نظام جديد في مصفحة قديمة
بقلم/ د.مروان الغفوري
نشر منذ: 6 سنوات و 9 أشهر و 16 يوماً
الإثنين 29 يناير-كانون الثاني 2018 09:56 م


استقال مبارك عن منصبه بعد ١٨ يوم من احتجاجات واسعة أخذت شكل ثورة مكتملة الملامح. لا يوجد، حتى الآن، رئيس عربي آخر ترك منصبه بهذه السرعة، تاركاً أقل قدر ممكن من الموت والخراب. الأعوام الأخيرة لحكم مُبارك شهدت ظهور مساحات واسعة في المجال العام، أعني على صعيد الحق في التعبير: السياسي والثقافي. بلغ الانفتاح السياسي مداه في ٢٠٠٥ عندما خاض حزب مبارك انتخابات برلمانية صعبة انتهت بحصول الإخوان المسلمين على ٢٠٪ من مقاعد البرلمان. كما في الانتخابات الرئاسية، ٢٠٠٦، التي خاضها مبارك ضد مرشح امتلك قدراً معقولاً من الكاريزما وهامشاً واسعاً من الحركة وسط الجماهير. في ربيع ذلك العام خرج الآلاف من سكان "المحلة" رافعين صورة أيمن نور وهم يهتفون: الصحافة فين، الرئيس أهوه. قبل ذلك، وبعده، كانت حركة كفاية قد شكلت مركزاً للرفض المتصاعد، وكان أفرادها قادرين على توزيع المنشورات الثورية في الأماكن العامة، كما التظاهر في كل الميادين. كان عدوان النظام على الظواهر الاحتجاجية يأخذ طابعاً رمزياً مدروساً، وأحياناً يضرب بشكل انتقائي فج. غالباً ما كانت النتائج التي يجنيها من وراء أفعاله ليست هي تلك التي ذهب يتوخاها. في الأيام تلك نقلت صحيفة مصرية، الدستور، عن دبلوماسي غربي قوله إنه يخشى مغادرة مصر ولو لوقت قصير خشية أن يفوته شيء من الإثارة السياسية المتصاعدة على نحو درامي. كانت الحياة السياسية تتخلق على نحو جديد. يمكن قول ذلك الآن، ونحن نقف على كل هذه الأنقاض.

شهدتُ، شخصياً، واحدة من أكثر ليالي السياسة إثارة في العام ٢٠٠٥. أمام المدرسة العمالية حيث تجري عملية فرز الأصوات، في مدينة نصر، اجتمع حشدان كبيران تفصل بينهما مسافة قصيرة. بالقرب من مدخل شارع "عباس العقاد" كانت الحشود المؤيدة للسيدة "مكارم الديري"، مرشحة الإخوان المسلمين، تغني وتهتف وتسجد أحياناً. على الجهة الأخرى، حتى المدخل الجنوبي لشارع مكرم عبيد، كانت الحشود المؤيدة لرجل الأعمال مصطفى السلاب، مرشح الحزب الوطني، تغني وتهتف. كانت ليلة مهيبة لم أشاهد مثلها عربياً. انتهت الليلة تلك بفوز مرشح رجال الأعمال وخسارة المعلمة الأزهرية. قبل الفجر عدنا، صديقي نادر العريقي وأنا، إلى البيت تملؤنا نشوة غامرة، كأننا طالعين للتو من مسرحية "عدو الشعب" لهنريك إبسن. بعد سنوات، في العام ٢٠١٣، سيقتل صديقي نادر العريقي بالقرب من جامع رابعة العدوية على يد نظام جديد لا يبدو أن لديه أدنى فكرة عن الظروف التي أدت إلى انهيار سلفه.

