|
هل يعني الظهور الأول والثاني للرئيس صالح بعد حادثة النهدين عودة الصراع القديم بين الرياض وواشنطن على اليمن؟
كثيراً ما تترك أميركا للرياض تضييق الخناق على الرئيس علي عبد الله صالح تحقيقاً لرغبة الثانية في أن يكون اليمنُ حديقة خلفية لها حتى وصل الأمر مداه في الظهور الأول الرئيس بعد حادث مسجد دار الرئاسة، غير أن أميركا كعادتها تتدارك الأمر بالضربة القاضية وهو ما تمثَّل في الظهور الثاني الرئيس.
وبالعودة إلى حرب صيف 1994 عند ما تبنت السعودية دعم الجنوب من أجل الانفصال بمباركة أميركية، حيث كان مجلس دول التعاون حينها مجتمعاً لإعلان اعترافه بدولة الجنوب بالإجماع عدى دولة قطر؛ فتدخلت أميركا في اللحظات الأخيرة ـ تماماً كتدخل مساعد الرئيس الأميركي ـ للحيلولة دون ذلك الاعتراف.
كان واضحاً أن الظهور الثاني للرئيس جاء تعويضاً أميركياً عن الأول "السعودي".
ففي الظهور الأميركي بدا الرئيس وهو يجلس واضعاً رجلأ على رجل معتمداً الجلسة الأميركية المعروفة بجلسة الرقم أربعة 4 التي لا يستخدمها السياسيون إلا في المواقف الخاصة وهي كناية عن الانتصار والخيلاء، وكان صالح يجلسها أمام مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الإرهاب!
وهذا له دلالات أخرى تنازلية ترتبط بمستقبل تحريك ملفات الإرهاب في اليمن، المرشح من قبل هذه الأطراف لأن يكون "تورا بورا" الجديدة.
لذلك فأني أقول بأن الفوارق بين الظهورين الأول والثاني كانت شاسعة خاصة وأن الفارق الزمني لعرض المشهدين لا يتجاوز الثلاثة الأيام فقط.
كان الرئيس صالح على الدوام يكافح من أجل كاريزميته التي يصنعها بنفسه في غالب الأحيان دون الاستعانة بأحد ليصل به الأمر إلى تحديد مواقع تصويره وزوايا التقاط صوره وهو الذي يرتجل كلماته دون ورقة تُعد من أحد يرتجلها بحسب الحالة النفسية والانطباعية التي تسكنه حينها؛ وليست هذه منقبة بقدر ماهي مثلبة كثيراُ ما تضعه في الحرج.
رغم كل ذلك وغيره فإنني أعتقد بأن الظهور الأول لم يكن للرئيس رأيٌ فيه، ولم يكن حينها متمتعاً بالصحة التي تؤهله للحديث أمام التلفاز، لذلك فإنني أقول بأن المرامي من الظهور الأول لم تكن حسنة وبحسب تقييمي لها فما هي إلا إعلان عن تعرية اليمن من بقية السيادة لذلك فقد مثل ذلك عقاباً صارماً للرئيس على تمرداته المتكررة على المملكة في السنوات الماضية بدءاً بمواقفه من أزمة الخليج وغيرها من المواقف التي لا ترتضيها المملكة وذلك ما تؤكده بعض الملاحظات على هذا الظهور حسب أدناه
1- تباين مستوى الإضاءة المسلطة على الرئيس مما يوحي بأنه تم اختيار بعض الكلمات من أكثر من كلمة تلفزيونية.
2- الموضوعات المطروقة من قبل الرئيس وعدم علاقتها بالهدف من الظهور.
3- تكرار الشكر للمملكة.
4- ارتداء القميص والشماغ السعودي من قبل الرئيس.
5- الحالة الصحية العامة التي لا تؤهل الرئيس لأن يلقي كلمة تلفزيونية ولا تؤهله حتى للظهور أمام التلفاز.
6- تعمُد إظهار أيدي الرئيس في إيحاء بأنها مبتورة.
