الثورة وإشكالية الهوية الوطنية
بقلم/ علي قاسم البكالي
نشر منذ: 12 سنة و 3 أشهر و 9 أيام
الإثنين 30 يوليو-تموز 2012 10:27 م

قراءة في مسارات الثورة الشبابية

كشفت الثورة الشبابية بجلاء عن حجم القطيعة بين الإنسان اليمني والتاريخ حيث يبدو التاريخ اليمني كدابة جموح لا يستطيع صاحبها الانتفاع بظهرها فيكون الأولى عنده إفلاتها وتناسي أمرها.

ويحاول العقل التاريخي والنخبة العقلية الهروب من الإحساس بثقل المشكلة التاريخية إلى الزهو باللحظة التاريخية والفعل الحادث أملاً في العثور على الذات القادرة على الهام الفعل الاجتماعي وتوجيه الثقافة.

وعلى الرغم من وجود الرغبة العالية والإقدام الشديد لدى اليمنيين في التغني بألأمجاد والزهو بالحضارة إلا أن الانقطاع في السند التاريخي وخاصة من فترة ما بعد الإسلام وحتى التاريخ المعاصر أو تصويره من زاوية واحدة تخدم الفئة التي ينتمي إليها الكاتب واضح في كل مابين يدي القراء من كتب التاريخ ، كما أن اختفاء المشهد الاجتماعي والقيم الإنسانية حوّل تلك الكتابات أشبه بمدونات شخصية تحكي حياة أفراد من المجتمع تغلب عليهم جموح الملك فأخذوا تنازعونه دون هوادة ولا شيء لليمنيين من ذلك سوى تقديم الدماء لخدمة ذلك الصراع الديني المشخصن في حين يحكي التاريخ العام للمسلمين هجرة الآلاف من اليمنيين مابين فاتحين وتجار وعمال حرف إلى بقاع مختلفة من الأرض وهذا يجعلنا أمام تساؤل هل كانت وما تزال اليمن طاردة لأهل الفكر والاختصاص؟ حيث لا تسعفنا المكتبات بتراث علمي وثقافي بقدر الفترة الزمنية والمستوى الحضاري والعلمي الذي كانت اليمن توصف به في حضاراتها القديمة.

ولعل هذا يفسر دواعي التزام المثقف اليمني الحديث عن الحضارات القديمة والرابط بينهما والأحداث المعاصرة مباشرة وترك تلك الفجوة التاريخية دون الحديث عنها أو اقتحام أسوارها وفك شفراتها .

ومن ناحية أخرى نلحظ غيابا واضحا لمفهوم الدولة والشعب والسلطة وقيم المواطنة والعدل والتسامح والنظام والقانون، والاختصاص ، حتى أن السلوك الاجتماعي وخاصة في المناطق المجاورة للعاصمة صنعاء يوحي بأن الفوضى أصل في الثقافة وليس ظرفا عارضا , وهذا يؤكد أن النظام السياسي التاريخي ظل حكرا على مراكز القوى ذات النفوذ والغلبة عبر القوة والعنف وأن السلسلة التاريخية لم تعرف بناء للدولة الوطنية

وقد يتصور البعض عند الحديث عن الهوية أنها مسألة ثقافية لا تتصل بتوجهات المجتمع وتطلعاته ، وهذا هراء إذ أن الشعور بالهوية هو الملهم الحقيقي للنهضة والضمان الأكيد لتحقق السيادة وإلا صار المجتمع مقطوعا عن حركة التاريخ والثقافة كالطفل الذي يرميه اللصوص في الغابة بين الوحوش مقطوعا عن والديه.

كما أن ذلك الشعور يخلق اتجاهات متناقضة في البحث عن الهوية يعود بعضها إلى الأصول العرقية كما كان الحال في ثقافة الأئمة والاتجاه الحوثي حاليا ، ويتجه أخر إلى الهوية الدينية وفق النموذج السني فيلتمسه لدى الجوار ويعطي له الولاء والانتماء، بينما يذهب ثالث إلى التعويض عن القيمة الوطنية بالقومية فيضع قدمه على النموذج المصري بشقيه الديني والقومي، ويفر البعض إلى اقتباس النموذج الحديث لكنه لا يستطيع تركيبه على الجسم الوطني الذي لم يستقم عوده ولم ينضبط بعد وفقا للشروط الدولية، وقد حاول طرف ما الابتعاد عن الهوية الوطنية فكانت القبيلة هي القيمة التعويضية التي ابتنى منها كيانه ، وخلق ذلك اختزال للمشروع الوطني إلى مشروع لقبيلة واحدة سيطرت على كل مفاصل الدولة وكادت أن تجعل اليمنيين مجرد قطيع جائع .

