|
تقدمت الكاتبة الصحفية منى صفوان في مقالها ( في غياب اليسار.. ننتظر المدنية من الإسلاميين) بصب جام غضبها على من تسميهم (بمثقفي اليسار) وتستحث وجودهم وتأثيرهم في الساحات اليمنية الثائرة, وفي نفس الوقت ترسم سبب هذا الغياب قديما وحديثا, وقد أعزت هذا الغياب إلى البقاء في عالم النظريات الفكرية والتقوقع الفكري داخل شخصيات أفراد منعزلين عن المجتمع وحيات الناس, معربة أن هذا الانعزال برع في استغلاله الإسلاميين فشكلوا قاعدة اجتماعية وشعبية كانت الأقوى بين كل التيارات فرغم ضعفها تبقى قوية لعدم وجود منافس لها.
وتعترف صفوان ببراعة التيار الإسلامي في التنظيم الشعبي والمجتمعي , كما لم تُخفي خوفها الشديد من انبثاق الحركة المدنية داخل مظلة التيار الإسلامي كما حدث في تركيا. ثم تتحدث بلسان التيارات اللبرالية قائلة (هل علينا انتظار انبثاق مشروع العلمانية داخل الحركة الإسلامية). وتعزوا صفوان إلى أن النجاح الفعلي للثورة يكون بتكافؤ التيارات الفكرية فيها, مستنهضة همم (المثقف المدني واليساري) حتى يضع بصمته في الأحداث الراهنة في اليمن.
إن السيدة صفوان تعترف اليوم بإخفاق أصحاب المشروع المدني أو قل المشروع اليساري في اليمن, ثم تبيّن بعض الأسباب الجوهرية في هذا الإخفاق بعدم تواجد هذا التيار في المجتمعات الشعبية كفاعل مؤثر له دور قوي.
وفي تاريخ التيارات الفكرية عموما والعربية خصوصا لا تفلح التيارات الفكرية المنفصلة عن حياة الناس وهمومهم ومعاناتهم والتي تعيش في بروج عاجية من الأفكار والأوهام المستوردة لمجتمعات تحمل أيدلوجيات تكاد تختلف تماما عن المجتمعات العربية بشكل عام أو المجتمع اليمني بشكل خاص. وكلما كان هناك خلاف في طرح هذه الأيدلوجيات البعيدة كل البعد عن فهم الطبيعة اليمنية التي نستطيع أن نحدد بعض ملامحها بطبيعة قبلية دينية محافظة, يكون التيار الليبرالي اليسار المدني والذي يحمل أجندات في الغالب علمانية غربية يسارية لا يحالفه التوفيق في الوصول إلى رضى الشعوب المتطلعة للحرية او للتقدم, إلا ما كان عن طريق فرض هذه المدنية والحياة اللبرالية واليسارية بالبندقية أو السياسة القمعية او النظم الاستبدادية كما حدث في كثير من الدول العربية التي اجبرت على تجرع اللبرالية او اليسارية او العلمانية تجرعا , ليتولد بعد ذلك على المدى البعيد مجتمع ساخط ينتظر الفرصة ليلفظ تلك الغصة التي تجرعها.
وما الثورات العربية إلا ثمرة لانتفاضة على فكر ليبرالي يساري او علماني إقصائي تدعيه كل النظم العربية الحاكمة كاستنساخ لحياة غربية مغايرة تمامًا لواقع المجتمعات العربية بكل نواحيها, فحين حدث الفشل وسقطت الشعارات الكاذبة بعد تجربة سنين بل وعقود في طرح هذا الفكر على الناس لإقناعهم حملوا الناس على تبني هذا الفكر عبر الإكراه في الوصول إلى سدة الحكم وفرض فكرهم فرضا والواقع يشهد بذلك في كل الدول العربية.
إن ثورة الشعوب العربية اليوم تُعلم كل صاحب فكر مهما كان مستوردا أن هذه الفكر إذا كان بعيدا عن حياة الناس كل الناس بأطيافهم المختلفة ومشاربهم المتنوعة فسوف يكتب له الفشل الذريع حتى وان قاد هذه الشعوب فسيقودها على مضض وكره دون حب واقتناع منتظرين أي ضعف للخروج على هذه الأنظمة.
