|
سنتحدث عن الغرب وتنظيم القاعدة كقوتين كبيرتين متصارعتين بإمكانهما أن يعيدا ترتيب أبجدية المنطقة العربية كليا وعلى مختلف الأصعدة.. فكل ما يحدث في هذه المنطقة لا يمكن أن ينفصل عن حسابات هاتين القوتين..
من منطق برجماتي بحت، يمكن القول إن تنظيم القاعدة سيكون مستاء من الثورات الشعبية على الأنظمة العربية، لأن ما كان يراهن عليه التنظيم في توسيع قاعدة الأنصار والمتعاطفين معه قد بدأ بالانحسار بعد الثورتين الشعبيتين في كل من تونس ومصر، فاللعب على ورقة استبداد الأنظمة العربية وديكتاتوريتها وكذا عمالتها للغرب، في توسيع الهوة بين الشعوب العربية والغرب من جهة وبينها وبين الأنظمة المحلية من جهة أخرى، ستحرقه الثورات الشعبية.. هكذا يرى البعض..
كما أن رؤية القاعدة للتغيير قد تصبح من الخيارات الثانوية أو المنبوذة في نظر الكثير بعد أن تمكنت ثورات شعبية سلمية من إسقاط أعتى الأنظمة في العالم العربي خلال أسابيع، وإذا ما أضفنا إلى هذا إيجابية الموقف الغربي من ثورات الشعوب في المنطقة العربية، كما حدث في تونس وكما يحدث في مصر، فسيبدو التنظيم كما لو أنه بدأ يفقد أدوات التأثير والجذب واحدة تلو الأخرى..
وفي هذا السياق يرى "ساجان جوهيل" من مؤسسة آسيا والمحيط الهادي للأبحاث الأمنية، أن القاعدة ستجد فرصا إذا تمكن مبارك من التشبث بالسلطة أو خلفته حكومة تشبه بشكل كبير الحكومة السابقة. وقال جاريت براتشمان وهو أمريكي متخصص في مكافحة الإرهاب إن" أفضل شيء بالنسبة للقاعدة سيكون هو أن تتصاعد هذه الانتفاضة ثم تخيب بعد ذلك التوقعات الشعبية، وأضاف "كلما استطاعت القاعدة إن تقول إن صوت الشعب مازال غير مسموع وتصبح مدافعا شعبيا عن "مصر جديدة" كلما تعزز موقفها".
هذا الرأي قد يقوي فرضية وقوف الغرب وراء مثل هذه الثورات، على اعتبار أن الوقوف في صف الأنظمة المتطرفة أسهم كثيرا في خلق حالة من التطرف المضاد، خصوصا وأن هذه الأنظمة لم تكن تحظى بأية شعبية في العالم العربي والإسلامي، والنتائج تؤكد كذلك، فمنذ الحادي عشر من سبتمبر وحتى يومنا هذا اتسعت الرقعة الجغرافية التي يتواجد فيها تنظيم القاعدة، رغم سقوط دولته مركزيا في أفغانستان..
على أن الموقف الغربي من هذه الثورات قد يكون استسلاما للأمر الواقع الذي فرضته الإرادة الشعبية في كل من تونس ومصر، وليس تسليما به، والغرب يفعل هذا كثيرا، لهذا وجدنا المواقف الأمريكية تجاه الثورة الشعبية المصرية تتوقف، من حيث الصرامة واللين، على ما سيجري على الأرض..
وللتأكيد على تعامل الغرب مع ما هو أمر واقع بهذه الشكل، يمكننا أن نسوق بعض النماذج:
في وقت سابق دعا قائد قوات حلف شمال الأطلسي في أفغانستان، إلى الحوار مع حركة طالبان، بعد فشل الخيار العسكري في تحقيق أهدافه.. وكان لوزير الدفاع الألماني كلام قريب من هذا: "إن استتباب الأمن في أفغانستان وإنهاء العنف يمكن أن يتحقق عبر الحوار الجدي وبدون شروط مع جماعة طالبان"..
بعد هذه الدعوة، وبأشهر، تواصلت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما مع بعض فصائل المقاومة العراقية للتفاوض معها، غير مكترثة بردة فعل حكومة حليفها المخلص نوري المالكي، وكان المالكي قد أبدى استغرابه من مثل هذا التواصل: كيف تتواصل الولايات المتحدة مع المجرمين الذين قتلوا الجنود الأمريكيين؟.. (نص عبارة المالكي)..
هذه مجرد قراءة من قراءات أخرى كثيرة لما يجري، وبعضها يذهب إلى أن ما يحدث يصب في صالح التنظيم لأسباب سيأتي ذكرها..