7- بالغ المخرج أو المصور ـ تقنياً و إيحائياً ـ في إظهار الرئيس بجسم ميت عديم الحركة، ليصل إلى درجة التناقض بين حيوية الرأس وموت الجسد.
أياً كانت أسباب الظهور فقد قال العرب قديماً: "الضيف في حكم المُضيِّف" حتى ان التلفزيون اليمني أخلى مسؤوليته عن نشر هذه المادة وأعرب عن عدم تدخله فيها؛ وقال بأنه نشرها كما وردت من الرياض.
مثل كثير من الناس أول ما شاهدتُ المقابلة الأولى فرحت بعافية الرئيس وانجلى لي اليسير من الغموض حول الحادث الفظيع الذي ألحق ضرراً بالغاً بسيادة البلد وأمنه رغم أنه قد مر على ذلك الحادث قرابة أربعين يوماً غير أن فرحتي هذه لم تكن معي حين صحوت من نومي.
وبرغم أنني لا أجد مبرراً لاختفاء الرئيس ونخبة المسؤولين في البلد وهي الحادثة الأولى التي حدثت في تاريخ البشرية المدوَّن على حد علمي المتواضع. فالشعوب كثيرا ما تهتم بيوميات نجومها ومشاهيرها فما بالك أن يختفي رئيس الدولة مع عدد من نخبة كبار مساعديه طوال هذه المدة.
إن التكتم غير المبرر حول حادثة مسجد الرئاسة ومصير المتضررين منها من كبار المسؤولين، وما أعقب تلك الحادثة من السكون الدراماتيكي للفرقاء المحتقنة المتعطشة إلى السلطة - رغم مناسبة الفرصة لتحقيق غايتهم ـ يلقي كل ذلك بالكثير من الشكوك حول طبيعة الحادثة والمرامي منها، ليصل بي الاعتقاد إلى إن الجهة التي ارتكبت هذه الجريمة هي ذات الجهة التي صنعت ذلك مع الرئيس قحطان الشعبي وسالم ربيع علي وإبراهيم الحمدي والقاضي عبد الله الحجري ومحمد صالح مطيع، كل هؤلاء الذين ذبحوا على مذبح السيادة لهذا البلد. رغم تباين مفهوم السيادة بينهم ورغم تباين التكييفات والإشاعات التي أحاطت بجرائم مقتلهم.
كنت أفضِّل وربما الكثير مثلي أن تقتصر كلمة الرئيس في الظهور الأول على التعبير عن الطمأنة لشعبه وأن أمكن الإشارة إلى الجهة المتسببة في هذا الحادث الإجرامي دون تفاصيل وهو كل ما يطلبه الشعب وكل متابعي الأخبار في العالم.
بلا شك يتحمل الرئيس المسؤولية في ما آلت إليه البلد من حالة الفساد وخفوت دور المؤسسات رغم ان ذلك يعد نتيجة طبيعية لمعارضة لا تقل فساداً عن السلطة، خاصة وأن للرئيس صالح اليد الطولى في تأسيس هذه المعارضة التي بذل في تأسيسها من المال والجهد ما لم يبذله في حزبه "المؤتمر الشعبي العام" الذي لا يعدو كونه منشفة المطعم التي يمسح بها الأكلة أوساخ أيديهم.
إلا أنه ورغم كل ذلك فلا ينكر أن صالحاً يتمتع بصفات حسنة قد لا توجد في غالبية الزعماء المعاصرين.
ولعل أبرز هذه الصفات هي الشجاعة والإقدام والمرونة التي ربما تجاوزت حدودها لتصنع وضعاً مترهلاً أثخنته مهادنات الفساد الذي تصنعه منظومة الفساد المكونة من السلطة والمعارضة التقليدية معاً.
ولذلك فان المناداة بسقوط النظام تعني عند الشعب سقوط الاثنين معاً، وأظنه ليس من المناسب أن أقول السلطة والمعارضة كونه بحق يصعب التمييز بينهما من كونهما المستأثرين ـ دون غيرهما ـ بالفساد ونهب المال العام.
