|
ظلت السعودية منذ بداية الستينات من القرن الماضي تنهج نهجاً معادياً للثورة اليمنية، ولحق الشعب اليمني في الاستقرار وبناء دولته الحديثة، تحت مبرر الخشية من تزايد المد القومي واليساري، اللذان يمثل وجودهما على امتداد حدودها الجنوبية خطراً على الأسس والمنطلقات التي يقوم عليها النظام السياسي السعودي، على الرغم من أن هذا النظام انطلق في أول أمره، وشمل معظم مساحة شبه الجزيرة العربية، وكان اليمن – آنذاك - تحت حكم الأئمة الزيدية (الشيعة) المؤمنون على الأقل بعدم جواز إمامة الأمة لغير أحد البطنين (الحسن والحسين)، إلا أن النظام السعودي لم يجد فيهم خطراً يهدد كيانهم السياسي الوليد، وليس أدل على ذلك من أن البلدين لم تدر بينهما أية مواجهات عسكرية أو سياسية سوى الصدام المسلح الوحيد الذي كان على إثر تقاسم تركة حاكم المخلاف السليماني - الضعيف آنذاك- (الحسن الإدريسي)، وكان من أبرز ثمارها اتفاقية الطائف (1933م) بين البلدين التي أوقفت المعارك الحربية، وأبقت موضوع الحدود مفتوحاً إلى أجل غير مسمى، بينما بلغت المناوشات الحدودية بالعشرات طيلة السنوات اللاحقة للثورة، تمثل أولها في دعمها لفلول الإمامة في حروبها ضد الثورة، اللذين لم تجد من حيلة سوى احتوتهم في أراضيها بعد فشلها في إعادة سلطتهم.
وبذلك تكون السعودية قد فشلت في رهانها الأول، إلا أنها رغم ذلك لم تترك الساحة اليمنية، بل ظلت في مواجهة مفتوحة ضد انتصارات الثورة التي تمثل لها خطراً سياسياً محدقاً، وليس ذلك بخافٍ على أحد، بل أن الوثائق السرية والمعلنة للحكومة السعودية تؤكد هذه الحقيقة، وقد وجدت أن الحل أمام كل ذلك يتمثل بضرورة اعتمادها سياسة التدخل المباشر في الشؤون اليمنية، وفي مقدمتها أن تكون هي صاحبة اليد الطولى في تشكيل طبيعة النظام السياسي اليمني، والذي لا يمكن أن يتحقق لها إلا من خلال الإمساك المباشر بالقوى التقليدية - التي راهنت عليها-، وتوسيع نفوذها على الساحة، والمتمثلة بإغراء الأمراء والمشايخ الذين تم طردهم فور إعلان استقلال الجنوب اليمني (1967)، وتقويض ما يماثل دورهم في المناطق المحاذية لحدودها في المناطق الشمالية، فكان عليها أن تغدق العطاء لزعماء القبائل وتوفر لهم أسباب القوة، بما فيها القوة المسلحة، ليكونوا يدها في الداخل اليمني تحركهم في الأوقات التي تريد، هذا إلى جوار وضعها لإستراتيجية عقائدية بعيدة المدى ذهبت من خلالها إلى ترسخ وجود المذهب الوهابي المعادي لأشكال الثقافات التقليدية والحداثية على السواء، وتمثل هذا الفعل في تمويلها لدعاة المذهب بوسائل مختلفة، وتمكينهم من الانتشار في أنحاء مختلفة من اليمن، ودعم أنشطتهم في إقامة المعاهد والمدارس والمساجد المتبنية للفكر العقائدي الجديد ونشره على حساب المذهبين السائدين في اليمن (الشافعي, والزيدي)، ومن خلالهم أسست قاعدة عريضة لهذا التيار الذي استطاع تحقيق حضوره القوي والسريع بفعل التمويل المفتوح، وتمكنت من خلاله أن تضرم النار في وجه التيارات الوطنية والقومية التي ظلت تناضل طيلة العقود الماضية من أجل وحدة اليمن واستقلاله، وبناء الدولة الحديثة القائمة على العدل والمساواة وسيادة النظام والقانون.