"وبخصوص تأثير مثل هذه الثورات بشكل سلبي على تنظيم القاعدة، يقول نعمان بن عثمان وهو منظر سابق لجماعة متحالفة مع القاعدة في ليبيا، في تصريحات نقلتها عنه وكالة رويترز، "إنها هزيمة كبيرة للقاعدة في بلد ذي أهمية محورية بالنسبة لصورتها فقد جرحت مصداقيتها لدى أنصارها المحتملين".
ويقول بيتر كنوب، مدير المركز الدولي لمكافحة الإرهاب في لاهاي إن"هذه المظاهرات من جانب أناس عاديين تثبت إفلاس إيديولوجية القاعدة." وأضاف أن انتحار التونسي محمد البوعزيزي في ديسمبر الماضي احتجاجا على انعدام الفرص الاقتصادية والذي ساعد على إشعال الثورة التونسية اثبت أنه أكثر قوة من دعوة القاعدة لشن هجمات على الحكام العرب الذين يدعمهم الغرب. وأردف قائلا إن الانتحار الحقيقي لشخص كان يائسا أدى إلى تعبئة الجماهير.".. فكيف ينظر التنظيم إلى مثل هذه الثورات؟.
ترحيب وتخوف
رحب فرع "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" بثورة الشعب التونسي على نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، ووصف الثورة بالزلزال الذي هد عرش طاغية تونس، لكنه حذر من أن يتم استبدال "العميل" بن علي بعميل آخر، حد تعبيره، كما أبدى تخوفه من الدور الذي قد تلعبه الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا في تونس خلال مرحلة ما بعد سقوط النظام..
وقال التنظيم في بيان له، نشره في بعض مواقعه على الانترنت عقب أحداث تونس، "إن فرنسا والولايات المتحدة "ستلعبان الدور القذر نفسه في تونس في المستقبل إلا في حال أوقفتهم هجمات المجاهدين"..
وأضاف بيان التنظيم: "إن الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا مع الكفار الغربيين، لن يقبلوا بأي تغيير لا يتوافق مصالحهم في تونس. إنهم منشغلون حاليا في العثور على عميل آخر مقبول لديهم"..
تجدر الإشارة هنا إلى أن ما يسميه تنظيم القاعدة "عميلا"، تسميه الولايات المتحدة الأمريكية "حليفا" فيما يسمى بـ"الحرب على الإرهاب"..
وفي التسجيل المرئي "نصرة وتأييد لإخواننا في تونس" الصادر في المراحل الأولى لانتفاضة تونس، يعلن أبو مصعب عبد الودود، وهو القائد لفرع التنظيم في بلاد المغرب الإسلامي، عن تأييد التنظيم لانتفاضة الشعب التونسي ضد نظام الرئيس المخلوع بن علي..
وأضاف بأن أعمال الشغب في العاصمة التونسية ليست سوى "صرخة احتجاج مدوية من ضحية في مواجهة جلادها، كسرت جدار الصمت الذي خيم على تونس منذ عقود طويلة.. غضبة طال انتظارها وانتفاضة مباركة ضد الطغيان"..
وقال عبد الودود إن "القاعدة في المغرب الإسلامي" على استعداد لتقديم المشورة "وتشجيع المتظاهرين على تحدي الحكومة كجزء من معركة أكبر لتحرير ديار الإسلام وإقامة الشريعة"..
كما حشد عبد الودود في كلمته الكثير من الأشعار الحماسية لأبي القاسم الشابي ولأبي الطيب المتنبي وغيرهما من الشعراء، إضافة إلى حديثه عن مشروعية المطالب الشعبية وعن سرقة لصوص النظام لحقوق الشعب ووو..الخ..، وهي لهجة مختلفة للتنظيم أُريد لها أن تتناغم مع هذا التطور المهم في العالم العربي..
ويحاول التنظيم أن يثبت بأن مثل هذه الثورات الشعبية هي جزء من ثورة عامة يقودها على واقع مختل بذات الدوافع وإن اختلفت الوسائل..
ويقول رجل الدين الموريتاني المؤيد للقاعدة أبو المنذر الشنقيطي في رده على سؤال عن المشاركة في الثورة الشعبية المصرية، "إن ما يحصل اليوم في بلاد الإسلام من ظلم وبغي وفجور داخل في دائرة الظلم الذي شرع الله لعباده التصدي له"..
ويضيف الشنقيطي: "ويجب أن نعلم أن إزاحة النظام الحاكم في مصر أمر قد يستعصي على أكبر المنظمات الجهادية,فلو نجح هؤلاء المتظاهرون في إسقاطه لكان ذالك نصرا عظيما للإسلام والمسلمين"..
ويرى الشنقيطي أن المتظاهرين الذين رددوا شعار "الشعب يريد إسقاط النظام". " قد توصلوا في الحقيقة إلى النتيجة نفسها التي توصلت إليها الجماعات الجهادية منذ عقدين من الزمن وهي ضرورة التخلص من هذه الأنظمة واعتبارها امتدادا للغرب"..