إن ارتباط هذه المعارضة التقليدية - ذات الولاء الخارجي- بثورة شباب التغيير يهدف إلى إخماد الثورة بشكل استباقي لتحقيق مآرب محلية وخارجية متعددة لعل أهمها هو أن لا تصل هذه الثورة إلى بيت الجيران وأن تكون ـ أي الثورة ـ عبرة للجيران كما هو عليه الحال في دستورنا ومؤسساتنا التشريعية والنيابية وما هي عليه أحزابنا المتعددة وصحافتنا الحرة وديمقراطيتنا المبتذلة ونوابنا المحنطون إلى آخر ما يُهدف إليه من كل هذه الأسماء البراقة لأن تكون بلدنا عبرة لمن أراد "تبرلماً"، ولمن أراد تحزباً، ولمن أراد دمقرطةً ولمن أراد حرية صحافة وغيرها مما يدعون.
يعود التنفيذ العملي لرغبة "الجارة" في أن يكون اليمن حديقة خلفية لها إلى حصار السبعين عند ما ضيَّقت هذه الجارة الخناق على الثوار رغم أنها ـ أي الجارة ـ كانت تقف إلى جانب أعدائها التقليديين من أئمة اليمن ضد ثورة 26سبتمبر حتى أصبح الثوار على وشك الانهزام حتى إن العميد يحي المتوكل ذكر بأنهم ـ أي الثوار ـ كانوا يبحثون لهم عن عاصمة أخرى بديلة عن صنعاء، غير أن السعودية لم تكن تهدف إلى عودة الملكيين ولكنها كانت تريد أن يحكم أصحاب ربطات العنق اليمن ولكن تحت وصايتها! بعيداً عن أهداف ثورتهم المعلنة.
لم تعتمد الجارةُ على الثوار في تنفيذ هذه المنهجية بل اعتمدت - قبل تكوّن تيارها السلفي الدعوي والسياسي- على الزعامات القبلية وبالخصوص زعامات بيت الأحمر من قبيلة حاشد، وبموجب هذه التسوية السعودية قامت المملكة بضخ المبالغ لتسيير هذا النظام والإغداق على هذه الزعامات القبلية بل أنها تقوم بصرف أجور الموظفين وموازنات أهم قطاعات الدولة اليمنية.
ظلَ الساسة اليمنيون من مدنيين وعسكريين يعانون من عوزهم إلى السيادة، وما إن جاء الرئيس إبراهيم الحمدي حتى قرر تحقيق السيادة الكاملة لليمن، ولتعويض دعم المملكة الذي كان الحمدي يرى بأن بلده تدفع مقابله من سيادتها على حساب أهداف الثورة، قرر تنمية الموارد المحلية المتاحة وتطويرها في أطار مسعاه إلى الاعتماد على الذات، واستطاع خلال مدة وجيزة النهوض بالاقتصاد المحلي وأوجد أصولاً ثابتة ترفد توجهاته الاقتصادية، أما على المستوي الاجتماعي فقد حقق الحمدي قدراً وافراً من المساواة الاجتماعية واحترام القضاء واستقلاليته وبدأ الناس يشعرون بأن أهداف ثورتهم تتحقق وبدأت الحياة المدنية تحل بديلاً عن القبلية حتى ان الرئيس الحمدي توجه إلى باريس بنفسه واستقبله الرئيس "فاليري دسكار دستان" في المطار وهو أمر مخالف للتقاليد الفرنسية حيث كان الرؤساء المُماثلون يستقبلون في قصر الاليزيه فقط، وعقد الرئيس اليمني مع الفرنسيين صفقة شراء أسلحة حديثة بمبلغ ملياري دولار.
في حين اتجه الحمدي نحو الجنوب لإيجاد حوار جاد مع صديقه الحميم الرئيس الجنوبي سالم ربيع علي، حتى أن سالمين قال مقولته الشهيرة في القمة العربية بالمغرب: "أنا أبحث عن الحمدي والحمدي يبحثُ عني" كناية عن التقارب وتنسيق المواقف بين البلدين.
