاق عليها.
وخلافًا للقصائد الأخرى تبدأ الأبيات بداية قوية على غير المألوف, وكأنه كان مشدوهًا لِمَا جرى عندما وصله النبأ, فنسمعه يقول في البيت الثاني مباشرة:
ومعذرة اليراعة والقوافي *** جلال الرزء عن وصف يدق
وذكرى عن خواطرها لقلبي *** إليك تلفت أبدا وخفق
وبي مما رمتك به الليالي *** جراحات لها في القلب عمق
هذه الأبيات تذكرني بالأبيات التي قالها شوقي عندما تعرضت باريس للغزو الألماني في الحرب العالمية الأولى مشفقًا على باريس إشفاق المحب على محبوبته, وكتب رائعته التي يقول في بدايتها:
جهد الصبابة ما أكابد فيك *** لو كان ما قد ذقته يكفيك
حتام هجراني وفيم تجنبي *** والام بي ذل الهوى يغريك؟
ثم ينشد:
ولقد أقول وادمعي منهلة *** باريس لم يعرفك من يغزوك
إن لم يقوك بكل نفس حرة *** فالله جل جلاله واقيك
فأدمع الشاعر منهلة إشفاقا على باريس وكان له جراح غائرة في قلبه عندما تعرضت دمشق للقصف الفرنسي.
لحاها الله أنباء توالت *** على سمع الولي بما يشق
يفصلها إلى الدنيا بريد *** ويجملها إلى الآفاق برق
تكاد لروعة الأحداث فيها *** تخال من الخرافة وهي صدق
هنا يتحدث الشاعر عن نبأ القصف الذي انتشر بسرعة مذهلة, فاختار كلمة البرق ليعبر عن سرعة انتشار خبر الفاجعة - كما يراها – لأهميتها, فالحدث عندما يكون كبيرًا تكون سرعة انتشاره أكبر ربما بسرعة البرق. حتى أن الأنباء تكاد تعد خرافة أو من الخرافات لهولها وهي في الحقيقة وقائع تتعرض لها المدينة.
ولأنه لا يمكن الحديث عن دمشق دون استعراض التاريخ المجيد, نسمع شوقي يردد:
وقيل معالم التاريخ دكت *** وقيل أصابها تلف وحرق
ألست دمشق للإسلام ظئرًا *** ومرضعة الأبوة لا تعق
صلاح الدين تاجك لم يجمل *** ولم يوسم بأزين منه فرق
وكل حضارة في الأرض طالت *** لها من سرحك العلوي عرق
فالمدينة برأيه هي التاريخ كله وعندما تدك معالمها فالخطر يحدق بتاريخ الأمة برمتها.
جزاكم ذو الجلال بني دمشق *** وعز الشرق أوله دمشق
له بالشام أعلام وعرس *** بشائره بأندلس تدق
ولو دققنا قليلًا في البيتين السابقين لوجدنا غير قليل من التناظر بينهما وبين البيت الذي أسلفنا ذكره في القصيدة السابقة. فهو يقول فيهما إن الشرق العربي كله والحضارة التي شيدت فيه ما كنت بدايتها إلا من دمشق في إشارة إلى الدولة الأموية في الشام والتي برأيه هي التي مهدت لقيام الحضارة العباسية في بلاد الرافدين والحضارة الإسلامية في الأندلس, وهذا كله نجده في بيته السابق الذكر:
لولا دمشق لما كانت طليطلة *** ولا زهت ببني العباس بغدان
ثم ينتقل الشاعر للإشادة بالثوار في ذلك الحين, حيث قال:
دم الثوار تعرفه فرنسا *** وتعلم أنه نور وحق
وللأوطان في دم كل حر *** يد سلفت ودين مستحق
ومن يسقى ويشرب بالمنايا *** إذا الأحرار لم يسقوا ويسقوا
فالوطن في ذمة أبنائه دين يجب قضائه وله نعمة في دماء الأبناء يجب أن تقابل بمثلها وليس أقل من التضحية في سبيل تحرير الأوطان, فمن سيشرب ويسقي أيضًا في الموت ويتجرعه شرابًا سائغًا إذا الأحرار من أبناء البلد تقاعسوا في الدفاع عن أوطانهم!
ثم يردف بالتنديد بالمستعمر الغازي, فيقول:
سلي من راع غيدك بعد وهن *** أبين فؤاده والصخر فرق
وللمستعمرين وإن ألانوا *** قلوب كالحجارة لا ترق
رماك بطيشه ورمى فرنسا *** أخو حرب به صلف وحمق
مناديًا دمشق: اسألي من أخاف وألقى الرعب في قلوب فتياتك الحسان الغيد, هل كان بين قلبه وبين الصخر فرق؟ وهو يقصد هنا الاستعمار. لا بل إن للمستعمر وأن أبدى اللين فؤادًا كالحجر لا يرق ولا يرحم.
وفي الأخير يطلق شوقي كعادته نظريته المشهورة التي تقول «إن الحرية شجرة لا تنبت إلا بالدماء», فيصيح ببني قومه قائلًا مستنهضًا لهم:
وللحرية الحمراء باب *** بكل يد مضرجة يدق
يقصد أن باب الحرية لا يدق إلا بأياد ملطخة بدم التضحية والبذل, وهذا يتأكد في قوله:
ولا يبني الممالك كالضحايا *** ولا يدني الحقوق ولا يحق
ففي القتلى لأجيال حياة *** وفي الأسرى فدى لهم وعتق
فعندما يموت المرء من أجل تحرير الوطن يعيش بموته أفراد من أبناء جلدته.
رحمك الله يا شوقي.
إن التراث الذي تركته لن تعفيه الليالي مهما تواترت, وسوف يظل عالقًا بأذهان الأجيال تغرد به في كل زمان ومكان.