شطرا اليمن خاضا ثلاثة حروب متوالية في عقد السبعينيات فقط، وهي في مجملها حروب بين تلك القوى التقليدية المصنوعة بأفكار وأيدي وأمول سعودية مئة في المائة، وهي الأيدي ذاتها التي عمدت إلى تنفيذ الاغتيالات السياسية الكبيرة، وفي مقدمتها اغتيال قائد حركة التصحيح (13 يونيو1976) الرئيس إبراهيم الحمدي، وما تلاه من تداعيات أدت إلى استكمال إستراتيجية (سيناريو) التحالفات السعودية في اليمن، والمتمثلة في ميلاد سلطة علي صالح (17 يوليو 1978) التي تكونت من العسكريين المنتميين والمواليين للتيارين التقليديين، والذين كان من أول الأدوار التي قاموا بها هو تفكيك وحدات الجيش الثوري، وتسريح قياداته وأفراده، والتصفية الجسدية للبعض الآخر، وإحلال جيش مناطقي بديل يدين بالولاء الكامل للمكونين التقليديين المتمثلين بالقبيلة والتيار السلفي (الجهادي).
فالتيار السلفي بمواصفاته التكفيرية والجهادية كان قد تأسس في اليمن، وكانت اليمن هي حظيرة تجاربه الأولى قبل أن تجد المملكة منه وسيلة لمد نفوذها على المستوى الإقليمي والدولي، حيث استطاعت بعد ذلك نقل هذه الخبرات الجهادية المتمرسة من اليمن إلى باكستان ومنها إلى أفغانستان والشيشان، وغيرها من العالم، وكان هذا التيار السلفي بطبيعته قد خرج من رحم العديد من التيارات والحركات الإسلامية التي عرفتها الساحة العربية والإسلامية، وفي مقدمتهم الإخوان المسلمون والوهابيون والتبليغ، وكانت تجاربه في اليمن قد أثبتت جدوى توظيف القبيلة كقوة تقليدية قابلة للتحالف مع هذا التيار العقائدي إذا ما تم التحكم بقياداتها وتوفير المغريات المادية التي تجعلهم يسخرون المقدرات البشرية والجغرافية لقبائلهم في خدمته، خاصة أنه قد جعل من أهم أهدافه هو مواجهة القوميين والاشتراكيين والبعثيين، ونشر الوعي في الأوساط المختلفة الزاعمة بخروج هؤلاء عن الملة والقيم والعادات والتقاليد وكافة المعايير الأخلاقية، وظلت اليمن على ضوء ذلك رهينة الصراعات السياسية التي لا حدود لها، ومثل هذا التحالف قوة لا يستهان بها، وكان من أهم وأبرز ثماره العمل على إفشال حلم الوحدة اليمنية، وتحقيق انتكاستها الكبرى في حرب صيف (1994م).
لقد ظل هذا التحالف الاستراتيجي بين مكونات النظام - السعود يمني- الحاكم في صنعاء يؤدي وظيفته السياسية حتى وصل إلى حد الأمان الكامل من كل التجاوزات والمحاذير التي يمارسها ضد الشعب، وحتى تبين بالفعل أن الشعب لم يعد له أي اثر على السلطة التي أضحت محاطة بقوة عسكرية ضاربة، وأثبتت هذه القوة أنها وجدت من اجل شخص الحاكم، وتدين له بالولاء ولأسرته الشريكة في الحكم والثروات العامة التي لا حدود لها، فاستطاعت السعودية اقتناص الفرصة وإجبار السلطة على توقيع معاهدة الحدود بين البلدين في جدة (معاهدة باجمال الأمير عبد الله).
