ألإسلام والقبيلة
بقلم/ د.عبدالله الغذامي
نشر منذ: 17 سنة و 8 أشهر و يومين
الخميس 08 مارس - آذار 2007 01:49 م

مأرب برس – الرياض

سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أمن العصبية أن يحب الرجل
قومه؟ قال لا، ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم) ابن ماجة رقم "3997"..

  كنت أزمع مواصلة الحديث عن مفهوم القبيلة وعن بنيتها الثقافية غير ان تعليقاً
لأحد القراء في موقع الرياض على الإنترنت جعلني أغير في ترتيب مقالاتي، وقد طلب مني
القارئ الكريم إلاّ أتوقف على قوله تعالى: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" دون سائر
الآية، وكأنه بهذا يريد ان يقول لي ان ورود كلمة القبائل في الآية يجعل المعنى
مختلفاً، وكأنه أيضاً يريد ان يقول ان الاقتصار على جزء من الآية يقطع الدلالة
ويحولها وليس لي إلاّ ان أشكر القارئ وأشكر المعلقين في الموقع جميعهم والحق ان
التعليقات تؤثر كثيراً على مسار مقالاتي هذه ومسار تفك يري إذ من الضروري معرفة ردود
فعل الناس على هذه الأفكار وانه لشرط منهجي ان نقرأ المجتمع عبر ما يفصح به المجتمع
عن نفسه من دون رقيب وليس كالإنترنت وسيلة حرة للتعبير والكشف وهذا مبدأ مهم في
النقد الثقافي إذ ان ردود الفعل تمثل أبرز سمات التعرف على حركة الانساق وصيغ تعبير
النسق عن نفسه وعن مضمراته التي لا تظهر في الخطاب المؤسساتي وتتقن لعبة التخفي
والتستر .

وكما طلب القارئ العزيز فإني سأقف على الآية الكريمة، وهي وقفة قد تأخذ مني ثلاث
مقالات أو أكثر وفيها ساستعرض معطيات جوهرية تتعلق في صدر المقال بين ان تحب قومك
وتنتسب إليهم وتقيم حقوق النسب وصلة الرحم وهذا كله خير وشرط في المروءة، ولكن الذي
ليس خيراً ولا مروءة ان يتحول حبك لقومك وحبك لثقافتك وعرقك ان يتحول إلى حس تمييزي
تعتقد معه ان الشرف لك ولأهلك دون غيرك ممن لا يماثلك لغة أو عرقاً أو طبقة أو
موقعاً، وهناك فرق دقيق بين الانتماء وبين العصبية ثم بين المحبة من جهة والكراهية
من جهة أخرى، أو بين التقوى وهي قيمة دينية وأخلاقية عليا وبين الانحيازات القطعية
وهي داء ذهني وثقافي .

ان القبيلة قيمة ثقافية واجتماعية ولا شك غير أننا يجب ان نعلم ونحن نقول ذلك
أنها صيغة تشبه صيغاً أخرى في التكوينات الاجتماعية وكما أنها صيغة ايجابية في ضمان
وجود أفرادها فإن الصيغ الأخرى أيضاً هي مكونات إيجابية تحمي الأفراد وتعينهم ومن
ذلك مؤسسة (العائلة) بصيغتها الصغيرة أو الممتدة وبين صيغة العائلة وصيغة القبيلة
تماثل كبير في جوانبهما الايجابية وكذا السلبية، وكم من حس عائلي طغى وميز ورأى ان
هذه العائلة هي أسمى وأرقى من غيرها مما هو حس نسقي يصاب به كل البشر وتصاب به كل
الثقافات .

