|
ومر عام على جمعة الكرامة في مثل هذه الأيام وفي 18 مارس من العام الماضي كانت صنعاء تنزف جراحا و دماءا , طرقاتها أحيائها ساحاتها تغلي من تحت الأقدام وتفجر مفاجآت الموسم القادم , انه الربيع العربي احمر اللون في اليمن , وتستطر للتأريخ مجزرة خطت بدمآء الشهدآء عن فضاعة الإجرام وقتل زهور الشباب الأبرياء العزل , وكان الإعلام الدولي حينها يلتهب والصحف تنتفض بالأخبار , وتصدرت جمعة الكرامة عناوين الأخبار والصحف , وتتالت الخطابات والإدانات المحلية والدولية للنظام وبشاعة المجزرة, كانت صنعاء تصرخ باكية من شدة الأنين والألم وهي ترى البنادق تحصد أرواح شبابها وسواعدها الفتية , حينها صنعاء لم تنم بل الوطن بأسرة انتفض يشاطرها الألم , وثار لازال يداوي جراحها ومصابها الجلل , مر عام ومازالت الكرامة جرحا غائرا في عمق جسد الوطن , وبقعة سوداء قاتمة لن تمحى في تأريخ اليمن الحديث , وبصمة خزي وعار أبدي في جبين الإنسانية , مر عام وما زالت جراح أسر الشهدآء تسطر معاناة كبيرة لا تنتهي , ودموع الثكالي تنقش على خدود الحسرة مجار من شوق ضائع وحب لم يدم , ولياليهم أنات مستطيرة بها صنوف وألوان القهر و العذاب , لم تخفف حدتها تقلبات السياسة والتسويات واتفاق الفرقاء , مر عام ومازالت القضية برمتها مخفية في دهاليز السياسة وأروقة القضاء ومازال الجناة مجهولي الهوية وربما طلقاء , ولم يقدموا للمحاكم العادلة والقضاء , في ظل التكهنات القائمة وتضارب الانباء عن الجهة والمسؤولية التي تبنت العملية , والتي راح ضحيتها 52 قتيلا ومئات الجرحى .
وقيل حينها انه تم القبض على الجناة وتقديمهم للعدالة والاعتقال , وبلغ عدد المتهمين في هذه القضية المأساوية 79 من بينهم قائد الأمن المركزي وقائد القوات الخاصة , رغم حتى هذه اللحظة لم يتم طلب الاستدعاء والتحقيق معهم في هذه الجريمة النكراء , وما رافق تلك الفترة من عزل النائب العام الدكتور عبدالله العلفي على خلفية استعداده تبني التحقيق مع أفراد العائلة الحاكمة المتورطة في مذابح جمعة الكرامة , حينها لم يألو النظام جهدا في إصدار قرار رئاسي بإقالته من منصبة وتعيين الدكتور علي أحمد الأعوش نائبا عاما , يطرح بحد ذاته كثيرا من التساؤلات والتكهنات عن مدى جدية النظام الحالي في تطبيق العدالة وفرض سلطة القانون بعد هذه التغييرات , و بعد التمادي الواضح في إهدار وسفك الدماء والمماطة والتسويف في فتح ملف القضية الجنائية , التي تعتبر بحد ذاتها قضية رأي عام ووطن , وإحالة جميع الجناة والمتورطين و تحقيق العدالة والاقتصاص لدماء الأبرياء , ومع مرور الأيام وتقلبات العملية السياسية في اليمن كانت جمعة الكرامة تضيع وتتلاشي تدريجيا خلف سراب الجمع الثورية المنضوية وراءها بإسهاب شديد .
ضاعت الكرامة ودفنت في مدافن السياسة وفي رحى المفاوضات والمهاترات , وتبدد الأمل بإحداث نقله نوعية قضائية عادلة تستجيب للمطالب الشعبية بالعدالة , وكشف المستور عن ملابسات القضية والمتسبب وراءها ,وعن تلك الدوافع الأنانية لذبح ابنآء الوطن مع سبق الإصرار والترصد وبلا رحمة, خاصة بعد ان أقدمت قوات الفرقة الأولى مدرع عن اعتقال المشتبه بهم و المتورطين في القضية مباشرة بعد المجزرة , وبعدها تضاربت الأنباء عن مصيرهم او تسليمهم او إخفائهم قسرا , في ظل مناداة ذويهم بإطلاق سراحهم بحجة الاعتقال دون تهمة او تحقيق.
