هدية عباس لإسرائيل .. إسقاط المقاومة
بقلم/ فهمي هويدي
نشر منذ: 17 سنة و 3 أشهر و 7 أيام
الأربعاء 01 أغسطس-آب 2007 04:24 م

أحدث هدية قدمها الرئيس محمود عباس للإسرائيليين هي إسقاط حق المقاومة في برنامج حكومة سلام فياض، الأمر الذي كان له صداه الذي تابعه في أوساط المقاومين في مختلف الفصائل الفلسطينية، وهي خطوة تفاجئنا ولا تصدمنا، ليس فقط لأن أبو مازن اختار في نهاية المطاف أن يراهن على الأمريكيين والإسرائيليين، وبالتالي فإنه لم يكف عن محاولات استرضائهم طيلة الوقت، وإنما أيضا لأن الرجل لديه عقدة تاريخية ضد المقاومة التي هي وسام على صدر كل مواطن شريف يسعى لتحرير بلده. فهو لم يحمل سلاحاً في حياته ولم يطلق رصاصة ضد العدو المحتل (الدكتور فياض لا يختلف عنه في ذلك).

ليس ذلك فحسب وإنما أحسبه الوحيد بين القياديين الفلسطينيين الذي سب المقاومين في العلن حين وصف إحدى العمليات الاستشهادية بأنها «حقيرة». وليست مصادفة في هذا السياق أن يصدر الرجل كتاباً من 600 صفحة حول محادثات أوسلو لم يستخدم فيه مصطلح الاحتلال ولو مرة واحدة. وهذه الخلفية تساعدنا على تفسير وفهم موقف حكومة سلام فياض الأخيرة الذي عبرت عنه في برنامجها. فإذا كان رئيس السلطة قد اسقط مصطلح الاحتلال من كتابه، فلا غرابة في أن يتخير رئيساً للوزراء يسقط المقاومة من برنامج حكومته. وحين اتخذ هذه الخطوة، فانه كان يعبر عن قناعة حقيقية لديه تعتبر المقاومة ضد الاحتلال التي تكفلها كل القوانين والأعراف والديانات عملا شريرا. أما المقاومة المسلحة فهي عنده كارثة لم تجلب إلا الخراب والدمار للفلسطينيين، علماً بأن السلطة التي يتربع على رأسها ما كان لها أن تقوم إلا نتيجة لضغوط المقاومة. الأهم من ذلك أن أبو مازن منذ حسم خياره السياسي وقرر المراهنة على الأمريكيين والإسرائيليين، فقد ظل شاغله الأساسي في كل قرار اتخذه هو هل يمكن تسويقه أمريكيا وإسرائيليا أم لا؟!. وليس ذلك موقفاً جديداً لأنه عبر عن ذلك مرات عديدة منذ تولي السلطة. وكان ذلك أوضح ما يكون في موقفه من وثيقة الأسرى، التي عرفت باسم وثيقة الوفاق الوطني، التي تبناها في العام الماضي وهدد بإجراء انتخابات عامة إذا ما رفضتها حركة حماس، لكنه تخلى عنها بعد التوافق على مضمونها، وكانت حجته الأساسية أن الوثيقة يتعذر تسويقها أمريكيا .
.

لم يقف الأمر عند حد إسقاط حق المقاومة، ولا توجيه الاتهامات التي استهدفت تشويهها واعتبارها عملا غير شريف، وإنما بذل أبو مازن جهداً مثيراً للدهشة لإضعاف صف المقاومة وتثبيط عناصرها. تجلى ذلك بشكل واضح في اتفاقه مع حكومة اولمرت على «العفو» عن المقاومين المطاردين، إذا ألقوا سلاحهم وتعهدوا بعدم مهاجمة العدو المحتل. وهي التمثيلية الفجة التي أريد بها إغواء المقاومين للتخلي عن دورهم، مقابل تأمينهم وإعطاء بعض المال للذين يلقون سلاحهم منهم، في سابقة نادرة في التاريخ النضالي. حيث لا نعرف نموذجاً لحالة مماثلة، أن يتولى رئيس لمنظمة «للتحرير» رشوة المقاومين لكي يتخلوا عن رسالتهم، ولا ننسى أن اتفاقه مع الإسرائيليين على وقف مطاردة الذين يلقون سلاحهم يعني ضمناً إطلاق يدهم في ملاحقة وتصفية الذين يتمسكون بخيار المقاومة ويرفضون إلقاء السلاح .
. 