ولو عاش أحد منا مع الإنجليز مثلاً وعاشرهم في بيوتهم ومع عجائزهم وبسطائهم
مثلما كبارهم لرأى أنهم يقولون عن أنفسهم وعن لغتهم وعن نموذج معاشهم إنه الأفضل في
الوجود ولرآهم يحتقرون غيرهم لمجرد اختلافهم معهم في اللون أو اللغة أو الدين ولقد
عشت شيئاً من هذا ولمسته حتى لقد تعرضت مرة لحجارة أتتني من الخلف وأنا أسير في أحد
شوارع مدينة أدنبرة في اسكتلندا عائداً من الجامعة قرب الخامسة مساء وفي يدي حقيبة
كتبي وفي رأسي التعب بعد يوم من العمل وما وعيت إلاّ والحجارة من خلفي وأطفال
يصرخون بي قائلين: عد إلى وطنك يا باكي، وكلمة باكي هي مختصر لكلمة باكستاني، وقد
ظنوني باكستانياً من لون بشرتي، وهذه صورة واحدة من آلاف الصور عشناها مباشرة مثلما
قرأنا عنها وكلها ناتج لطبع بشري ينفر من المختلف بسبب تصوره للذات على أنها الأفضل
والأنقى وان المختلف عنها يهدد صفاءها إذا خالطها وفي الوقت ذاته فالمختلف غريب ومن
هنا فهو أقل من الذات وعند كل قوم شيء من هذا وذاك. ولكن مسألتنا هنا هي عن أمة
تملك ثقافة مثالية عالية في مثاليتها وهي الدين الإسلامي الذي يقوم على مبادئ
جوهرية في المفاضلة بين البشر وهي مبادئ عملية وأخلاقية وليست عرقية ولا قومية ومع
هذا فإننا نجد ان هؤلاء القوم - وهم يملكون ديناً مثالياً - نجدهم يتخذون لأنفسهم
نماذج أخرى للمفاضلة الثقافية وهي نماذج لا تختلف عن المثالية الدينية فحسب بل انها
تناقضها .

ولسوف نرى ان الآية الكريمة التي طلب مني القارئ الكريم الوقوف عليها تؤسس هي
وآيات معها في السورة نفسها وفي السياق نفسه تؤسس لنظام أخلاقي واجتماعي مثالي يعطي
القيمة للفرد بما انه فرد صالح وإيجابي وبناء. ونص الآية كاملاً هو: " يا أيها
الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند
الله أتقاكم ان الله عليم خبير ".

ومع ان الآية واضحة في دلالاتها إلاّ أنني قد عدت إلى ثلاثة كتب في التفاسير وهي
تفسير ابن كثير والكشاف للزمخشري وتفسير عبدالرحمن بن سعدي وكذلك عدت إلى معاجم
اللغة وكتب الحديث من أجل تتبع معاني الآية الكريمة، واخترت التفاسير الثلاثة لأن
ابن كثير يغني نصه بالاستطراد العريض النافع فيأتي بالأحاديث والنقولات مما يوسع
مجال النظر بينما يهتم الزمخشري بالأسرار اللغوية والتلميحات الدلالية، أما ابن
سعدي فهو يوجز ويختصر ويعطي الخاصة بتكثيف شديد كما ان في كتب الحديث وكتب اللغة
مجالاً لتوسيع الموضوع وكشف كافة احتمالاته. كل هذا مع وضوح الآية وجلاء دلالتها .

ثم ان الآية مسبوقة بآيات أخرى فيها بيان أخلاقي وسلوكي مثالي وفيها صياغة
لنموذج الإنسان التقي وهذا سياق مهم في تشكيل دلالة الآية، وأنا هنا لا أقتصر على
جزء من الآية كما ألمح القارئ العزيز بل انني أتناول السياق كله، وكلامي هذا في
جميعه هو مقدمة أولى لقراءة الآية والوقوف عليها وهذا ما سأفعله في مقالات تتوالى -
إن شاء الله - في القادم. ولكن من المهم التركيز على معنى الحديث الوارد في صدر
المقال بين ان تحب وتنتمي وبين ان تكره وتميز أو تتعالى، على انه من غير الطبيعي ان
تحمل في قلبك النقيضين: الحب والكره، ولو اجتمعا عند أحد منا فلا بد انه قد تعرض
لما نسميه بالفيروس النسقي حيث ينطوي على مضمر سلبي ينقض ايجابياته الظاهرية .