أخيراً تم الثلاثاء في فيينا عقد اتفاق «تاريخي» بين القوى الدولية الست في مجموعة 5+1 وطهران.
ابتسم محمد جواد ظريف من شرفة الفندق الذي يقيم فيه. الإيرانيون يجيدون الابتسام حتى وهم يتألمون. العمامة السوداء قالت إن الاتفاق لا يمس بحقوق إيران، وإن طهران انتصرت ضد «قوى الاستكبار»، لم تنس العمامة أن تدعو الشباب إلى «الاستعداد للقتال» في الوقت ذاته، لأن «قوى الاستكبار العالمي لا تزال تسعى لإذلال إيران». في واشنطن، وفي المكتب البيضاوي كان أوباما يشعر بالارتياح، نفض «الشيطان الأكبر» عن كاهله شيئاً من أعباء الشرق الأوسط، وفواتيره الباهظة، أو هكذا خيل له. قال «الشيطان» أمس إنه منع طهران من امتلاك السلاح النووي، وقالت «العمامة» إنها هزمت الشيطان، أضاف الشيطان، سنشدد الرقابة على طهران، وسندخل إلى المواقع النووية، واكتفت العمامة بالصمت إزاء هذه القضية.
تقول واشنطن إنها ترغب أن تضخ الأموال إلى عروق طهران بشكل يدفع بدماء جديدة في شرايينها، وتقول إنها تأمل أن يحدث التغيير من خلال ضخ هذه الدماء الجديدة في شرايين الاقتصاد الإيراني، الذي سيساعد على تخلق الطبقة الوسطى التي ستقود التغيير المنشود. هذا احتمال وارد، والاحتمال الآخر سيكون أن تضخ هذه الأموال مزيداً من الجثث في مدن العراق وسوريا واليمن ولبنان وغيرها، وهو الاحتمال الخفي الذي تريده واشنطن، حسب مراقبين «سيئي النوايا».
يقول المراقبون «سيئو النوايا» إن واشنطن تريد أن تهيئ العمامة السوداء لتكون رأس حربة «الحرب العالمية ضد الإرهاب»، يفصل هؤلاء المراقبون أن «الإرهاب سني» في عيون واشنطن، وأن أوباما يريد تقوية «إيران الشيعية» وحلفائها في المنطقة لمواجهة «العدو المشترك» في المنطقة، وهو التنظيمات السنية «المتطرفة»، أو ربما الأنظمة السنية المعتدلة. ويلحظ المراقبون أنه على الرغم من أن مجلس الأمن الدولي يفرض عقوبات على تجارة السلاح الإيرانية، إلا أن «الشيطان الأكبر» كان يراقب السفن الإيرانية محملة بالسلاح لتفريغه على السواحل اليمنية لدعم حلفاء واشنطن وطهران الجدد في «الحرب على الإرهاب» في اليمن من الحوثيين. يضيف المراقبون أن الطائرات الإيرانية لم تكف عن توريد السلاح لنظام بشار في سوريا، رغم القرارات الدولية، والأدهى من ذلك أن الجنرال قاسم سليماني يقاتل في العراق بغطاء من طائرات أمريكية.
«جيد هذا الجنرال»، قال جنرال أمريكي وهو يبتسم لزميله، متحدثاً عن قاسم سليماني، «إنه يقوم بالدور المطلوب». إيران إذن ليست «الشرطي القديم الجديد» لواشنطن وحسب، بل هي «الجندي الجديد» أيضاً، في معركة واشنطن ضد «الإرهاب». ولكن هل تدعم واشنطن طهران في هذا السياق لمصلحة الأخيرة؟ بالطبع لا. تريد واشنطن أن تورط طهران بالمزيد من الصراعات الطائفية في المنطقة. الصراع الطائفي سينهك جميع الأطراف، وهذه رؤية أمريكية، وهدف أمريكي في الآن ذاته.
ماذا عن العرب؟
المعني العربي الأول بالاتفاق مع طهران موجود في الرياض، التي تنظر إلى الاتفاق بتوجس، وتخشى من مليارات ستصب لصالح مشاريع «العمامة» التدميرية في المنطقة، ولدى الرياض قلق من قيام علاقات متينة بين الشيطان والعمامة، تعود معها العمامة إلى دورها الطبيعي شرطياً للشيطان، وتضيف دوراً آخر هو دور الجندي المحارب في صفوف الشيطان. قدر واشنطن أن تكون شيطانا لكنها اليوم شيطان بعيون عربية.
