محمد جميح
كل هذا الذي ترون في الشرق العربي ما هو إلا بحث عن شيء ما ضائع: الزمن المفقود، الذات الضائعة، التاريخ الغابر، شباب الأمة، «الأيام الخضر» التي سافر إليها البردوني، و»أنشودة المطر» الذي غنى له السياب.
يقف العرب اليوم على أطلال حمص وحلب والفلوجة والرمادي وتعز وصعدة، وبنغازي يبحثون بين الركام عن زمن لم يجدوه، زمن… حدثهم التاريخ أنه كان هنا يوماً ما، ودلت عليه معالم الجغرافيا، لكنه لم يعد موجودا. إنها رحلة شاقة في البحث عن زمننا الجميل، عن «فردوسنا المفقود»، عن «أندلسنا الغارب» بمفهومه التاريخي لا الجغرافي. رحلة يمتزج فيها البحث عن الذات بالبحث عن الآخر، البحث عن التاريخ بالبحث عن الجغرافيا، البحث عن المطلق، بالبحث عن الله، البحث عن السلام الروحي بالبحث عن السلام الاجتماعي المفقود في هذه المنطقة التي علمت العالم يوماً ما كيف يفكر، ثم علمته اليوم كيف يكون الانتحار. العرب يحنون لتاريخهم لأنه أجمل من حاضرهم، ويهربون من الغد لأنهم يفضلون مغادرة الحاضر إلى الماضي لا إلى المستقبل.
الإنكليز يقولون: الأمس تاريخ، والغد لغز، واليوم هدية الله. ولذا يسمى الحاضر في الانكليزية present، وهي الكلمة التي تعني الهدية كذلك، هم يدركون أن الحاضر أهم من الأمس والغد مجتمعين. عرب اليوم يختزلون حاضرهم ومستقبلهم في الماضي، ويختزلون الماضي في أول مئة سنة من عمر الإسلام، والمشكلة أنهم يرون أن التاريخ كالجغرافيا ثابت لا يتحول. نحن والتاريخ أشبه بطفل مشاغب في حضرة معلم كبير السن، لديه علم غزير، لكن الطفل يضيع وقته في الشغب داخل الفصل، ولا يستمع إلى دروس الشيخ الجليل. الأمم التي تيمم وجهها شطر المستقبل، تخلف تاريخها وراء ظهورها، وتلتفت إليه بين الفينة والأخرى عندما تحتاج أن تكون في حضرة «شيوخها» لتتعلم منهم. مشكلتنا أن تاريخنا وضعناه أمامنا، في خط سيرنا، وحولناه بجهلنا إلى حاجز قوي يحول بيننا وبين مستقبلنا، والشيء ذاته فعلناه مع «نصنا المقدس»، الذي حولناه – بعمليات منتجة بائسة – إلى شيء آخر لا علاقة له بالمقاصد العليا للنص نفسه. على كلٍ… مهما يكن التاريخ عظيماً، فإنه لا يمكن أن يكون بديلاً عن الحاضر أو المستقبل، إلا عند الأمم التي لا تتعلم منه. ولأننا لا نتعلم من التاريخ، فإنه اليوم يعيد نفسه في ديارنا، وداخل تركيبتنا الذهنية والشعورية، يكرر نفسه في هذه المنطقة «الوجيعة» من العالم، يكرر نفسه بطريقة حرفية مذهلة. خذوا مثلاً.. كربلاء بكل تفاصيلها تكرر في كل مدن العرب، لأن فريقاً من المسلمين يصرون على أن ينظروا لأشقائهم اليوم على أنهم يزيد بن معاوية. الأمم العظيمة تنظر إلى تاريخها من خلال عدسات اليوم، ولذا تتجاوزه إلى الغد. نحن نعيد تصوير «كربلاء»، ونشحن أطفالنا بـ»الحقد على قتلة الحسين»، الذين انتهوا منذ قرون، ثم يكبر أطفالنا فيقتلون إخوتهم اليوم ثأراً للحسين بن علي الذي لم يشاركوا في دمه.
هل الأمم الأخرى ليس في تاريخها كربلاء؟
كل أمة ولها كربلاؤها المأساوية، ولكن الأمم تختلف في زاوية النظر إلى «كربلائها». في كل سنة تقف أوروبا كلها حداداً على أرواح الذين قضوا في الحرب العالمية الثانية من كل الأطراف، في كل سنة يتذكر اليابانيون ذكرى «هيروشيما ونجازاكي»، ويشعلون شموع السلام. الأمم المتحضرة تتذكر حروب الأمس لتصنع من غبارها سلام اليوم، ونحن نستمد من معارك التاريخ قدرة عجيبة على تدمير الذات المعاصرة. هل يعقل أننا اليوم لا نزال نعيش صراعات العلويين والأمويين، وحروب داحس والغبراء، وبكر وتغلب، لو لم نكن نقرأ كتاب التاريخ بالمقلوب؟ على كلٍ التاريخ لا يكرر نفسه في حقيقة الأمر، لأن الزمن خط مستقيم له بداية ونهاية، ولكننا عمدنا إلى خط الزمن وحنينا استقامته، وأخرجناه على شكل كروي، الأمر الذي جعلنا نعتقد أن «الزمن دائري»، وأن التاريخ يكرر نفسه.