إن جوهر الديمقراطية هي أن تقبل الرأي والرأي الأخر دون إقصاء, مادام أن صاحب هذا الرأي يحمل مشروعا إصلاحيا اثبت تلاؤمه وتوازنه وتلبيته لحاجات المجتمع والشعوب فكرية وروحيا واقتصاديا, وان أي إغفال لجانب من هذه الجوانب سيكون مصير هذا الفكر الفشل وان يكون محصور في عقل صاحبة, والتجربة التركية خير مثال والفوز الساحق لحزب العدالة والتنمية خير دليل لحزب استطاع أن يُقنع شعب عاش لعقود تحت ظل الفكر العلماني المحارب للتيار الإسلامي, عندما حقق سقفا لا بأس به من الديمقراطية في الاختيار لمن يمثل الشعب هذه الديمقراطية التي نفتقدها فيدولنا العربية. لقد اختار الشعب التركي حزبا بأغلبية ساحقه حزبا استطاع أن يعرف أين يضع يده ليداوي جراح الشعب ليكسب تأييد الملايين دون أي أفكار مستوردة لا تتلاءم مع ثقافة شعب له تاريخ وله خصوصية.
إن الدولة المدنية ليست حكرا على (المثقف المدني اليساري) وليست المدنية حكرا في معناها على من يحملون هذا الفكر. كل هذه رسائل إقصائية لكل من يحمل فكرا إصلاحيا للمجتمع أو يحتكر المدنية في مسمى الفكر اليساري أو اللبرالية أو العلماني. ستظل الأفكار مجرد شعارات وأوهام ما لم ينزل أصحابها إلى واقع الناس ويتلمسون معاناتهم واحتياجاتهم ويفهمون حقيقة كيف يفكرون أو ماذا يريدون ويَخبرون معانات المجتمعات. ستظل هذا الأفكار بضاعة كاسدة لا تجد من يشتريها لعدم استخدامها في مجتمعاتنا العربية التي يشكل فيها الدين ركيزة أساسية والعادات المحافظة عنصر فعال ووجود القبيلة والأعراف أساسا مكونا في المجتمع, ولن تمحى هذه العادات مادام هناك من يحميها كالقبيلة.
إن اعتراف الكاتبة بهذا الإخفاق الذريع لمن سمتهم (المثقف المدني) لهو بحق انتصار كبير لمن يحملون مشروعا ديمقراطيا إصلاحيا واعيا بغض النظر عن الخصومة التي بين هذه التيارات وبين بقية التيارات وخصوصا التيارات الإسلامية ومحاولة إظهار التخوف الشديد من وجود تيار إسلامي يقود الثورة اليمنية او الثورات العربية يذكرنا بفزَّعات الماضي القريب والتي تعترف الكاتبة بفشله ككاتبة يسارية معروفة.
إن أغلب الدول العربية ترفع شعار الليبرالية والمدنية والتقدم والديمقراطية ولا توجد دولة عربية ترفع شعار ديني بحت وصرف, ليجعل الحُكم على تجربة التيار الإسلامي بالفشل إنما هو خوف مستبق لا مبرر له, مبني على هالة إعلامية عربية وغربية لتشويه هذا التيار المنبثق من رحم معانات الشعوب العربية. والمتأمل في الثورات العربية يجد دون أي مكابرة أن التواجد الحقيقي في هذه الثورات كان للتيارات الإسلامية بمختلف أطيافها والتيارات المنبثقة من رحم الشعوب المقهورة, هذا التواجد الذي افرز وعيا كبيرا بمتغيرات الواقع الراهن بكل متغيراته المصيرية الهامة حتى أصبحنا نسمع اليوم ولأول مرة بما يسمى بأحزاب (سلفية) كانت تعتقد أن التحزب يوما من الأيام جرما كبيرا. هذا النضج لدى بعض التيارات الإسلامية يرعب كثيرا من التيارات اليسارية واللبرالية لما يعلمه هؤلاء من أن هذا النضج يزيح ما تبقى لهؤلاء من وجود وبصيص أمل في ترويج أفكارهم.
إن تواجد هذه التيارات داخل واقع يفرض التأقلم والتناغم مع الحياة السياسية يحتم عليها أن تعرف حقا أين تضع قدمها في عالم متسارع لا يرحم, وهذا الذي نريده من هذه التيارات الإسلامية كي يزيد نضجها ووعيها بالمتغيرات وعدم الجمود داخل الأفكار ومواكبة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مع الاحتفاظ بالثوابت والمرونة في المتغيرات.
*كاتب وباحث يمني, الدوحة.
في الأربعاء 29 يونيو-حزيران 2011 04:26:40 م