كان لجمعة الكرامة دورا كبيرا في إحداث تغييرات جوهرية و فارقة في التأريخ اليمني المعاصر , فبعد موجة الإنسحاب الجماعية للقيادات السياسية والدبلوماسية من الحكومة والنظام الحاكم , أعطت زخما ثوريا متناميا , واعترافا دوليا عاليا , و مثلت بحد ذاتها ضربة قوية و موجعة للنظام , وهزه عنيفة أخلت بتوازن الولاءات بين أركان النظام الواحد , وكانت بداية السقوط والنهاية الحتمية لأمبراطورية الشر ومنظومة الأسرة الحاكمة كاملة , لولا تدخل القوى الاقليميه والداخلية الموالية لفرض اجندتها الخاصة تلبية لمصالحها ومطامعها في المنطقة وإنقاذ النظام من التهاوي , ولولا ركوب الموجة الثورية من قبل جهات محسوبة بشكل او بآخر على النظام الحاكم , لكان النظام ومنذ زمن بعيد في عداد الأنظمة الساقطة والمنتهية فعليا , مرت الكرامة الوطنية خلال مسيرتها الجماهيرية في مراحل متقلبه وطرق شائكة ووعرة , وضاعت في رحى السياسة وخطى التآمر والاستسلام , ومعها ضاعت دماء الشهدآء والجرحى , واختفت وتلاشت في أروقة المبادرات والمفاوضات والتسويات العقيمة , وكانت المبادرة الخليجية بمثابة القشة التي قصمت آمال تحقيق العدالة , وإنقاذ الكرامة والهوية الوطنية من براثن أتون الضياع , فالحصانة والعدالة الانتقالية وأدت جمعة الكرامة , وساقت التضحيات الجسام الى مستنقع و وحل التآمر و السقوط الأخلاقي وانعدام الوازع الديني .
وحين تمت الإنتخابات الرئاسية ذهب أغلب اهالي ضحايا الكرامة وشهدآء الوطن في مختلف محافظات الجمهورية لزيارة ذويهم في المقابر تعبيرا عن الرفض القاطع للانتخابات , ورفضا للتلاعب السياسي المطلق والمتاجرة بالدمآء الزكية , احتفلت الثورة الشبابية وقوى التآمر بتتويج هادي رئيسا وسقوط على صالح من الرئاسة , بينما أهالي الضحايا والشهدآء حينها يذرفون الدموع ويبكون الكرامة الضائعة وسوء المصير والمنقلب , وما آلت إليه الأمور من تواطئ وتبدل المواقف والتهاون في إحقاق العدالة , وكانت ترجمة الواقع السياسي اليمني تفرض من تضحيات الشباب العزل مجرد سلم و وسيله للوصول الى غايات سياسية وتحقيق مكاسب ومصالح معينة , وأداة انتهى مفعولها السحري بمجرد إعلان حكومة الوفاق الوطني وتحقيق الغايات الحزبية من الانصهار الكلي في النظام السياسي والحصول على مكان وموضع قدم فيه , فاختفت الأصوات المنادية بتحقيق العدالة الثورية تدريجيا , وتلاشت معها المسيرات والمظاهرات الصاخبة المطالبة بتقديم الجناة للمحاكمة ورفض الحصانة والعدالة الانتقالية , في مشهد درامي متناقض عجيب .
اكتسبت تضحيات الكرامة ثقلا تاريخيا هاما بسبب الغموض الذي اكتنف أحداثها وتداعياتها , وأضافت الى التأريخ اليمني الحديث مزيدا من الغموض والإبهام في تسلسل الأحداث الدموية والإغتيالات والمجازر والحروب التي مرت بها اليمن , منذ مقتل الرئيس الشهيد الحمدي والغشمي واختفاء عبدالفتاح اسماعيل في ظروف غامضة , وما قبلها من أحداث ووقائع غامضة , وما بعدها من أحداث يناير المشؤوم وحرب صيف 94 وحروب صعده الست امتدادا الى وقتنا الحاضر , فتأريخ اليمن حافلا بالغموض والأسرار والخفايا , وزادته التدخلات الخارجية والمبادرات غموضا في غموض, وأصبح تأريخا ملوثا شاحب الألوان ضبابيا غائما , اختفت فيه الملامح الحضارية الحقه والصادقة , وغابت عن رؤاه ووقائعه روح الحقيقة وينابيع المجد و مناهل الصمود , وتطوى صفحة جديدة من تأريخ اليمن دون ان نستطيع قراءته والتمعن في معانيه وأحداثه و معرفة حقائقه الكاملة , كما لم تعرف أحداث مجزرة الكرامة ومجرميها , وغيرها من المجازر و الجرائم التي امتدت على طول الوطن وعرضه وحتى الآن , وعليه أصبح الدم اليمني بلا ثمن ولا قيمة له , ولا مكان له في صناعة التأريخ , وأغفل عنه الكثير من أقلام الكتاب والمحررين والمحققين .