إن توقيت توقيع معاهدة الحدود اليمنية السعودية في (12/ يوليو/ 2000م)، وما تلاه في الشهور اللاحقة من انتشار لمفهوم الإرهاب بعد أحداث (11/ سبتمبر/2001م) في الولايات المتحدة الأمريكية، وإعلان صقور البيت الأبيض الحرب على الإرهاب في أنحاء العالم، وجدت السعودية في ذلك الإعلان أن السلطة اليمنية ستكون احد ضحاياه، فكان لابد أن تعجل بتخطيط حدودها البرية والبحرية مع اليمن، لأنها لا يمكن أن تحقق ذلك مع غير هذه السلطة في المستقبل، وكان عليها في مقابل ذلك دعم توريث سلطة علي صالح، ودعمه في التخلص من الحرس القديم المتمثلين بالقادة العسكريين وزعماء القبائل والسلفيين الجهاديين اللذين أضحوا محط أنظار العالم في الحرب على الإرهاب، فكسبت السعودية ثمار تدخلها في إدارة شئون السلطة اليمنية أرضاً لا تقل مساحتها عن ثلث المساحة الإجمالية للمملكة، وفي المقابل كان يتوقع علي صالح نجاح مشروعه في التوريث، الذي بدأه عملياً في تنفيذ الاغتيالات لكبار الضباط في حادث الطائرة في مأرب الذي كان من أبرز ضحاياه قائد المنطقة العسكرية الشرقية العميد محمد إسماعيل الأحمر، والعميد احمد فرج قائد معسكر خالد في المنطقة الجنوبية الغربية وغيرهم، وفشل العديد من محاولات اغتيال العميد علي محسن الأحمر قائد المنطقة الشمالية الغربية.
ونجاح عملية اغتيال زعماء قبائل حاشد، الشيخ مجاهد أبو شوارب في حادث مروري في طريق حجة صنعاء (2004م)، وتسميم الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر الذي كانت من أثاره بقاء الشيخ لأكثر من عام يعاني مرض السرطان، إلى أن توفاه الله في يناير (2008م)، ومحاولة تصفية الشيخ الغادر شيخ مشايخ قبيلة خولان في صنعاء ومحاصرة منزله بالمدرعات في (2006م).
وتوجيه الإعلام الرسمي بصوره المختلفة ضد حلفاء الأمس من السلفيين الاسلامين ووصفهم بالارهابين، وتقديم أولاد الرئيس وأولاد إخوته المراهقين على أنهم هم الحل الأوحد في مواجهة كافة الظروف التي تمر بها اليمن حاضراً ومستقبلاًً، وتمكينهم من إدارة شئون البلاد وتزعم أكبر المواقع القيادية لأهم الوحدات العسكرية التي حلت محل الجيش الموالي للقيادات القبلية التقليدية الشريكة في تأسيس الحكم، لتكون تحت سيطرتهم أكبر وأحدث ترسانة عسكرية في المنطقة، خاصة أنه تم إضعاف بقايا الجيش الذي مازال تحت إمرة القيادات السابقة من خلال الحروب الستة التي دارت رحاها في صعده ضد الحوثيين، التي ظهرت فيها السعودية أنها تجد خطراً من وجودهم على حدودها، وكان لزاماً عليها التمثيل في دخولها الحرب، ومنها ما كان قد اسمي في حرب جبل الدخان داخل العمق السعودي بينما في حقيقة الأمر أنها مثلت الحرب على الحوثيين، وفي المقابل كانت تدعوا زعماء القبائل المواليين للحوثي ونظام صالح إلى الاجتماع بهم في نجران وتغدق عليهم بالعطاء والسخاء الذي لا حدود له، وكان أخرها اجتماعها بهم في يناير(2011م)، وهو الاجتماع الذي كان على إثر انقسام قيادة قبيلة بكيل بين الزعيم الموالي لصالح وللحوثيين (محمد بن ناجي الشائف) والزعيم المناوئ (أمين العكيمي)، وكان الدعم السعودي ودعم نظام صالح للزعيم القبلي (الشائف) الموالي للحوثين.
إن حلفاء الأمس بصناعة سعودية أضحوا خصوم اليوم، وبعد أن تراكمت الأزمات في الداخل اليمني نتيجة ممارسة سياسة الإقصاء الكامل والشامل لكل القوى الوطنية الفاعلة في الساحة، وممارسة سياسة التجاهل والرمي عرض الحائط بكل ما يمت بصلة للقانون والنظام العام قد أدت إلى خروج الشعب عن صمته محتلا الساحات العامة فيما لا يقل عن 17 محافظة، معلناً ثورته السلمية ضد الحاكم مطالبين برحيله، ثم بمحاكمته، وكانوا قد وصفوه بالطاغية، وبالجاهل الأمي، وبما لا يعد من النعوت التي استحقها عن جدارة، وما كان من حلفاء النظام بالأمس، أعدائه اليوم إلا الاحتفاء بهذه الثورة والوقوف إلى جوارها ضد الحاكم، وكانت النتيجة تلك المواجهات الدامية في الحصبة وأرحب والجوف وتعز وأبين وعدن، والبيضاء وغيرها.