وإذا ما حاولنا تفكيك مشكلة الهوية الوطنية فسنجدها تنحصر في ثلاثة مقومات يشكل حضورها حضورا لمعنى الدولة والمواطنة والسيادة هي :

1- اتصال السند التاريخي ، وانقطاعه يولد الحيرة والاضطراب الاجتماعي ويسمح بالارتباطات الإقليمية على حساب سيادة الدولة الوطنية ، ولا يتوقف الأمر عند ذلك بل يستجر معه كل أفات تلك المجتمعات وينقل أمراضها الاجتماعية وثقافاتها الخاصة وفي ذلك مسخ للهوية الوطنية لأجيال قادمة ، وربما أعطى الصراع الإصلاح مع الحوثي أثناء الثورة نفس هذا المعنى وما خفي كان أعظم.

2- التقدير للقيمة والإنسان ، والقيمة هنا تعني القيمة التاريخية والثقافية ويكاد هذا الأمر يكون غائبا تماما فنحن نعلم تاريخ البلدان الأخرى ونمشي على تراثنا وتاريخنا ننتقيه انتقاء لعدم صلاحية عرض ما كتب عنه أو بعبارة أخرى لتشوه القيمة التاريخية ، أما القيمة الإنسانية فلم تظهر في ثقافتنا التراكمية وغطتها تماما الدماء والأشلاء ، وإذا ما عدنا إلى الإنسان كملهم للقيم أي في جانبه المعرفي والثقافي فسنجده لا يقدر ذاته ولا يجد لذاته تقديرا لدى المجتمع ، وتبرز بدلا عن تقدير الذات ثقافات تمتهن الذات المنتجة والعاملة والمسالمة وتعلي من شأن العنف والسلب وتقسم الإنسان بحسب الطبيعة الجغرافية، وهذه الثقافة ولدت تضخم الذات لدى فئة اجتماعية جعلت نفسها فوق الجميع واستفادت من المكون الاجتماعي المغيب عن المعرفة والذي لا يملك إلا العنف والفوضى.

3- التقدير للأرض والسيادة ، وغياب هذه القيمة سمح لكثير من الأطراف والقوى إعطاء ولاءات إقليمية ظاهرا دون خجل مقابل العطاءات المادية ، وربما تجاوز عدد الذين يتقاضون رواتب خارجية من فئة الوجهاء والمشايخ والعسكر الآلاف ، وقد يتقاضى البعض ملايين الدولارات دون علم الدولة ولا إذنها ، فضلا عن الاستعداد النفسي الذي يخلقه ذلك الشعور ليسمح بالتفريط في كل المصالح الوطنية مقابل الحصول على المصلحة الشخصية ، وهذا الوضع المريب في الحقيقة يمنع بناء الدولة الوطنية ويقتل السيادة ويفرض وصاية خارجية دائمة تمتد لأجيال وأجيال ، وربما رغب البعض في التقليد لغياب النموذج الوطني وعدم قدرته على حل الإشكال وإعمال المراجعة التاريخية والثقافية ، وقد كنت أكره خطاب المنصة الذي ينأى بالثورة إلى الوضع الإقليمي ويحاول إثبات الهوية عبر اتصال السند القومي، لما في ذلك من تتويه للمشروع الوطني الذي يترجمه الشباب في الساحات والميادين.

هذه العوامل هي الشروط الأساسية لتحقق الهوية والبديل لها الضياع وتشتت المشروع الوطني إلى مشاريع مجزأة تستحسن القيم المستوردة كبديل للقيم الأصيلة وهو ما لم يمكن من قيام الدولة الوطنية على الإطلاق.

الإشكالية إذن في موقف الإنسان اليمني من الدولة والثقافة بكل معانيها ومقوماتها وقيمها ، موقفه كمشارك في رسم السياسات وموقفه كمواطن يحترم السياسات وموقفه كمراقب لتنفيذها هل يستطيع الإنسان اليمني التموضع حول مفهوم الدولة والتحيز له وتجاهل ما سواه من المشاريع الضيقة؟

وهل يستطيع الإنسان اليمني التحول إلى مفهوم المواطن الواسع في الشعور والممارسة ؟

هذه الأسئلة يجب أن تفك شفرتها الثورة الشبابية كي تستطيع تخليص كل المشاريع الجزئية من جراثيم الاستيراد والتقليد والعمالة والأنا وإكسابها القدرة على التحول إلى الوطن والتموضع حول مصالحه.