فليبحث له عن شرع آخر!
بقلم/ الحبيب علي زين العابدين الجفري
نشر منذ: 11 سنة و 9 أشهر و 14 يوماً
السبت 02 فبراير-شباط 2013 06:16 م

الحمد لله..  »هذا شرع الله.. ومن لم يعجبه شرع الله فليبحث له عن شرع آخر«!

هكذا وبكل بساطة قالها خطيب الجمعة لمن اعترض على كلامه الذي يشرح به الشريعة وفق فهمه هو لنصوصها، ليساند موقفاً سياسياً في قضية اختلف عليها الناس، وهو أمر مباح لا يتعلق بأحكام الوجوب ولا حتى الندب..

وكأن فهمه للشرع أصبح هو الشرع قطعي الدلالة الذي يخرج من يرفضه عن الإسلام!

فهاج المسجد وماج بمن فيه بين رافض لكلامه ومدافع عنه.

»الكلام في الجمعة يفسد الجمعة«..

هكذا وبهذه العبارة توهم أن المسجد سوف يعود إلى سكينته التي انتُهكت قُدسيتها من على سُدة المنبر الشريف بإصراره على التحيز لاختيارات التيار السياسي الذي يُناصره في موقف لا يخضع للإلزام الشرعي إلا فيما يتعلق بالتزام أمانة الاختيار.

»أنتم في بيت من بيوت الله فارعَوا حرمته«..

كانت هذه محاولته الثالثة للتهدئة، مذكراً بحرمة بيوت الله التي هتكها بتحويل سدة منبر النبي من مظلة تخاطب جميع الأطراف بما يُرَشِّد شئون حياتهم روحياً وعملياً، في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلى طرف متحيّز في صراع التنافس على الحكم.

»واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا«..

كانت صرخته الأخيرة في محاولاته للتهدئة بعد أن زاد الضجيج في المسجد وعَلَت أصوات المصلين بالهتافات المتعارضة، ولم ينتبه إلى أنه قد مزّق بكلماته في الخطبة أواصر هذا الاعتصام.

كانت تلك نصوص لعبارات كان خطيب أحد الجُمَع يصرخ بها في المصلين الذين اعترتهم حالة من الهياج بعد أن سمعوا منه توجيهاً في أحد الاختيارات السياسية المباحة بعد أن أعطى الاختيار الذي أراده صفة الشريعة واعتبر الاختيارات الأخرى مخالفة للإسلام!

بالطبع لا يقبل مؤمن أن يرى شعيرة الجمعة وهى تضطرب على هذا النحو، ولا ريب أن العبارات التي نادى بها الخطيب، باستثناء الأولى منها، عبارات شرعية صحيحة..

لكن السؤال المطروح: لماذا لم يستجب لها المسلمون الذين يُصلون في المسجد؟

والإجابة عن هذا السؤال المهم تتطلب طرحَ أسئلة أخرى:

هل كان تصرفه في الخطبة شرعياً؟

هل حافظ الخطيب على قُدسية الشعيرة في موقفه؟

هل كانت ألفاظه التي اختارها تُشعر بطمأنينة المكان ورقى العبادة وهدى النبوة؟

هل كانت عبارته الأولى مشوبة بالثقة المتغطرسة في خضوع الناس لكلامه المعنون بالشريعة والمدبَّج بشواهد الآيات والأحاديث ومواقف السلف الصالح من الصحابة والتابعين على نحو يجعلك تتساءل هل كان مدبجاً أم (مدججاً)؟

هل هناك أي دلالة في تدرجه في صيحات تحذيره للمصلين من قوة (التحذير) الحازم من مخالفة الشريعة إلى (التنبيه) الصارم على أن الكلام أثناء الخطبة يفسد الجمعة، ثم إلى (التذكير) المنبه على حُرمة بيوت الله، ثم إلى (رجاء) الاعتصام بحبل الله ونبذ التفرق؟

وهل لهذه الدلالة صلة بصدمته من فقد عباراته للفاعلية التي إعتادها في التأثير على قلوب المؤمنين وتصرفاتهم كلما خاطبهم بها قبل أن يخوض مخاض العمل السياسي الحزبي؟

وهناك سؤال مهم يستدعيه الموقف بجملته:

هل هذا الموقف يمثل نموذجاً مصغراً يمكن أن يكون مقدمة لحالة عامّة من التدهور قد نصل إليها، لا قدر الله، إذا استمر الإهدار السياسي للمخزون الإيماني في قلوب الناس؟

)يا معاذ، أفتّان أنت؟(..

