قطر كِبرُ المعنى عوَّض صِغَرَ المبنى
بقلم/ د. حسن شمسان
نشر منذ: 13 سنة و 11 شهراً و 6 أيام
الثلاثاء 07 ديسمبر-كانون الأول 2010 06:20 م

لا تنقاس عظمة الدول بما تحوزه من المساحات ذات الاتساع العريض؛ وهي كذلك لا تنقاس بالكم البشري الهائل – إلا إذا كان منتجا – فكم من دول عربية وإسلامية هي ذات اتساع عريض من حيث المبنى؛ لكنها من حيث (المعنى) تضيق بأهلها حتى تشعرهم بالاختناق.

وقطر – على صغر حجمها - ليست كذلك، إذ هي – من دون شك - ليست ذات اتساع عريض من حيث المبنى، لكنها ذات الاتساع نفسه من حيث المعنى، إذ عدت ضمن التقارير الدولية الأولى - عربيا - من حيث الشفافية والنزاهة؛ فبالشفافيات والحريات تنقاس عظمة الدول والأوطان، لا بعرض مساحاتها وكبر مجسماتها، والدول العربية الكبرى مبنىً (لا معنًى) هي في نظر شعوبها ضئيلة القيمة، بل وأهون من بيت العنكبوت.

والوطن – من مقصد قرآني – قد تنول من جانب المعنى لا المبنى؛ إذ نشد التعبير القرآني في الوطن سعة الحريات لا سعة المساحات والمسافات، وذلك يفهم من قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا) (النساء:97). إن مفردة (الأرض) الأولى في الآية الكريمة استعملت بدلالة (الوطن الصغير) للمستضعفين، مفردة (الأرض) الثانية هي أقرب إلى دلالتها العامة؛ أي الأرض المقابلة للسماوات.

وقد استعمل التعبير القرآني الأرض بدلالة الوطن في هذا السياق ليبين للمخاطبين بأن (الوطن) مهما كان اتساعه من حيث المبنى (المجسمات والمساحات) فإنه يضل ضيق من حيث المعنى عندما تصادر الحريات وعلى رأسها حرية الاعتقاد. والتناول القرآني - من خلال أسلوبه التعبيري - يجعل (الحرية) مساوية لـ (الوطن)؛ فيجعله في كفة والحرية في كفة أخرى هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن الاتساع الذي يقرره التعبير القرآني في الوطن هو أقرب؛ بحيث يصبح الوطن (لا وطن) يتحتم تركه وهجره في حالة غياب مفهوم الحرية أو ضيقه.

وليس هناك فرق بين أن يضيق على الإنسان في عقيدته - وهو سياق الآية محل الاستشهاد – وبين أن يضيق على الإنسان في ولائه، فالولاء والبراء دين، إذ تحتم موالاة الكافرين الكفر، وما أكثر ما تضيق الدول أو أنظمتها - على سبيل التحديد – على الإسلاميين، إذ في أغلب الدول الإسلامية لا يوجد لهم مكان إلا في هامش الأوطان، وهو نوع من التضييق لا يبعد عن التضييق في الاعتقاد قيد أنمله. وهذا النوع من التضييق يرتفع فيه سقف الحرية كثيرا، لتجعل الحرية في كفة والحياة في كفة، فتصبح الحرية مساوية للحياة برمتها؛ لهذا فرض الجهاد في التصور الإسلامي ووصف بأنه (حياة)؛ لأنه من خلاله تتسع الأوطان بالحريات وتنتفي عنها الفتنة ليجد المستضعفون ضالتهم ويعتنقوا الإسلام؛ لأنه في حال عدم اعتناق الإسلام يصير الإنسان ميتا؛ وهو ما يفهم من قوله عز وجل: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) (الأنعام122) إذ التعبير القرآني يقرر بأن اعتناق الإسلام (حياة) ومفهوم المخالفة يقضي بأن من لم يعتنق الإسلام هو ميت أو في حكم الميت؛ لهذا كانت الحرية تعادل الوطن تارة وتعادل الحياة برمتها تارة أخرى وذلك بحسب نوع التضييق. ومن أجل أن ينال الناس حرياتهم فرض الله الجهاد وبين التعبير القرآني بأنه حياة لأنه يتيح قدرا من الحرية يستطيع فيه المستضعفون أن يدخلوا في دين الله أفواجا، وكثير من الدول تعمل ليل نهار على مصادرة الحريات وإن كانت هذه الدول ذات اتساع من حيث المساحات والمسافات.

وقطر وطن صغير المبنى، لكنه كبير المعنى، لهذا كان وطن الحرية والنزاهة والشفافية، والوطن بهذه المواصفات هو الوطن المنشود الذي ينشده الناس أجمعون؛ وذلك هو شأن قطر، فالناس تبحث عن سعة الحريات لا سعة المجسمات، وبناء عليه فقد أصبح قطر - صغير المساحات والمجسمات - من جملة أرض الله الواسعة المنصوص عليها في الآية؛ لسعة أخلاق وكرم القائمين عليه، ومن هنا أصبح الناس يتفهمون - جيدا - قول الشاعر:

لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق.

في كل مرة تثبت دولة قطر بأنها كبيرة وهي كذلك تكبر في قلوب شعوب العرب والمسلمين في كل حين، فها هي قطر تفوز باستضافة مونديال كأس العالم لعام 2022، لتثبت للجميع أن العظمة والريادة في الدول تكمن في معانيها وفي قيمها لا مساحاتها ومجسماتها. وإن قطر ذات المساحات الصغيرة تتسع للعالم كله لتثبت للعالم كله بأن الدول العظيمة بمعانيها لا بمبانيها.

إن التعبير القرآني استعمل الأسلوب نفسه مع الثلاثة النفر الذين خلفوا، ليجعل الأرض كلها تضيق عليهم، وليس وطنهم الصغير فحسب، (وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (التوبة:118) فقد استعمل التعبير القرآني (الأرض) ذات الاتساع بدلالة (الوطن)، ليضعنا في صورة ثلاثة نفر قد بلغ بهم الضيق النفسي مبلغه، بحيث لم تعد الأرض كلها تتسع لهم - وهم ثلاثة نفر - فكيف بوطن صغير (!) لماذا هذا كله (؟) لأنهم جُعلوا في هامش الوطن (المعنوي) بعضا من الوقت، وإن كانوا يعيشون في مساحة الوطن (المادي) نفسها، وهم بعد ذلك قد جعلوا في هامش الوطن (المعنوي) لبعض الوقت جزاء وفاقا لذنب اقترفوه، فضاقت عليهم بسبب ذلك الأرض (الوطن) بما رحبت وما هي عليه من الاتساع وهم مذنبون، فكيف بمن هم – بشكل دائما – مقيمين رغم أنوفهم في هامش الوطن ومن دون ذنب أو جرم اقترفوه ؟ أين سيصل بهم الضيق ؟ ألا يخشى الحكام أن يأتيَ يومُ الانفجار (!)