|
شهد يوم الاثنين 13 يناير 1986م انهيار عقليات الرفاق القاصرة وواقعهم المبني على الأباطيل , عقول تم حشوها بأفكار ونظريات ثورية مهلكة , فاخذوا معول الهدم يحطمون وطنا ما أجمله ويدكون بنيانا ما أروعه , ويقتلون أنفسا زكية ويقطعون رؤوسا كريمة ويمزقون قلوبا مخلصة . 13 يناير هو يوم الحساب بين فئتين سلط الله بعضهم على بعض بما كانوا يكسبون , فبكل نفس دفنوها حية قديما كان الاثنين يوم القصاص , وبكل روح مزقوها غدرا كان الاثنين يوم الجزاء , وبكل إنسان هرب خائفا تاركا أهله ومحبيه كان الاثنين يوم العقاب . إن ذكرى مذبحة يناير لتجعل الإنسان يقف متفكرا معتبرا لما فيها من الدروس والعبر , فالجزاء من جنس العمل وكما تُدين تُدان , والدعوة اليوم للتصالح والتسامح من أثار هذه المذبحة مطلب كريم يدعو له الشرع ومكارم الأخلاق , ولكن رفع هذا الشعار لتحقيق مكسب سياسي فقط , أو ليكون جسرا يعبر عليه كثير ممن لا يستحقون تسامحا لهو ضياع للوقت والجهد بل هو مخدر سرعان ما سيزول مفعوله فيعود الألم مضاعفا شديدا . نريده تصالحا وتسامحا نابعا من القلب والقناعة وليس مجرد وسيلة لخطة مرحلية وهدف مبرمج . وإن هذه الألوف القادمة من المحافظات المتناحرة فيما بينها في يناير 86 م لكي تجسد التصالح والتسامح ليست محل شك في وطنيتها ولا في عدالة قضيتها وقد قامت بإيصال رسالتها بقوة للداخل والخارج , ولكن الخوف أن تكون هذه الوطنية والحماسة هي المحرك الأساس للانحدار نحو الهاوية القديمة باسم حب الوطن وحقوقه المنهوبة ,
فقديما كان الثوار يظنون أنهم بالتأميم والقتل وطرد رؤؤس الأموال وتضييق عيشة الناس يدافعون عن الثورة ويحققون الفكرة , وأن هؤلاء الرجال المقتولين غدرا بدون محاكمة إنما هم خونة وأعداء للوطن , وأن هذه الأموال والعقارات نجسة لأنها تمثل التوجه الرأسمالي القذر ! وأكثر ما أخشاه اليوم أن يجدد الحراك هذا التوجه بنفس الروح الثورية والشعارات الحماسية فيظن أنه يخدم القضية حينما يقوم بتخوين وإقصاء أي جنوبي يخالفه الوسيلة ويرغب في الحوار, أو بالمعاملة الخشنة نحو أي عامل شمالي يطلب رزقه ولا علاقة له بالسياسة وأحزابها ! وأخشى أن يحترف حراكنا اللاءات دائما : لا حوار , لا فيدرالية , لا كونفدرالية , لا ... , بدون تقدير للعواقب المؤدية لخراب الوطن وتدمير اقتصاده وهلاك خيرة رجاله !
وإني أتساءل دائما كيف يكون هناك تصالح وتسامح مع وجود هذا الكم من التعبئة الخاطئة لفقه الكراهية وعقيدة الانتقام وسُنة الاستعلاء , وكيف يتوافق التصالح والتسامح فيما بينكم بينما تجعلونه مع غيركم محرما . وما أرى الحراك بهذا الفقه إلا أنه ليحث الخطى على مذهب من سبقه دون عبرة ولا فائدة . وأراه بهذه الطريقة الخاطئة مرتعا خصبا لكل طالب شر وفتنة ومتنفسا لكل معقد ومريض ليحقق هدفه ويرفه عن نفسه بإيلام المسالمين وإزعاج الآمنين وذلك باسم الدفاع عن الثورة والجنوب . وهذا عين ما حصل قديما , فكم قتيل طرحوه باسم الثورة والدفاع عنها وكان الهدف الحقيقي انتقاما وتصفية لأمور قبلية وشخصية . وربما بعد تحقق دولة الانفصال والتصفيات الدامية لن يجد الحراك إلا رفاقه القدامى ليتخلص منهم , وعندها ستجد عصبة منهم نفسها هاربة من جحيم وطن أحرقوه ومن براثن وحش أطلقوه لتعيش أمنة متنعمة في ظل دولة مجاورة . كم أتمنى أن يعم التصالح والتسامح كل بلادنا .. قلبا ووجدانا لا جسدا ولسانا .. ولكني أرى تحت الرماد وميض نار ويوشك أن يكون له ضرام .
في الأحد 13 يناير-كانون الثاني 2013 04:43:59 م