فلسفة الكذب السياسي
بقلم/ منير الغليسي
نشر منذ: 12 سنة و 5 أشهر و يوم واحد
الأحد 17 يونيو-حزيران 2012 06:17 م

أكثر كلمة اختلط فيها الكذب بالكذب، لا بالصدق، هي : السياسة. وأكثر إنسان تجرّد من إنسانيته في أسمى معانيها وهو الإحساس، ومن أعظم معانيها وهو الصدق . . هو : السياسي (1).

ذلك أن الإحساس في طهارته يقود إلى الصدق في عظمته، وكلاهما معا يقودان إلى الضمير الحي، الذي ينبع فيما ينبع من القلب الحي. . تلك المضغة التي باستوائها يستوي الجسد والسلوك، وباعوجاجها وفسادها يفسدان معاً.

ومن الجسد أعضاء : كالدماغ، مصدر التفكير، واللسان، واليدين، والرجلين. وأكثرها فساداً بعد فساد القلب هو عضو التفكير المدبر للإفساد في الأرض، ثم ترجمانه الجوارح، منها: اللسان، الذي يدير الفساد ويقلب الحقائق إن (السياسة) كمصدر، و(السياسي) كاشتقاق منها وجهان لقبح واحد اسمه الكذب ، ومعناه الكذب، وضده الكذب، ومفرده ومثناه وجمعه الكذب، ومذكره ومؤنثه. . . ليس إلا الكذب ! !

يكذب السياسي (أي: الكذاب) – أيّاً كانت درجته من الكذب – على شعبه، ثم يكذب ويكذب؛ حتـى ليصـدّق هـو كـذبه، ويجزم أنه صـادق رغـم نَـتـْن كذبـه، حتى ليشك مستمعـه في كذبـه ! ! . .

وهذه طامّة ، إذ يصدّق الكذاب نفسه ، ويحيطها بسلسلة نارية وأخرى بشرية ممن تسعى لاهثة نحو مصالحها فحسب. . تبرّر له كذبه وأفعاله النكراء المبنيّةَ على الحيلة والكذب، فيكون الكذب على الناس كذباً مركباً معقداً.

وهذه طامة كبرى، حين يشك كثير من الناس في كذبه، فيستحيل شـك بعضهـم يقينـا بصدقه ! !

قد يبرَّر لإنسان ما من عامّة الناس دأب الماكر على تضليلهم وتجهيلهم، وعمل فيهم فأس التبعية العمياء. . قد يُبرّر تعصّبُه الأعمى. لكن، ما يذهلك ويثير استغرابك أن تجد مثقفاً، وربما حمل من الدرجات العلمية أعلاها. . قد أوقف دقات قلبه عن أن تنبض إلا بحياة صاحبه السياسي وحياته معاً. . وأوقف خلايا عقله عن أن تدور إلا حول مجالهما معاً، وهو الكذب. . حتى ارتبط هو بصاحبه ارتباط صورة بحقيقتها، فأصبح صورة منه في معناه ومبناه وفعله.

ألم يبلغ التعصّب بهذا، وهو المثقف المستنير، وأمثاله. . حدّ مخاتلة العقل عن وظيفته ، والقلب عن إحساسه؟! . .

ألم يكن في تماهيه فيه متعصباً مرتين:

مرةً عند إقصاء عقله، في القنوات والصحف والجامعات وحيثما حل، لينتصب مدافعاً عن الكذاب وكذبه وجرمه. . ومرة عند إقصاء قلبه، في خلواته، عن سماع هاتف الحق في أعماقه !؟

• يا لهذا الربيع ! ! :

لم يعد الكذب في السياسة حالةً، بل ظاهرةٌ، تتجلى أكثر حين يتعلق الأمر بصولجان المُلك وكرسيّه، الذي خُطّ من حوله بأنواع الخطوط ومختَلِف اللغات(2) ، يقرأها اللبيب ويفهمها: ممنوع الاقتراب ولو بجملة, أو كلمة، أو همسة، أو إشارة، أو حتى خاطرة!!

وأكثر ما يرعب الحكام المستبدين، ويهزّ عروشهم. . أن يحدث – يوماً – هذا الاقتراب حين تتيقّظ الشعوب من خَدَرها؛ فتعي حقوقها التي كان دأب أولئك الحكام إغواءهم عنها باختلاق الأزمات، وشغلهم بأقواتهم، وترهيبهم وترغيبهم. . فما تلبث أن تعلو هتافاتها مزمجرةً، وتصدع حناجرها ثائرة: (الشعب يريد تغيير النظام). . (الشعب يريد إسقاط النظام). . .

 

لماذا الشعوب تريد إسقاط الأنظمة؟!. . هل هي مؤامرة خارجية وعمالة داخلية تجهلها الشعوب المستبَدّ بها، الجائعة، فاقدة الحرية والكرامة. . ويدركها الحكام المتخمون، حدّ المرض، أكلاً وشرباً ونهباً واستبداداً. . يدركونها وحدهم فحسب؟! . .

هل أحرق (بو عزيزي) جسده الغضّ، وأزهق روحه الطاهرة لتتخطّفها ملائكة الرحمة. . فداءً لحاكمه الذي ملأ البلاد صدقاً وعدلاً، وأطعم أهلها من جوع وآمنهم من خوف؟!

أم أن ثورة معِدته وكرامته التي ذبحت على قارعة التشرد. . ليست سوى مؤامرة داخلية كان ينبغي له أن يتجاهلها بالشحذ والتسوّل، أو الموت جوعاً أو حرقاً. . . ولكن بصمت ! !؟

وهـل الملاييـن، التي انتفضـت بعـد ذلك في بلاد المشـرق العـربي ومغربه، و وحّدت شعارها في ميادين وساحات التحرر والكرامة، والتي لم تجتمع على شيء، طيلة عقود الاستبداد، اجتماعَها في إصرار وعزيمة، على إسقاط الأنظمة المستبدِّة وحكامها. . لم تكن انتفاضتها وثورتها سوى انقلاب على واحد أحد، وسوى مؤامرة عليه وعلى دستور البلد، اللذين لا يأتيهما الباطل من بين يديهما ولا من خلفهما؟ ! . . يا لهذا الربيع ! !

إن هذه الثوراتِ النوعيةَ في أسلوبها وأدواتها، والتي لم يسبق لها مثيلٌ في تاريخ الثورات. . لم تكن في حقيقتها سوى ثوراتٍ ضد صناعة الكذب السياسي وسياسة الكذب -على الشعوب- . . التي صارت مدرسة فريدة لها مناهجها وأساتذتها وروّادها وخريجوها. . ولها عباقرتها وأغبياؤها كما لها مؤيدون ومعارضون من داخلها ومن خارجها! !؟

يا لهذا الربيع! ! . . . كم هو استثنائي ! . .

لأزهاره شكلٌ آخر . .

وألوانٌ أخرى . .

ولفاكهته طعم الثورة . .

ورائحة الصدق ! !

الهامش:

1- الأنبياء والصديقون والصالحون مجردون من مثل هذا ، ذلك أن الأنبياء وحي الله في أرضه ، والصديقون ظلهم ، والصالحون خير خلف لخير سلف.

2- القصد: خطوط الحماية والتحصين، من الشعوب، منها : الحديدية والإسمنتية والشائكة والنارية. . .فضلا عن البشرية التي ابتكرت ذلك . وأمّا اللغة فكل ما يخطر وما لم يخطر بخاطر! !