  

قلت إن عملية «العفو» عن المطلوبين ليست سوى تمثيلية فجة، لأن الأغلبية الساحقة من الـ 180 مطارداً الذين قيل أنهم استفادوا من «العفو» الإسرائيلي، لم يكونوا من المقاومين أصلا، وإنما هم من عناصر من أجهزة أمن السلطة انتحلوا صفة المطاردين لكي يعيثوا فساداً في البلاد، ويقوموا بالأعمال القذرة التي لا يراد لها أن تنسب إلى الأجهزة الرسمية. من النماذج البارزة لذلك شخص حليق الرأس يدعى «أبو جبل» من نابلس، عرضت شاشات التلفزيون صوره وهو يقوم باختطاف قادة وشيوخ حركة حماس ويهينهم في الإحداث الأخيرة، وقد ظهر ممتشقاً رشاشه «الجاليلي» الإسرائيلي الصنع. وهو الذي لم يتورع عن اصطحاب فريق تصوير تابع للقناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي لكي ينقلوا على الهواء مباشرة عمليات خطف نشطاء حماس، لطمأنة المشاهد الإسرائيلي إلى أن ثمة شريكاً فلسطينياً حقيقياً لإسرائيل في حربها ضد المقاومة. وللعلم فان مصادر المقاومة الفلسطينية تقول أن أبو جبل هذا الذي شمله «العفو» لم يطلق في حياته رصاصة واحدة ضد أي هدف إسرائيلي، برغم أن جنود العدو يقتحمون يومياً مدينة نابلس التي يقيم بها والمخيمات المتاخمة لها.

  

ومن أسف أن أجهزة السلطة تمارس ضغوطاً على المقاومين لحثهم على إلقاء سلاحهم، وتستدرج قياداتهم لعقد صفقات معهم بهذا الخصوص. ففي رسالة تلقيتها من الضفة الغربية أن مدير مكتب وزير الداخلية في حكومة فياض، أجرى اتصالا مع احد قيادات حركة الجهاد الإسلامي في جنين وعرض عليه أن يقوم قادة وكوادر «السرايا» بتسليم أسلحتهم للأجهزة الأمنية وان يتعهدوا بوقف المقاومة مقابل أن توقف إسرائيل بدورها ملاحقتهم. وهو ما أكده الشيخ وليد العبيدي قائد سرايا القدس ـ الجناح العسكري لحركة الجهاد ـ في شمال الضفة الغربية، الذي قال إن الحركة رفضت العرض وطلبت عدم مفاتحة قياداتها في الموضوع

  

أضافت الرسالة التي تلقيتها أن إعلان قائمة «المطلوبين» الذين شملهم العفو الإسرائيلي أريد بها أيضا استدراج العشرات من نشطاء حركة فتح الذين لا يزالون يمارسون المقاومة في الضفة الغربية. أما نشطاء حماس في الضفة فإن أجهزة الأمن التابعة لابو مازن تلاحقهم بوسائلها الخاصة، التي من بينها الاختطاف والتعذيب. وبالمناسبة فإن أجهزة السلطة تستدعي الآن عناصر حماس لاستجوابهم والتحقيق معهم حول امتلاكهم للسلاح. في الوقت الذي تدفع فيه مكافآت لمن يلقي سلاحه، هل هذا معقول؟ 

  

إن المرء حين يتابع المكاسب التي جنتها إسرائيل على الصعيد الاستراتيجي خلال الآونة الأخيرة، فسيجد أن القائمة طويلة ومخيفة، في مقدمتها ما يلي

  

 *
استثمار فكرة مبادرة السلام العربية لأجل الالتفاف على التطبيع، الذي تحدث عنه صراحة الرئيس بوش في خطابه الأخير، ولم يقصر اولمرت في الإلحاح عليه حين زار إسرائيل وزيرا خارجية مصر والأردن، وحين التقاهما تمنى عليهما أن يصطحبا معهما في الزيارة القادمة عدداً آخر من الوزراء العرب الذين يمثلون دولا أخرى

  

  *
تقسيم العالم العربي إلى معسكرين، احدهما «معتدل» يتجاوب مع الطروحات الأمريكية والإسرائيلية، والثاني متمرد على تلك الطروحات ومن كل هذه القسمة جرى مد الجسور بين دول الاعتدال وإسرائيل في أركانها بطبيعة الحال

  

