حصار غزة يغير وجه المنطقة
بقلم/ عبد الباري عطوان
نشر منذ: 14 سنة و 5 أشهر و 3 أيام
الأحد 13 يونيو-حزيران 2010 08:29 ص

لم يحدث، وعلى مدى اكثر من ستين عاما من احتلال فلسطين التاريخية، ان تصدرت هذه القضية، وبالطريقة الصائبة، قمة اولويات الرأي العام العالمي ومؤسساته، مثلما كان عليه الحال في الاسبوعين الماضيين، والفضل في ذلك يعود الى اربعة امور رئيسية:

الاول: شجاعة السيد رجب طيب اردوغان رئيس وزراء تركيا، وتحوله الى محام بارع مقدام للدفاع عن اهالي قطاع غزة المحاصرين واصراره على عدم التخلي عنهم حتى انهاء الحصار المفروض عليهم.

الثاني: دماء النشطاء الاتراك الذين استشهدوا على ظهر السفينة مرمرة اثناء مواجهتهم لفرق الكوماندوز الاسرائيليين، فقد اوقع هؤلاء المهاجمين في مصيدة الكرامة وعزة النفس وافسدوا على الاسرائيليين جميع خططهم وحطموا غرورهم وتعاليهم وتفوقهم المزعوم عندما رفضوا الاذعان والاستسلام وقرروا المقاومة بكل ما اتيح لهم من ادوات دفاعا عن النفس.

الثالث: صمود اهل غزة البطولي تحت الحصار، ولجوء منظمي قوافل الحرية الى اساليب عصرية سلمية لكسر الحصار، وتعبئة احرار العالم باسره للمشاركة في هذا العمل الانساني المشروع.

الرابع: تعاظم 'القرف' الغربي من 'البلطجة' الاسرائيلية، السياسية منها والعسكرية، ووصولهم الى قناعة بان هذه البلطجة باتت تشكل خطرا مباشرا على مصالحهم وامنهم وارواح مواطنيهم.

هذا الانجاز الكبير الذي لم يكن اي دور للانظمة الرسمية العربية في تحقيقه، من المفترض ان يستثمر بشكل جيد، ويتم البناء عليه، واطالة امد زخمه، وقوة دفعه، من خلال تحركات سياسية ودبلوماسية نشطة، ولكن هذا لم يحدث، ونقولها بمرارة شديدة، ونحن هنا نتحدث عن الجانب الرسمي وليس الشعبي العربي.

قوافل كسر الحصار ستتواصل دون شك، وهناك خطط لكي تكون اكبر، واكثر تحديا، للغطرسة الاسرائيلية، وعلينا ان نتذكر ان شهر رمضان المبارك، شهر التضحيات بات على الابواب، وهناك الملايين من شباب العرب والمسلمين، يتطلعون الى الشهادة في هذا الشهر الفضيل.

ومن المفارقة ان مجموعة من اليهود المعادين للصهيونية واسرائيل يستعدون حاليا لتنظيم قافلة سفن تضم ناشطين من مختلف المهن والمواقع، بعضهم فنانون وكتاب ومبدعون، تتوجه الى قطاع غزة لكسر الحصار، وسيكون قبطان القافلة غلين سيكر رئيس منظمة 'العدالة للفلسطينيين' البريطانية مثلما افادت صحيفة 'الجويش كرونيكل' اليهودية البريطانية.

* * *

وسط هذا الزخم العالمي غير المسبوق الذي دفع المسؤولين الاسرائيليين وحلفاءهم الى التواري في الغرف المظلمة، وعدم الحديث مطلقا للاعلام كعادتهم دائما، لانهم باتوا عراة من اي منطق، بعد ارتكابهم مجزرة لا يمكن الدفاع عنها، وكانت بمثابة القطرة التي احدثت الفيضان، واعادت الى السطح كل المجازر السابقة، نقول وسط هذا الزخم، حدث تطوران رئيسيان لا بد من التوقف عندهما متأملين لما ينطويان عليه من معان تسلط الاضواء على حقيقة المأساة التي نعيشها كاملة حاليا، وتكشف ان البعض منا مصر على العيش خارج التاريخ:

الاول: اعلان السيد محمود عباس رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية خلال لقاء جمعة مع 30 من قادة الجاليات اليهودية، واللوبي الصهيوني (ايباك) في مركز دانيال ابرامز للسلام في الشرق الاوسط حق اليهود في ارض فلسطين حيث قال بالحرف الواحد 'انا..لا..ولن.. اتجاهل حق الشعب اليهودي في العيش على ارض اسرائيل'.

الثاني: مطالبة السيدة هيلين توماس الصحافية الامريكية وعميدة المراسلين في البيت الابيض اليهود في فلسطين المحتلة بالعودة الى مواطنهم الاصلية في بولندا والمانيا والولايات المتحدة وباقي البلدان التي كانوا يعيشون فيها.

لا نعتقد ان حكومة بنيامين نتنياهو ستثمن موقف الرئيس عباس غير المسبوق هذا، وستقدم له القدس المحتلة هدية على طبق من فضة، ومن غير المتوقع ان تكافئه بوقف الاستيطان وهدم السور العازل، وازالة ستمائة حاجز في الضفة الغربية تشل حركة ثلاثة ملايين فلسطيني.

