صواريخ تضرب تل أبيب في مدارس الحوثيين.. التعليم يتحول إلى أداة لترسيخ الولاء بالقوة الأمم المتحدة تتحدث عن توقف وصول سفن الوقود إلى ميناء الحديدة فيتو روسي صادم في الأمم المتحدة يشعل غضب الغرب الحوثيون يبدّلون المنازل المستولى عليها إلى مراكز احتجاز بعد اكتظاظ سجونهم بالمعتقلين الحوثيون يبدّلون المنازل المستولى عليها إلى مراكز احتجاز بعد اكتظاظ سجونهم بالمعتقلين المحكمة الجزائية في عدن تصدر حكمها النهائي في المتهمين بتفجارات القائد جواس شهادات مروعة لمعتقلين أفرجت عنهم المليشيات أخيراً وزارة الرياضة التابعة للحوثيين تهدد الأندية.. واتهامات بالتنسيق لتجميد الكرة اليمنية أحمد عايض: ناطقا رسميا باسم مؤتمر مأرب الجامع
لم يشدني شيء كما شدتني «الصورة»، خلال فترة «الربيع العربي» الذي اندلعت ألسنة لهيبه يوم أن لفت النار بمناديلها «الناعمة» جسد البوعزيزي النحيل في 17 ديسمبر (كانون الأول) 2010. ولعله من المفارقات العجيبة إطلاق مصطلح «الربيع» على عصر دشنته النار، في تجاور مربك لنقيضي الأخضر الربيعي والأحمر الملتهب. لكنها أحد تناقضات المشهد العربي الحالي الذي تتجاور فيه النار والربيع، تماما كما تجاورت فيه متناقضات أخرى كثيرة، منها ما هو آيديولوجي، كتجاور صورة تشي جيفارا وزعماء إسلاميين في مشهد دراماتيكي مثير، أو أن يحمل أحد إسلاميي اليمن، على سبيل المثال، صورة الرئيس الأسبق إبراهيم الحمدي ذي التوجه الناصري، بما يوحي ذلك من تناقضات مثيرة ومثرية للمشهد في الآن ذاته.
هذا الربيع بدأ بالنار، نار البوعزيزي التي مرت خفيفة على القاهرة وأشد على صنعاء، وضارية على طرابلس، لكنها بالغت كثيرا في ضراوتها في دمشق الشام. هذه النار «المقدسة»، أو غير المقدسة (لا ندري حقيقتها بعد) التي امتدت من جسد البوعزيزي إلى قلب دمشق، لتحفر صورتها النازفة على الشاشات والصفحات الأولى لمعظم الجرائد العربية والعالمية.. تلك النار هي رمز الربيع العربي الذي سمي في عاصمة عربية صيفا حارقا، وقالت عاصمة أخرى إنه سيتحول إلى شتاء قارس، في صيرورة لا يبدو أنها ستقف عند حد حتى تكتمل دورة الزمن، وتصل موجة النار إلى مستقرها الذي لم تتحدد ملامحه بعد.