إن كل هذه التداعيات أنهت الاتفاق بين نظام صالح والنظام السعودي، على الرغم من القوة السعودية الضاغطة بشدة على زمام الأمور المتعلقة بهذه الثورة، التي أدت إلى تأخر حسمها سلمياً، ومناوراتها العديدة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية للحيلولة دون وصول هذه الثورة إلى أهدافها، لتثبت التزامها في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه بين الطرفين.
إن الثورة اليمنية لا تقلق الحاكم اليمني (علي صالح) الذي أضحى عملياً في خبر كان، بقدر ما هي تحد للسعودية في تنفيذ ما اتفقت عليه مع صالح، خاصة أن السعودية تعلم يقيناً أن لا خطر على مصالحها من هذه الثورة لأنها تدرك عملياً أن العديد من العناصر الفاعلة في الثورة هم ممن كانوا في الأمس محسوبين عليها، ولم تكن في يوم من الأيام في خصومة معهم، وتدرك كذلك أن التيارات الوطنية والقومية والاشتراكية قد أضحت على غير تلك الإرادات والتطلعات والأهداف الستينية والسبعينية، إلا أنها في طبيعة الحال تراهن على ضرورة تنفيذ ما التزمت به لصالح في التوريث الذي ربما يحفظ لها استمرار معاهدة الحدود (باجمال، الأمير عبد الله)، وهي مستميتة في ذلك، وإن كان ذلك سيفضحها في أخر المطاف أمام اليمنيين وأشقائهم العرب في كل مكان، وأمام المجتمع الدولي، ولن نبالغ في القول أن رهان السعودية على الفتك بالثورة اليمنية ووأدها يعد من أول أولوياتها، ولم تعد أولويات الرئيس صالح الذي أضحى عاطلاً عن العمل، بفعل تعدد أشكال الإعاقة التي لا تؤهله القيام بمهامه وإن بالحدود الدنيا، كما أن أولاد الرئيس وأبناء أخوانه سيصلون بالتأكيد إلى القناعة التي تمنعهم من البحث عن وراثة السلطة من أجل خدمة المصالح السعودية وعلى حساب دماء الشباب اليمني، سيصلون إلى ذات النتيجة التي وعاها أبناء الشيخ المرحوم عبد الله الأحمر، لأنهم في الأول والأخير أبناء اليمن، ويحنون إلى إخوانهم أبناء جلدتهم الذين من حقهم الاستقرار في وطنهم واختيار نظامهم السياسي الوطني دون التعويل على الخارج، وان كانوا يجدون في هذا الحل صعوبة كبيرة اليوم أكثر من أي وقت مضى بفعل تورطهم في قتل الأبرياء والاستحواذ على الأموال العامة من خلال إطالتهم أمد الحرب على الثورة السلمية ومحاولاتهم جر البلاد إلى حرب أهلية وفشلهم الذريع في ذلك، ويدركون أن المجتمع الدولي أضحى على وعي بكل ذلك، وأنهم سيكونون موضع مسائلة في أية لحظة كمجرمي حرب إذا ما حاولوا الفرار إلى أي بلد، مع علمهم أن السعودية هي الممانع الوحيد على تركهم السلطة، فهي التي استقبلت علي صالح من أجل إعادة هيكلته جسمانياً، وهي التي لن تقبل بهم على أراضيها إذا ما تنازلوا عن السلطة، لأنها تريدهم حكاماً من أجل حماية مصالحها المتصلة في الالتزامات السابقة بينها وبين علي صالح، ولا تريد أن تخسر رهانها مهما كان خاطئاً، أو خاسراً، ومهما بلغ بها العلم بذلك.
semael2009@yahoo.fr
* كاتب يمني مقيم في الجزائر.
في الخميس 04 أغسطس-آب 2011 12:17:01 ص