التاريخ يتكرر بصورة كربونية عند الحمقى فقط، أما الحكماء فإنهم يعرفون أن النهر لا يجري مرتين من تحت الجسر. كل يوم يمر هو يوم جديد، بتجارب جديدة، وآمال وآلام جديدة، تماماً كالنهر، وفي كل لحظة تمر من تحت الجسر بلايين القطرات الجديدة التي يظن الحمقى أنها هي ذات النهر الذي ذهب بعيداً عن الجسر ولم يعد. وعلى هامش هذه الثرثرة حول التاريخ يبدو الخلط بين مفهومي «الثبات والتحول» عقدة العقد لدى العقلية العربية التي «ثبتت المتغيرات» فجمَّدت التاريخ عند القرن الأول الهجري، و»غيرت الثوابت»، فتبدلت لديها حدود الجغرافيا.
ومع ذلك فالمعضلة ليست مستحيلة الحل، نحتاج فقط إلى أن نعرف متى «نثبت» ومتى «نتغير»، أين نقف وأين نتحرك، أين ومتى نحارب ونسالم. أن نعرف دروس التاريخ وما يناسبنا منها، ونصوص الدين ومناطات تطبيقها، نعرف أنه إذا كانت النصوص ثابتة، فإن التاريخ متغير، وإذا كانت النصوص لا تتغــير فإن حركة الزمان كفيلة بإثراء دلالاتها، واعتصارها ترياقاً شافياً، لا سماً قاتلاً.
التاريخ والدين متلازمان لدى كل أمة، ونحن عندما نثبت الزمن على عصر «خير القرون»، فإن كل ما نفعله هو مجرد استنساخ تجربة القرن الأول الهجري، بدون أن نكون نحن «خير القرون». لا صحة في نظري لرأي من يرى أن تاريخنا حجر عثرة في طريقنا للمستقبل، ولا صحة في تصوري لأقوال من يقول إن الإسلام سبب تخلف المسلمين. نحن – في اعتقادي – سبب مثول التاريخ في ثوبه الدموي، وبروز الإسلام في جبة الكهنوت، نحن سبب تراجع الإسلام في اعتقادي، وليس الإسلام سبب تخلفنا. الزمن والدين عنصران محايدان. نحن الذين نجعل الزمن حجر عثرة، ونفجر الدين عبوات ناسفة. ومادمنا متمسكين بنمط الحياة ذلك، طريقة التفكير تلك، زاوية النظر هذه، فإننا سنظل نتردد على المنجمين وقراء الكف، ليعرفوا ماذا ستكون عليه حالنا في المستقبل، وسنستمر في عمليات إعادة منتجة الدين ليصبح وسيلة المتسلطين على رقابنا للوصول إلى السلطة والثروة، وسنبتعد كثيراً عن روح العصر، وسنغادر إلى زمن آخر بعيد، لن نصل إليه، سنعيش فيه في اللاوعي، وسنعيش حاضرنا المأســـاوي في وعينا، ومن هنا نصاب بحالة الفصــــام الرهيب، الذي لا نجاة منه إلا بالخروج من تابوت التاريخ إلى حياة اليوم، ومن جمود تأويل النص إلى رحابة النص ذاته، وعندها تعود قلوبنا طبيعية، حساسة لاقطة تستقبل وحي السماء بنقاء المؤمنين، وترقب حركة التاريخ بعقول الحكماء.
على كلٍ… الكوارث التي تلت عام 2011 في الوطن العربي، سيكون لها ما لها، والأمم عندما تصاب بالكوارث فإن تشوهات روحية وفكرية تصيبها، فتخرج منها «جماعة تفريط» ترفض كل قيمها، و»جماعة إفراط» تتعصب لكل ما فيها، والجماعتان ستذهبان في صراع عنيف مدمر، وستخرج من تحت الرماد روح الأمة نقية صافية. ويومئدٍ يكون النصر الحقيقي الذي يفرح به المؤمنون.
كان غوته يقول: الذي لم يتعلم دروس الثلاثة آلاف سنة الأخيرة يبقى في العتمة. وعليه، يبدو أن مهمة عظيمة تنتظر العرب كي يخرجوا من الظلام.
هل يفعلها العرب؟
هل يفعلونها؟