عندما دكت المدفعية الفرنسية قلب دمشق، قال شوقي:
سلام من صبا بردى أرق
ودمع لا يكفكف يا دمشق
وبي مما رمتك به الليالي
جراحات لها في القلب عمق
سلي من راع غيدك بعد وهن
أبين فؤاده والصخر فرق
وللمستعمرين وإن ألانوا
قلوب كالحجارة لا ترق
لعل المشهد الذي رسمه أمير الشعراء اليوم يعاد إنتاجه مع مراعاة كل وسائل التقدم التقني في آلتين: الأولى آلة الدمار الهائلة التي يمتلكها الذي «يروع غيد دمشق» اليوم مقارنة مع الآلة التي روعتهن بالأمس، والثانية آلة التصوير الضخمة التي تنقل تفاصيل المشهد بشكل يومي مقارنة مع آلة التصوير الشعري التي اختبأت تحت ريشة أمير الشعراء. والعجيب أن مشهد شوقي بالأمس من صنع المستعمر الفرنسي، بينما مشهد شاشات اليوم الأكثر فظاعة هو من صنع النظام الوطني، وريث حركة التحرر القومي العربي من المستعمر الأجنبي، في تناقض آخر حل به «النظام الوطني» محل «المستعمر الأجنبي»، بينما أخذ المستعمر الأجنبي (فرنسا) دور ثوار الأمس، في مواجهة جرائم نظام دمشق الوطني بحق السوريين! أليست هذه إحدى سخريات تلك الريشة الرهيبة أو الشاشة المكتظة بالجثث والخرائب والحديد؟! فرنسا اليوم تطالب بحماية السوريين من نظام الثورة والمقاومة والممانعة، بعد أن تحول مع مشهد الربيع إلى طاغية لا تقارن أفعاله بأفعال الفرنسيين الذين روعوا غيد دمشق بالأمس. أليس «ارتياع» الغيد هو ذاته سواء جاء على يد ابن البلد أو الأجنبي، على الرغم من أن الأجنبي لم ينل من سوريا وحضارتها وجمالها وآثارها ودمائها إلا قدرا لا يوازى بما نال سوريا على يد ابنها المقاوم العروبي بشار حافظ الأسد؟! والمفارقة العجيبة أنه في الوقت الذي كان نظام دمشق يدين طلعات الطيران الحربي التي قصفت غزة وقتلت في ثمانية أيام نحو 160 فلسطينيا، كان طيرانه الحربي يحلق في سماء دمشق وحلب وحمص ودير الزور وغيرها ويقتل أضعاف أضعاف ما قتل الإسرائيليون، وإذا برر الإسرائيلي جريمته بأنه يقاتل عدوا فلسطينيا، فكيف يبرر النظام السوري جريمته بحق ما يقارب 40 ألفا من السوريين؟! أليست إدانة الناطق باسم النظام السوري لطلعات الطيران الإسرائيلي على غزة تحمل في طياتها إدانة مضاعفة لسلوك هذا النظام تجاه أبناء شعبه؟! ومن عجائب صور الربيع العربي، دخول العمامة الإيرانية على خطه، حيث أدانت هذه العمامة بشدة ضرب إسرائيل لغزة، وفاخرت بأنها أعطت الصواريخ للفلسطينيين، ناسية أن إدانتها لإسرائيل تنسحب كذلك على حليفها في دمشق، لأنه إذا كانت الصواريخ التي انطلقت من غزة على تل أبيب إيرانية، فإن الصواريخ والقنابل وقذائف المدفعية التي تشوي أرواح السوريين كل يوم إيرانية أيضا. كل تلك التناقضات تمررها الشاشة، وهي تضخ مشاهد الصور التي لا تخلو من الكوميديا التراجيدية، إن جاز التعبير.
على مدار أكثر من عشرين شهرا وحدقات أعيننا تتلطخ كل يوم ببقع الدم، والأشلاء المتناثرة، وأرواحنا تستقبل كل صباح وجبتها اليومية من البكاء على أطلال الفيحاء.
من هو الجاني في مثل هذه الحالة؟! هل هو آلة الدمار التي أحدثت كل هذا الكم الهائل من الأطلال والخرائب التي يلزم لها حشد كل شعراء العربية للوقوف عليها والبكاء على أطلالها، أم أن الجاني هو آلة التصوير التي ضخت لنا أكواما من الصور التي لا تعدو كونها إعادة إنتاج لصورة واحدة مكررة في دمشق وحلب وحمص وحماه ودير الزور وإدلب وغيرها من مدن هذه البلاد المنكوبة بحارس «قلعة العلمانية الوحيدة في المنطقة» المتحالف مع واحد من أكثر «النظم الدينية» تخلفا في العالم؟! في تناقض لا ندري هل أنتجه الربيع العربي أم أنه كشف الستار عن لوحته المكثفة ليس غير.