لم تجلب الحصانة والعدالة الانتقالية الا الخزي والعار لموقعيها ومنتجيها بصورها المختلفة , وكانت بفلسفتها المغلوطة ونصوصها الملتوية وتناقضاتها الصارخة والتفافها الواضح على العدالة الإلهية , تمثل انتهاجا مقيتا للتجهيل واستغفال الإرادة الشعبية , حين استمدت قوتها وشرعيتها من الخارج غير عابئة بمطالب أولياء الدم بالقصاص العادل , وطغت حالة وحادثة النهدين على حادثة وجمعة الكرامة , فاجتهد المجتمع الدولي والعالمي لإيجاد المحققين والاشتراك في التحقيقات , وفك لغز وشفرة حادثة النهدين وملابسات التفجير , و البحث عن الأيادي المسببة ورآء حادثة الاغتيال , وطفت حادثة النهدين على سطح الأخبار والتحليلات , وحازت على الأهمية القصوى البالغة في البحث والتحري والمتابعة , وتم تفصيل المبادرة الخليجية بناءا على مقاس النظام بما يتناسب مع الحادثة والجرائم الأخرى التي ارتكبت بحق الوطن .
وقبل تنازل الرئيس السابق عن مقاليد الحكم والسلطة اصدر عفوا رئاسيا عاما عن جميع مرتكبي الجرائم -على أساس العدالة الانتقالية- مستثنيا المتورطين في جريمة تفجيرات جامع النهدين , وهذا ما يضع صورة أكثر مأساوية وبشاعة عن مدى الحمق والغباء السياسي المستفحل , والتمييز بين ايناء الشعب اليمني والضحايا حسب المزاج والاهوآء السياسية , وما تداول هذه الفترة بالذات عن الشروع في محاكمة المتهمين في حادثة النهدين وفتح ملف القضية مجددا , وإغفال بقية الملفات والجرائم ماقبل ذلك التأريخ بكثير , لهو بحد ذاته مدعاة للأسف والحسرة على ما وصلت إليه الأوضاع الإنسانية والمواطنة في اليمن من التمييز القضائي العنصري الفاضح في التعامل مع مجمل القضايا العالقة والجرائم إبان الانتفاضة الشعبية , وهذا ما وضع مدى جدية ومصداقية الحكومة الحالية على النظر بعين العدالة والمساواة لأبنآء الوطن الواحد ككل دون استثناء او إقصاء او تمييز يذكر على المحك الأخلاقي والديني والقضائي , وبعد مرور عام من ذكرى الكرامة نتسائل بجدية وتأمل عما حققته الثورة وقدمته فعليا لهؤلاء الشهداء , وما تم تحقيقة من اهداف كلية ومشروعة قدموا أرواحهم ثمنا لها , فهل سقط النظام كليا , وهل تم تقديم الجناة الحقيقيين للمحاكمة , وهل تم الاقتصاص من الجناة ومجرمي النظام , و هل جمدت الأموال المنهوبة واعيدت للوطن اكراما للضحايا والشهداء ولعيون الوطن , وهل تم تحقيق أسس الدولة المدنية الحديثة التي خرج هؤلاء الشباب لأجلها , هل ما استطعنا الخروج به من الثورة فقط هو أنصاف الحلول وأنصاف الثورات , تساؤلات عديدة تجول بخاطر الجميع وبلا جواب .
اختتم إطلالتي بالدعوة لقراءة الفاتحة لشهدآء الكرامة وجميع شهداء الوطن , تغمدهم الله بواسع رحمته وأسكنهم فسيح جنان الخلد والفردوس , وأنهي المقال بأبيات معبرة للشاعر المصري الشاب الثائر ابو عبيدة محمد , وربما وصفة للثورة المصرية يشاطر بها الألم ثورة اليمن وما لم تحققه من أهداف كاملة:
ومرّ عام
وأنا أحاولُ جمعَ أشلائى
فيمنعنى الزحام
يتفاوضون على دمى
عامَا بأكمله
فماذا بعد عام ؟
من هُنا يأتى اتهام
من هُنا ردُ اتهام
صارت حصيلتهم كلاما
فى كلام
عجبا يسير بنِى للخلف
وكل الناس تمشى للأمام
قد مر عام
والخوف يسكن فى الشوارع
والحق فى الساحات ضائع
قد جمعتنا ثورة الأحرار لكن
فرقونا بالمطامع
فإذا بنا والدم فى الطرقات
أصبحنا نقاطع أو نبايع
لَم نُحاكِم قاتلا
أو سَارقاً
والسرُ أصبح
مثل نور الشمس شائع
قد مر عام
والشهيدُ يزورنى
عيناه تجلدنى
فيختنقُ الكلام
واليوم أخشى أن أنام
ماذا أقول له أنا
من بعد ما قد مر عام
في الأربعاء 14 مارس - آذار 2012 05:14:34 م