قالها سيدنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) موبِّخاً سيدنا معاذ بن جبل (رضى الله عنه(..

لِمَ يوبخ نبىُّ الرحمة صحابياً جليلاً وفقيهاً كبيراً بتحذيره من أن يكون فتاناً؟

وما الموقف العظيم والخطأ الجسيم الذي وقع فيه كي يتوجه إليه النبي بهذا الخطاب الشديد اللهجة؟

كان سيدنا معاذ يُصلى بقومه من الأنصار في مسجدهم بعد أن يُصلى مع النبىّ.. فأطال عليهم الصلاة ذات يوم حتى أنّ أحدهم لم يتحمل الإطالة بسبب حاجته إلى الانصراف لبعض أشغاله فما كان منه إلا أن فارق الجماعة وأكمل صلاته منفرداً لينصرف إلى شأنه.

فلم يرَ سيدنا معاذ أن هذا التصرف يتناسب مع حال المؤمن واتهم الرجل بالنفاق.

ولما بلغ الرجل اتهامه له بالنفاق آلمه هذا الاتهام، فشكاه إلى سيدنا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلاً:

»يا رسول الله إنّا قوم نعمل بأيدينا ونسقى بنواضحنا [الجِمال التي تحمل الماء]، وإن معاذاً صلى بنا البارحة فقرأ البقرة فتجوزت، فزعم أنى منافق«.

فقال النبي (صلى الله عليه وسلم(:

)يا معاذ، أفتّان أنت؟ أفتّان أنت؟ أفتّان أنت؟

اقرأ «والشمس وضحاها» و«سبح اسم ربك الأعلى» ونحوها، فإنه يصلى وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة(.

أنكر نبىُّ الرحمة هنا على سيدنا معاذ أمرين:

الأول: التطويل على الناس في الصلاة إلى درجة تجعلهم يستثقلونها.

الثاني: اتهام من لم يتقبّل اجتهاده في اختيار سورة طويلة بالنفاق في دينه.

وفى هذا درس عظيم لمن يتولى مسئولية تصدّر الخطاب الإسلامي لأن البلاغ عن الله أمر بالغ الخطورة..

فهو يُعطى متصدر الخطاب سلطة معنوية على القلوب المؤمنة بالرغم من أنه لا كهنوت في الإسلام وأن كُلاً منّا يُؤخذ من قوله ويُرد إلا النبىّ المعصوم..

وهذا يقتضى خوفاً وحذراً لدى متصدّر الخطاب من أن تشوب نوازع نفسه ما يحمله من أمانة مسئولية هذه السلطة الروحية فيؤدى ذلك إلى فتنة الناس في دينهم، وهذا هو مقتضى الشعور بالمسئولية تجاه هذه الأمانة العظيمة.

فإذا كان النبىُّ قد حذّر من هذه الفتنة في أمر متعلق بتطويل الصلاة فكيف بمن يزج بمنبره في معترك التنافس على السلطة.. ثم يقول لمن يرفض موقفه: هذا شرع الله، ومن لم يعجبه شرع الله فليبحث له عن شرع آخر؟

}إنّا عَرَضْنا الأمانةَ على السماواتِ والأرضِ والجبالِ فأبَيْنَ أن يـَحْمِلْنَها وأشْفَقْنَ منها وحَمَلَها الإنسانُ إنّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً{.

اللهم يا من وفَّق أهل الخير للخير وأعانهم عليه وفّقنا للخير وأعنّا عليه