كان نظام مبارك يكترث، إلى حد ما، لسمعته الدولية، وكان احتمال أن ينزلق بمصر إلى "جمهورية موز" يصيبه بالقلق. فعندما زارت كونداليزا رايس القاهرة في ٢٠٠٦، قبل موعد انطلاق الحملات الانتخابية بشهر، قام النظام بنزع كل صور مبارك من الشوارع التي سيمر فيها موكب السيدة القوية. بعد يومين أو ثلاثة كتبت صحيفة الأسبوع عنواناً ضخماً على صفحتها الأولى يقول: بركاتك يا ست. ظهرت صحف جديدة بخطاب معارض عالي السقف. بعض تلك الصحف تحول إلى مطوية يومية كما فعلت "الدستور"، ولوقت قصير صحيفة "الغد".

في الأيام تلك لم تكن هُناك كتب تصدر في مديح مبارك. كما لم يكن ممكناً، عملياً، أن يكتب يوسف القعيد عن مبارك ما كتبه حول السيسي: عن الاستحداثات البلاغية الجديدة في خطاب السيد الرئيس. تدفقت كتب جديدة إلى المكتبة المصرية "لماذا لا يثور المصريون، كرت أحمر الرئيس، ماذا حدث للمصريين" وكتب أخرى. صناعة السينما سلكت الطريق نفسه، وبرزت أفلام ذات طبيعة ثورية مثل "هي فوضى، عسل أسود، حين ميسرة". احتمل نظام مبارك كل هذه الديناميكا المتصاعدة، محاولاً احتفاء كل ذلك الزخم يراكم نفسه بتسارع مرهق. غض النظام، في السياق نفسه، شيئاً من الطرف عن وصف هيكل لرئيسه ب"البقرة الضاحكة" في لقاء جمعه بروبيرت فيسك، كتب عنه فيسك في الغارديان بعد ذلك. اقتصر انتقام النظام على مقالة كاريكاتورية في مجلة روز يوسف أضافت إلى معلوماتنا شيئاً عن تضخم في البروستات قالت إن هيكل كان يعاني منه في السابق.

أخذ ذلك الحراك يتنامى وبلغ عامه السابع، إذا اعتبرنا ظهور حركة كفاية في العام ٢٠٠٣ هو المقدمة التاريخية له. لم تتدهور تلك الحركة سريعاً إلى ثورة بسبب ما أبداه نظام مبارك من مرونة في احتواء كل تلك الظواهر. حد إن أحد أبرز ناقدي نظام مبارك، بلال فضل، يتلقى عرضاً ودياً من رئيس تحرير الأهرام يدعوه فيه، كما كتب فضل، إلى "البرج"، أي منحه الموقع الأبرز في الصحيفة الأكبر عربياً. لم يقطع النظام صلاته بالمعارضة، بكل تنويعاتها.

بموازاة هذا النمو الحديث والحداثي لمسألتي الحقوق والحريات في مصر كان جمال مبارك يشكل نظاماً آخراً متهوراً وعنيفاً، ويستعد لوراثة والده. في الانتخابات البرلمانية التي حدثت في خريف ٢٠١٠ أصر "جمال" على الفوز بكل المقاعد، وحصل على أكثر ٩٥٪ من أصوات الناخبين. قبل ذلك بوقت قصير كان فريق جمال مبارك قد سيطر، تقريباً، على كل المجالس البلدية المنتشرة على ٢٦٧٥٧ كفر ونجع وعزبة. حقق جمال مبارك هذين النصرين الساحقين غاضاً الطرف عن مسألتين خطرتين: التراكم الذي أنجزته الحركة الوطنية المصرية في الأعوام السبعة الأخيرة، ومنسوب الفقر غير المسبوق.