*
إسقاط حكومة الوحدة الفلسطينية، وشق الصف الفلسطيني من خلال إيقاع الطلاق بين فتح وحماس، ودفع أبو مازن إلى التخلي عن مرجعيات العمل الوطني الفلسطيني: وثيقة الوفاق الوطني ـ وتفاهمات القاهرة ـ واتفاق جدة

  

*
احتماء أبو مازن بالمربع الإسرائيلي الأمريكي في مواجهته لحركة حماس، والمراهنة على ذلك المربع في رفض دعوة الحوار التي أطلقتها القاهرة وأيدتها دول أخرى مثل السعودية وسورية

  

ـ إعادة التنسيق الأمني الكامل بين الأجهزة الفلسطينية والإسرائيلية، الذي كان قد توقف في أعقاب انتفاضة عام 2000. ومفهوم أن الهدف الأساسي لذلك التنسيق هو حماية إسرائيل من هجمات المقاومة، وقد انضاف إليه مؤخراً هدف آخر هو القضاء على حماس وتصفية المقاومة الفلسطينية

  

*
إسقاط حق المقاومة الذي سبقت الإشارة إليه. علماً بان أبو مازن صرح لصحيفة «معاريف» هذا الأسبوع بأنه يتفهم موقف إسرائيل من رفض حق عودة الفلسطينيين إلى بيوتهم التي طردوا منها، ولكنه يفكر في ابتكار حل آخر يرضي الطرفين. وليس كافياً أن ذلك الحل المبتكر سوف يستجيب للمطالب الإسرائيلية بأكثر من تعبيره عن الأشواق الفلسطينية، ولا ينسى في هذا الصدد أن احد مساعدي أبو مازن البارزين ـ ياسر عبد الله ـ كان قد أسهم في مشروع إسرائيلي للحل يسقط حق عودة اللاجئين.

  

كما رأيت فان إسرائيل حصدت الكثير، ولم تقدم شيئاً يذكر للفلسطينيين، باستثناء بعض الأمور التفصيلية المتعلقة بتحويل الأموال وتمرير السلاح والحديث عن تخفيض الحواجز. إن شئت فقل إن إسرائيل أنجزت الكثير على الصعيد الاستراتيجي، في حين أن ما حققه أبو مازن لم يتجاوز بعض الأمور التكتيكية والفرعية والتي لا علاقة لها بموضوع الصراع أو مستقبله .
. 

  

أغرب ما في المشهد أن يعبر بعض المسؤولين العرب عن تفاؤلهم بتقدم مسيرة السلام. وان يصرح أبو مازن بأن التسوية النهائية للقنصلية يمكن أن تتم خلال عام. وجه الغرابة في هذه الإشارات المتفائلة أن أي باحث منصف لا يكاد يرى قرينة واحدة على التقدم المنشود. لان كل ما نراه هو تراجعات وتنازلات من طرف إلى آخر. ولكي أكون أكثر دقة فربما جاز لي أن أقول بأن صدور هذا الكلام عن الاسرائيليين مبرر ومفهوم، لأنهم يتقدمون بالفعل وينجزون لصالح مشروعهم، الذي هو على النقيض تماماً من الحلم الفلسطيني والأمن القومي العربي. إذ بوسع اولمرت أن يطمئن الإسرائيليين إلى أن الأمور على ما يرام تماما على الجبهة الفلسطينية، وان أبو مازن مشغول الآن وفي الأجل المنظور بتصفية حماس، ولم تعد بنود القضية الفلسطينية ضمن أولوياته. بل إنه بعد كل الذي دفعه لم يستطع أن يحصل من إسرائيل على تعهد بوقف الاجتياحات والاغتيالات، أو وقف الاستيطان. وحين يكون ذلك موقفه فلن نتوقع منه أن ينجز شيئاً يذكر في ملفات السور والقدس والحدود والمستوطنات والعودة. وسيظل في نهاية المطاف واقفاً ينتظر ما تجود به إسرائيل، لتحفظ له ماء الوجه الذي يمكنه من الاستمرار في الدور المنوط به والمتورط فيه .
. 

  

لقد قلت في مقام آخر إن أبو مازن يركض سريعاً على طريق الندامة، وها هو يبرهن لنا يوماً بعد يوم إن ذلك هو الخيار الذي لا يريد أن يحيد عنه. حتى يحقق لإسرائيل ما تريد، ولكي يبلغ إلى واشنطون أنها تستطيع أن تعد عدتها لضرب إيران، مطمئنة إلى أن تسكين المنطقة مستمر، وان المخدرات السياسية التي توزع على عواصمها قوية المفعول .
.