لا عزاء للشطار.. البليد أصبح طيار!!
بقلم/ محمد مصطفى العمراني
نشر منذ: 13 سنة و شهر و 30 يوماً
الجمعة 16 سبتمبر-أيلول 2011 04:17 م

ذات مساء وأنا لم أكمل من عمري ست سنوات كنت على موعد مع فرحة طفولية غامرة فقد أشترى لي عمي بذلة جديدة وحقيبة مدرسية جميلة وفيها الأقلام والدفاتر وعلبة الألوان لأتخذ طريقي في صباح اليوم التالي إلى المدرسة سربا مع إخواني وأبناء عمي ولكن يا فرحة ما تمت لقد رأيت ما أفزعني وأثار الذعر والخوف في نفسي وجعلني أفر منها هارباً..

كان المدرس الوحيد في المدرسة سودانيا ذو قامة طويلة وبشكل خرافي أسود اللون كأنه قد من فحم وكأن رأسه زبيبة ولم أكن يومها قد رأيت شخصا أسودا قبل ذلك التأريخ وما إن وقعت عيني عليه حتى صرخت بأعلى صوتي ووليت هاربا من الجني الذي رأيته وحاول كل من في البيت إرجاعي إلى المدرسة ولكن دون جدوى فقد كان الأستاذ حاتم السوداني ذو القلب الأبيض الطيب يمثل لطفل في عمري كابوس حقيقي.. (أنا هنا لا أسخر من خلق الله ولكن أروي ما حدث لي يومها ومشاعري حينها بكل عفوية وصدق).

واهتدى الأستاذ الطيب لحيلة قربتني منه فقد كان يزورنا في البيت ويقدم لي مختلف الهدايا حتى زال خوفي منه وعدت للمدرسة وأحببته بعدها ولكني كرهت المدرسة والدراسة فقد كنا يومها عشرات الأطفال محشورين في فصل قديم ومتهالك كأننا الفئران الخائفة نسجن ساعات ونتعذب حتى يأذن لنا الأستاذ بالانصراف فنتدافع كالسيل يدوس بعضنا بعضا ونخرج نجري ونصيح كالمعتوهين.

كانت الدراسة تعذيب في تعذيب وملل ورتابة مقرفة ومدرس وحيد لمدرسة كاملة واللغز الذي ما يزال يحيرني.. كيف نجحت في تلك السنة؟!!

ورزقني الله في العام التالي بمدرس مصري ما إن رآني حتى سقط قلبه من الدهشة وصاح في: أنت محمد؟!! وانكب يومها الأستاذ جاد يقبلني وهو يبكي وسط ذهول الطلاب ودهشتهم مما يجري واكتشفت بعدها أنني أشبه ابن الأستاذ تماما لقد أرانا صورته فكنا كما قال "فوله وانقسمت نصين وسعدت في ذلك العام والذي يليه سعادة لا أنساها فقد كان يغدق علي بالنعم ويدللني فكنت في الفصل وفي المدرسة سلطان زماني الآمر الناهي وأحببت الدراسة ونجحت بالترتيب الثاني عن جداره.

أتذكر انه كان في فصلنا طالب غبي جدا وكنا نتندر من غبائه فقد قال له الأستاذ في حصة اللغة العربية : هات لي ظرف مكان على غرار "غرد العصفور فوق الشجرة" فقال:غرد الحمار فوق الشجرة ، فضحكنا جميعا ولقبناه بالحمار وكان في أيام الامتحانات يخرج من منزلهم حتى المدرسة وهو "يجعر" باكيا بطول صوته لأنه يدرك أن أبوه إن رسب سيضربه ضربا مبرحا وسيعلقه على الشجرة التي أمام بيتهم فرحمته وعرضت عليه مقترحا أن أعلمه وافهمه حتى ينجح وما إن يستلم شهادته حتى استلم أنا "السيكل" الجديد الذي أرسله أبوه له من السعودية فوافق فأبوه كان مغتربا ويرسل له بكل شيء مرفق بجوابات تهديد وقد نجح وأوفى بوعده وجاء لي بالسيكل جديدا بقرطاسه.

الطريف أنه كان كلما أرد مصروفا ذهب إلى جدته وقال لها: أنا أدرس وسأتخرج طيارا وأحتاج مصاريف فتقول: سمعني مما درسته من العلم ؟ فيقول لها: مربع فاضي زايد مربع فاضي يساوي مربع فاضي، فتصيح بفرح وهي تعطيه المصروف: الله يا علي يفصح لسانك.

وفي المرحلة الإعدادية كان لدينا زميل ينام في الفصل ويشخر ولم يحمه أبوه التاجر من المدرس الذي كان يضربه كل يوم وذات يوم سألنا المدرس واحدا واحدا: ما هي أمنيتك في الحياة ؟! فقال ذلك الطالب الآية في الغباء بكل برود: أنا أمنيتي أكون طيار فضحكنا جميعنا وعاد هو للنوم.

 

الغريب والعجيب أن أذكى طالبا في فصلنا صار عاملا في بقاله وأصبح أغبى طالب طياراً بالفعل ورأيته قبل سنوات فلم أعرفه وعرفني هو وذكرني بتلك الأيام وبشرني بأنه قد حقق أمنيته فقلت له مصعوقا: كيف وقعت طيار يا جني؟!! فقال لي كلمة بليغة وتلخص الواقع: شوف يا محمد كل شيء في هذا البلد ممكن ومعقول طالما أنت تاجر أو مسئول أو شيخ عتوول..