صحيح بأن قيادات التنظيم الرئيسية، كابن لادن والظواهري، لم يصدر عنها حتى اللحظة موقف مؤيد أو معارض لمثل هذه الثورات الشعبية إلا أن مواقفها لن تختلف عن موقف فرع التنظيم في المغرب العربي مثلا، على اعتبار أن الجميع محكومون بأدبيات ومبادئ معينة يتعذر أن تأتي بمواقف متباينة..
ومما تقدم يتضح أن تنظيم القاعدة يرحب فعلا بمثل هذه الثورات، وإن كان يتخوف مما سيحدث في المراحل التالية لها، وهو الأمر الذي يقلق الغرب أيضا، ما يعني أن الصراع بين الطرفين قد يأخذ شكلا آخر في تلك المراحل..
القاعدة عملت لذلك وحددت له مدة زمنية
في برنامج سري للغاية الذي كان يعده لقناة الجزيرة الإعلامي الشهير يسري فوده، وفي حلقة "العبور إلى المجهول" من هذا البرنامج، يتحدث أحد منظري التنظيم، ويدعى مصطفى ست مريم نصر "أبو مصعب السوري" عن المراحل الست لتطور الجهاد الإسلامي، أولها ضرب العدو في عقر داره وثانيها استدراجه إلى بلاد المسلمين.. وهاتان المرحلتان كانتا قد تحققتا بعد عملية الحادي عشر من سبتمبر في كل من نيويورك وواشنطن عام 2001م، وقد جرت على النحو المرسوم تماما بعد احتلال أمريكا لأفغانستان والعراق..
أما المرحلة الثالثة من المراحل الست فهي بناء قاعدة صلبة في العراق لخلخلة الأوضاع الأمنية في سوريا ولبنان حتى تكون بلاد الشام، بعد ذلك، نقطة انطلاق للاشتباك المباشر مع الكيان الإسرائيلي، والاشتباك المباشر مع الكيان الإسرائيلي هو المرحلة الرابعة من المراحل الست، وقد حددت القاعدة لذلك مدة زمنية تبدأ في عام 2007م وتنتهي في عام 2010م..
باقي المراحل حدد لها التنظيم برنامجا زمنيا يبدأ من حيث انتهت المرحلة الثالثة 2010م وينتهي في عام 2020م.. وتقول المرحلة التالية إن ما حدث في المراحل السابقة سيدفع الأنظمة العربية إلى التصدي لذلك مما يعريهم أمام الجماهير ويظهرهم كحراس للمحتل وهو ما سيقود إلى اشتباك مباشر بين هذه الأنظمة وبين القاعدة أو بين الأنظمة وبين شعوبها قد يؤدي إلى تغيير هذه الأنظمة واستبدالها بأنظمة حكم أخرى ترضى عن القاعدة أو تتقبل وجودها.. ولا يعنينا هنا سرد باقي المراحل مفصلةً لكن تعنينا الإشارة إلى أن النظام المصري في مأزقه الأخير عزف على وتر أمن إسرائيل بعد ذهابه وكذا على وتر وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم في مصر، ولهذا دلالات قوية لها علاقة بما أوردناه هنا.
لا أهمية للمقدمات ما دامت النتائج واحدة
يتضح مما تقدم أن استغلال تنظيم القاعدة لديكتاتورية الأنظمة العربية في توسيع الهوة بينها وبين شعوبها وكسب تعاطف وولاء هذه الشعوب له، كان الـغرض منه إسقاط هذه الأنظمة العميلة، على حد تعبيره، في نهاية المطاف، وبالتالي فإن سقوطها لا يشكل خسارة بالنسبة للتنظيم ولا يفقده بعض أدوات الجذب، كما يفكر البعض، فهو النتيجة المطلوبة من استغلال غطرسة وعمالة هذه الأنظمة أصلا..
الأمر الآخر.. تنظيم القاعدة ليس حركة أو جماعة برجماتية تسعى إلى فرض نفسها كحاكم أو متحكم في أمور الناس لأغراض لا علاقة لها بالهم العام، بل تسعى إلى خلق حالة تسود فيها مبادئ معينة، وإذا ما وُجدت هذه الحالة وسادت فيها تلك المبادئ بجهود آخرين، فسيبارك تنظيم القاعدة ذلك بكل تأكيد، ولهذا أعتقد أن الثورات الشعبية في الوطن العربي لم توجه صفعة لتنظيم القاعدة ولم تؤثر،أيضا، على رؤيته للتغيير..
وبهذا يكون الغرب قد استسلم لواقع جديد فرض نفسه دون أن يكون ضمن حساباته، لكنه سيعمل جاهدا لتفادي مخاطر ما بعد تلك الثورات، أي أن خططه في الحرب على الإرهاب ستتراجع كثيرا إلى الوراء.
*عن الشموع
في السبت 12 فبراير-شباط 2011 04:27:25 م