ويستمر سيل التناقضات في مشهد الربيع، فصورة بشار «طبيب العيون» الوديع الخجول، تتحول إلى شيء آخر لا علاقة له بالطبيب الذي يواسي الناس ويخفف آلامهم، تناقض فاحش يذكر بالتناقض بين صورة «سوريا» في المخيال الشعري والثقافي العربي، وصورة سوريا التي تقذفها على وجوهنا كل يوم شاشات رهيبة لا تكل عن رش النار على أرواحنا صباح مساء.
ما الذي يصيب الإنسان عندما يتملك الكرسي؟! كيف يتحول مالك الكرسي إلى مملوك لا يستطيع التحرر من سطوة كرسيه؟! وكيف في حين غفلة من شعوب هذه المنطقة المنكوبة تحولت الأوطان إلى جردة حساب تصطف فيها مجموعة من الكراسي المنتفخة، وتحول الذين على الكراسي إلى أجساد جامدة تشبه ما حدثنا به القرآن عن الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان؟! تناقض الصورة يشي بتناقض الأصل، وهذا التناقض ربما كان الرافعة الحقيقية المحركة لعجلة تاريخ هذه المنطقة.
وقبل يومين من كتابة المقال شدتني صورة عدد من مقاتلي المعارضة يقفون على خرائب دمرها قصف جوي كثيف من قِبل قوات النظام السوري قبل أن يتمكن الثوار من السيطرة عليها، كانت وجوههم تعج بمشاعر متناقضة، لا تستطيع تفسيرها، تكاد تكون فرحا بالسيطرة على الموقع العسكري المهم، غير أنها تكاد تكون كذلك بكاء على الخرائب والطلول.
كان الدرس الفلسفي غالبا ينطلق من منطلق أن النقائض وحدات منفصلة متنافرة لا تلتقي في كينونة واحدة إلى أن جاء الألماني هيغل فأكد أن المتناقضات أصلا تجتمع في كينونة واحدة، تتجاور فيها تناقضات متصارعة، وهذا الصراع الديالكتيكي ضمن الكينونة الواحدة هو الباعث على تطور هذه الكينونة وصيرورتها التي لا تنتهي. إننا نناقض أنفسنا لنصارعها، ونتصارع مع أنفسنا لتتحرك عجلة التاريخ، ونقترف جريمة الحرب لنصنع السلام، أو لنقل نحدث الصدام المرعب بين الحياة والموت لتنتصر الحياة، ولكن هل كتب علينا حقا أن نخوض التجربة لنتعلم؟! ألا يمكن أن نتعلم دون المرور بمعاناة التجارب؟! ألا يمكن أن نتعلم من تجارب غيرنا؟! يبدو من حركة التاريخ أننا لن نتعلم إلا من تجاربنا نحن، ويبدو أن التناقضات التي نراها في المشهد ستستمر حتى يصل المشهد المحتشد إلى منتهاه، وأما الذين يقولون إن منتهاه قريب، فيبدو أنهم لا يدركون أنهم في بداية طريق الآلام الطويل، وأن هذا الربيع ربما ولد «ربيعات» تثور عليه بعد أن تكتشف أنه لم يكن الربيع الذي تبحث عنه.
وبالعودة إلى فكرة هيغل عن «وحدة المتناقضات»، يمكننا القول إنه خلال هذه الرحلة سيتجاور النقيضان الألم والأمل: الألم الناتج عن عوامل «الإعاقة» في الطريق، و«الأمل» في التغلب على هذه العناصر، ومن صراع هذه النقائض داخل مشهد هذا الربيع تتحول الصور والشخوص، وتستمر الأحداث، وتتعقد حبكة هذه الرواية الملحمة. وعلى ذكر الرواية، فإن مؤلفي الروايات يستطيعون رسم بداياتها، لكنهم غالبا لا تكون لديهم القدرة على اختيار نهايتها، حيث تنفلت «الأحداث» من بين أيديهم راسمة حبكتها ونهايتها بما لا يرتضيه المؤلفون في أغلب الأحوال.