بعد مقتل الرئيسين إبراهيم الحمدي وسالم ربيع علي ووزير الدفاع عبد الله الحمدي شقيق الرئيس في حادثين لا يختلفان وحشية وبشاعة وأسلوباً عن حادثة مسجد قصر الرئاسة، عادت القبلية من جديد لتئدَ الدولة المدنية الفتية و تفرض نفسها على كافة مناحي الحياة.
وبعودة الجناح القبلي الذي يستمد قوته من الشقيقة السعودية ـ وللتمويه ـ فقد تم اختيار شخص لا ينتمي إلى قبيلة حاشد إلا من حيث الإقامة ليكون بنو الأحمر هم الآمرون الناهون من الباطن وتكون الوصاية للشيخ عبد الله بن حسين الأحمر والأفندم علي محسن الأحمر.
ما ان استقر به الحكم حتى استشعر الرئيس صالح بما استشعر به من سبقه من الحكام وهو الشعور بحاجة بلده إلى السيادة غير المنقوصة واستشعر بالضيق من الوصاية المعتمدة على مركز القوى المتمثل في الأحمرين اللذين يتدخلان في كل صغيرة وكبيرة ويُكوّن كلٌ منهما إمبراطوريته الخاصة به للمساعدة في تقوية نفوذه، ولا يمكن للرئيس تحجيم مراكز القوى هذه بتقليص اعتماداتها؛ كونها تتمتع بمصادر ضخمة خارجية وداخلية تأتي من ثلاثة منابع رئيسة، مثل النسبة في الشراكة من المقاولات والمشاريع الكبيرة التي لا ترسي إلا عبرهم؛ بعيداً عن المناقصات التي تنشر في الصحف؛ وكذا النسب العالية المخصصة من الموارد البحرية التي تعد مصدراً اقتصادياً مغلقاً عليهم.
ولعلنا نتذكر "شركة الموارد البحرية" التي تم الاكتتاب فيها من قبل عامة الناس ليحولها القائمون عليها بعد نجاحها إلى ملكية خاصة لهم، وينطبق الأمر نفسه على الموارد النفطية في الجنوب التي تعتمد تقنية استخراج رخيصة تلحق أضراراً جسيمة وكارثية بالبيئة بحسب تقارير رسمية رغم عدم استفادة السكان المحليين في الجنوب من هذه الثروات إلا استنشاق دخانها وأضرارها.
وتصل العائدات المالية لكل هذه المصادر قبل ورودها إلى الخزينة العامة.
أي أن وزارة المالية ليس لها سلطان عليها ولعل أكبر دليل على ذلك هو سلاسة تدفق هذه الموارد وبالذات البحرية والنفطية رغم التناحرات المعلنة بين أقطاب الصراع.
للأسباب التي ذكرتها والتي لم أذكرها تحاشياً للإطالة، وسعياً لتحقيق حلم السيادة قرر صالح الخروج بسياساته إلى التعامل مع الدول الكبرى مباشرةً بدءاً باستقبال الفارين من الجنوب من جماعات الرئيس علي ناصر محمد بعد حرب 13 يناير 1986 ثم بعد ذلك إدماج نظام الجنوب الذي صنعته ظروف الحرب الباردة كفزاعة ليخوف الغربُ به دول المنطقة النفطية المجاورة والذي حل بدلاً عنه في نفس العام عام 1990 ـ في تأدية هذا الدور ـ نظام صدام حسين في العراق فبدخول نظام الجنوب في إطار الوحدة اليمنية ينتهي دوره كفزاعة وكمصدِّر للثورة إلى دول الجوار.
وبعد الوحدة التي تزامنت مع بداية حرب الخليج فقد كان على الرئيس صالح تحقيق حلمه بالسيادة بالالتجاء إلى الارتباط بصدام حسين الذي يجاهر بمعاداته للنظام في الرياض.
hhsaggaf@yahoo.com
في الثلاثاء 19 يوليو-تموز 2011 09:16:25 م