لم تكن الوسائط الحديثة قد توغلت في حياة المصريين، ٢٠١٠، على النحو الذي يحدث الآن. برغم ذلك كان المصريون قادرين على التواصل، وكان إحساسهم بالاختطاف من قبل النظام الجديد، نظام جمال مبارك، حاداً. الجماعة التي أحاطت بجمال مبارك، من كبار رجال الأعمال، أضافت لخطاياه السياسية جرائم اقتصادية. اندفع ابن الرئيس على عجل ليخصص سلسلة من المصانع العامة، من تركة زمن عبد الناصر، على مرحلتين. سبق أن قدرت تلك الأصول في العام ١٩٩٤ بـ ١٠٠ مليار دولار، لكن نظام النجل عرضها للبيع بأقل من ثلث تلك القيمة. وكنتيجة لذلك فقد آلاف العمال وظائفهم بعد أن قام المالكون الجدد بإعادة هيلكة تلك المشاريع. كان الفقر هو الحراك الأكثر حسماً، وهو ما لم يكن بالمقدور احتواؤه.

الاحتواء الذي أبداه نظام مبارك تجاه حراك شعبي سياسي آخذ في النمو لم يكن بلا نهاية. فالنجل الذي كان دائماً على عجلة من أمره لم يكن قادراً على رؤية المجتمع في صورته الأخيرة. بدا كمراهق تاتشري لا يؤمن بوجود ذلك المجتمع ابتداءً. كانت النتيجة، بالمعنى التاريخي، وخيمة. بعد أشهر معدودة من اليوم الذي احتفل فيه مبارك بحصول حزبه على كل مقاعد البرلمان، تقريباً، انفجرت الثورة وخسر الفائز كل شيء.
في سياقات يمكن فهمها تاريخياً نجحت ثورة مضادة، مستفيدة من حالة مزرية من تفكك الحركة الوطنية المصرية، في السيطرة على مصر، وصار الجنرال السيسي قائداً. ما لم يتنبه له السيسي جيداً هو تلك الحقيقة التي تقول إن المجتمع المصري راكم، منذ ثورة يناير حتى الآن، وعياً وخيالاً سياسيين يفوقان ما أنجزه التنوير المصري خلال قرن ونصف من الزمان، منذ التأسيس الأول لمصر الجديدة على يد محمد علي. الحقيقة أن منازل المواطنين أكثر من أقسام الشرطة، وعدد المقهورين أكبر من عدد الدبابات، والحرية، ولو لساعة، تترك حنيناً جارفاً إلى الحرية.
قبل انهيار نظام مبارك قال هيكل إن النظام السياسي العربي، والمصري على وجه الخصوص، أصبح على شكل مصفحة. تحمي المصفحة من يختبئ بداخلها، لكنها بطيئة الحركة، تمنح المرء الإحساس بالأمن لكنها لا تعطيه صورة عما يجري في الخارج. لكي تصبح الديكتاتورية حقيقة مستدامة، غير قابلة للاهتزاز، فلا بد أن تسلك طريقاً غير الذي يسلكه السيسي: أي أن تعوض المواطنين بدلاً عن الفرصة السياسية فرصة اقتصادية فيصير بمقدورهم الاختيار بين أنواع مختلفة من المنتجات الاقتصادية كبديل للبحث عن الأنواع السياسية.

لن ينجح نظام السيسي في خلق هذه الفرصة، فهو يستنفد كل طاقة نظامه في المسألة الأمنية. كان سيرجي حليمي يتخوف، في اللوموند ديبلوماتيك، من زمن يُستبدل فيه المواطنون بالمستثمرين. ذلك الزمن سيكون غير قابل للاستقرار، كما يتوقع. لكن السيسي جعل الأمور أسوأ من ذلك: فقد استبدل المواطنين والمستثمرين، معاً، بالجنرالات. هذا الشكل الجديد من "النظام المصفحة" يتمتع بأعلى درجات التوجس والريبة، وهو ما يدفعه إلى مزيد من العزلة والمزيد من إهدار المال في اقتصاد "صناعة الأقفال". في نهاية المطاف يتراكم الفقر، كما يتراكم القهر. وكما حدث دائماً في التاريخ، وسيحدث مستقبلاً، سرعان ما يثور أولئك الذين لن يخسروا من ثورتهم سوى الأغلال.

 

*نقلا عن مدونات الجزيرة