العرب متوجسون من التقارب الأمريكي الإيراني، ومن الاتفاق، وهذه ربما الرؤية السائدة في العواصم العربية، والخليجية خاصة، على الرغم من رسالة التهنئة الصادرة من أبوظبي إلى العمامة السوداء، التي توخت إبداء حسن النوايا، واستعادة تجارة مجدية بين أبوظبي وطهران.
بشار الأسد بالطبع رحب بالاتفاق، وهنأ حلفاءه في طهران به، وعينه على 120 مليار دولار ستضخ لحساب العمامة في طهران.
ماذا على العرب إزاء الاتفاق أن يفعلوا؟
بكل بساطة ألا يرتبكوا، ولا يبالغوا في تضخيم خطر الاتفاق، لكن عليهم أن يخففوا قليلاً من حالة الاسترخاء التي سادت السلوك السياسي والاقتصادي والعسكري خلال السنوات الماضية. مهم أن يدرك العرب أن شيئاً كثيراً فات، لكن الأهم أن يدركوا أن شيئاً أكثر لم يفت بعد. العرب قوة اقتصادية وعسكرية وسياسية هائلة، لو أحسنوا ترتيب أوراقهم على الطاولة، وترتيب بيوتهم من الداخل.
إيران لن تفعل أكثر مما فعلت، وليس أمامها الآن إلا التدخل المباشر في حرائق المنطقة، بعد أن كانت تتدخل بحروب الوكالة، والتدخل المباشر سيكون مقتل العمامة وخطأها الاستراتيجي، وهو الشرك الذي تحاول واشنطن من خلاله الإيقاع بطهران فيه. أدركت طهران من خلال الحرب المباشرة مع العراق بأنها تخسر، فلجأت إلى تفريخ جماعات طائفية بعينها لتقوم بحروبها في المنطقة. هذه الجماعات الطائفية يمكن مواجهتها بالمزيد من التنسيق على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والعسكرية. وإذا استمرت إيران في الأسلوب ذاته، وإذا لم تستوعب حقيقة أن واشنطن ما اقتربت منها إلا لكي تحرقها بنيران المنطقة، إذا لم تستوعب طهران ذلك، فإن المجتمع الإيراني مكون من شعوب مختلفة وغير متجانسة، ويمكن للعرب أن يلعبوا بأوراق طهران من الداخل، تماماً كما تفعل هي بأوراقها في البلدان العربية. كل ما هو مطلوب من العرب اليوم أن يبدأوا مقاربة مختلفة في النظر إلى شؤون المنطقة، وأن يتجاوزوا التفكير الكلاسيكي ذي النظرة الأحادية، وأن يلتفتوا أكثر إلى جبهتهم الداخلية، وأن تسد الهوة المتسعة بين الأنظمة والشعوب، بالانفتاح على هذه الشعوب بمحاولة تلبية متطلباتها الاقتصادية والمعيشية، وتوسيع المشاركة الشعبية، والقضاء على العوامل التي تسبب المزيد من الإحباط والمرارة لدى الجمهور العربي الذي تكسرت أحلامه في أكثر من مرحلة من مراحل تاريخ العرب الحديث.
إيران في الأخير قوية لكنها أضعف من صورتها الإعلامية بكثير، ومكامن قوتها ليست ذاتية من داخلها في تصوري، مكامن قوتها في ما يخص صراعاتها في المنطقة تعود إلى انقسامات العرب أنفسهم، وبالتغلب على هذه الانقسامات غير الجوهرية في حقيقتها، يمكن أن نقول بكل اطمئنان إن النصيب الأكبر من عوامل قوة إيران سيسحب من يدها.
مطلوب أن يودع العرب مرحلة «الاسترخاء» التي استمرت فترة طويلة، ويبدو أنهم في بدايات توديع هذه المرحلة، التي تتطلب أن يكون العمل قائماً على المؤسسة، وليس الفرد، حتى يكتب له الاستمرار والنجاح. العرب أقوياء، وكل ما هو مطلوب منهم أن يعرفوا أنهم أقوياء، بمعرفة مكامن القوة فيهم. ألم يقل فرانسيس بيكون: المعرفة قوة؟