لا نعرف ما اذا كان السيد عباس قد ذكر في الجلسة نفسها حق ستة ملايين لاجئ فلسطيني في العيش على ارض فلسطين نفسها التي وصفها بانها 'اسرائيل'، ونعتقد انه لم يذكر هؤلاء مطلقا، والا لانهى مضيفوه اللقاء فورا.

* * *

اقرار السيد عباس بحق 'الشعب' اليهودي في العيش على ارض اسرائيل هو 'اعتراف عملي' باسرائيل كدولة يهودية، هكذا نفهمه، وهكذا قد يفسره الكثير من الفقهاء القانونيين الدوليين، ولذلك فان رئيس السلطة مطالب بتوضيح لمثل هذه 'الزلة' والمقصود منها، منعا لاي التباس او تأويل.

تابعت شخصيا جميع الردود التي وردت على موقع صحيفة 'الواشنطن بوست' الامريكية بشأن تصريحات السيدة توماس، وهي بالآلاف، ومن قبل قراء من مختلف المشارب والالوان السياسية والدينية، وفوجئت ان الغالبية الساحقة منها متعاطفة معها وتؤيد ما قالته، وتؤكد ان العالم بات يشعر بالغثيان من تصرفات الاسرائيليين تجاه الفلسطينيين. واحتفظ شخصيا بجميع هذه الردود لمن يريد الاطلاع عليها. ولذلك لم افاجأ عندما اشار استطلاع للرأي اجرته الصحيفة نفسها اي 'الواشنطن بوست' بين قرائها، ان اغلبية هؤلاء يرفضون اخراج الصحافية المخضرمة (90 عاما) من البيت الابيض بسبب تصريحاتها الاخيرة.

فردا على سؤال الصحيفة 'هل يجب اخراج هيلين توماس من غرفة الصحافة في البيت الابيض؟' اجاب 81 بالمائة بلا، في حين صوت 18 بالمائة فقط مع اقصائها. وواحد في المائة قالوا ان لا رأي لهم في الموضوع.

نتمنى ان يطلع الرئيس عباس على هذا الاستطلاع، وان يقرأ مستشاروه ردود فعل القراء على اقوال هذه السيدة التي عايشت عشرة رؤساء امريكيين ابتداء من جون كيندي وانتهاء بباراك حسين اوباما. لعلهم يفيقون جميعا من غفوتهم، ويدركون حقيقة ان العالم يتغير، بينما لا يزالون في مواقعهم التي تقوقعوا فيها منذ السبعينات والنقاط العشر الشهيرة.

* * *

اسلوب المواجهة مع الغطرسة الاسرائيلية يتطور ويأخذ اشكالا عديدة، فنحن الآن امام تحالف ثلاثي جديد: تركي، ايراني، سوري مدعوم بمليار ونصف المليار مسلم، ونسبة كبيرة من الرأي العام العالمي، وصدور قرار عن مجلس الامن الدولي بفرض عقوبات اقتصادية على ايران (عارضتها تركيا والبرازيل) قد يقرب الانفجار العسكري لا ان يبعده، وقد تستغل اسرائيل هذا القرار لشن عدوان على ايران للخروج من عزلتها الحالية، فعندما دمرت المفاعل النووي العراقي عام 1981 لم تستشر امريكا (امريكا كانت تدعم العراق في حربه ضد ايران في حينها) وعندما قصفت مفاعل دير الزور المزعوم في شمال شرق سورية لم تأخذ الضوء الاخضر من واشنطن.

المواجهة الاقرب التي سيخوضها هذا المثلث، وتركيا على وجه الخصوص ستكون سياسية واختبارا حقيقيا للادارة الامريكية والعالم الغربي ونواياهم تجاه الحصار والبلطجة الاسرائيلية، ونعني بذلك تشكيل لجنة تحقيق دولية في مجزرة سفن الحرية، فالموقف الامريكي من هذه اللجنة سيحدد امورا كثيرة في المنطقة والعلاقات الدولية.

نتوقع ان يكون موقف اردوغان من هذه اللجنة واعمالها ونتائجها مختلفا كليا عن موقف السلطة الفلسطينية من تقرير لجنة غولدستون (قبل ان تتراجع عنه وتتبناه بسبب الغضب الفلسطيني والعربي) فالدماء التركية الزكية التي سالت على سطح السفينة مرمرة لن تذهب سدى. وربما لو كانت هذه الدماء عربية لما سمعنا عن لجنة تحقيق وحتى لو جرى تشكيل لجنة لرضخ النظام الرسمي العربي لشروط امريكا واسرائيل، فالدم العربي ارخص من التراب بالنسبة الى الزعماء العرب، نقولها وفي حلوقنا غصة.

تركيا الآن تحتل كرسي القيادة عن جدارة واستحقاق، ولهذا تتعرض لحملات تشويه مشبوهة، ويتعرض زعيمها اردوغان لهجمة 'اغتيال شخصية' من المعتدلين العرب تحت ذريعة استيلائه على ادوارهم، فاذا كان هؤلاء قد تخلوا عن اوراقهم فلماذا يعتبون او يغضبون اذا اخذها الآخرون؟

نخشى ان نرى في الاشهر المقبلة مثلثاً جديداً يواجه المثلث التركي الايراني ـ السوري، تكون اسرائيل ابرز اضلاعه، ويكون الضلعان الآخران عربيين، فصحف اسرائيلية قالت 'خسرنا تركيا ولكننا كسبنا مصر' واشادت بالتنسيق الامني المتعاظم معها. ففي هذا الزمن الرديء كل شيء جائز.