هل هي حرب المئة عام في اليمن؟
بقلم/ ناديا ظافر شعبان
نشر منذ: 15 سنة و أسبوعين و 6 أيام
الجمعة 23 أكتوبر-تشرين الأول 2009 05:58 م

إنها على ما يبدو حرب المئة عام في اليمن، لأنها حرب تتداخل في ضراماتها كل عناصر التناقضات الأهلية الداخلية، والعصبيات المركّبة، وما تبتعثه من صراعات فيما بين القبائل والعشائر والأفخاذ والعائلات.. وحتى الولاءات المتباينة في القبيلة الواحدة، والعشيرة الواحدة، وحتى الفخذ الواحد.

اليمن إذن، أرض القبائل بامتياز، ولم يستطع النظام الجمهوري أن يصهرها جميعاً في مجتمع عصري واحد يتحصّن بمفهوم الدولة الحديثة والمواطنة والمؤسسات والقانون.. الخ. والقبائل ذات السلطة والنفوذ عديدة في اليمن، من أبرزها: حاشد، بكيل، مراد، حمير، كندة إلخ.. هذه القبائل اليمنية، وغيرها أيضا، مدججة كلها بالسلاح بنوعيه الثقيل والخفيف، أي بالمدافع والصواريخ وقذائف الدبابات والهاونات والألغام المختلفة الأحجام، فضلاً عن الكلاشينكوفات والأسلحة الفردية التي تباع على عينك يا تاجر، أمام الجميع.. وتقول المعلومات إن في أيدي اليمنيين أكثر من سبعين مليون قطعة سلاح، وبعض القبائل يرفع شعار «السلاح زينة الرجال»، ويتباهى به أمام الجميع، ويربي فتيان القبيلة على التقاليد الحربية، غير عابئ بمؤسسات الدولة العسكرية والأمنية ودورها في أن تكون مظلة تحمي أمن الجميع وتثبت استقرارهم الأهلي.

والحرب الدائرة في اليمن الآن تتنكبها ثلاث قبائل رئيسة هي: حاشد، والتي ينتمي إليها الرئىس علي عبدالله صالح، والشيخ عبدالله بن حسين الأحمر.. وحاشد هي التي تؤازر الجيش راهناً في حربه على الحوثيين في مناطق صعدة وحرف سفيان.. وهؤلاء، أي الحوثيون، ينتمون إلى قبيلة بكيل، القبيلة الرئيسة الثانية المعارضة، والتي يغلب على أتباعها جميعاً اعتناقهم المذهب الزيدي، وهم يشكلون ثلث اليمنيين البالغ تعدادهم العام 23 مليون نسمة، أغلبهم من المسلمين السنة.

أما القبيلة الثالثة المنخرطة وبقوة في الحرب، إلى جانب الحوثيين و«الاشتراكيين» كما يقال، فهي قبيلة مراد المأربية. وعلى الرغم من أن هذه القبيلة ليست بحجم وتعداد قبيلتي حاشد وبكيل، إلا أنها دخلت الحرب مدفوعة إلى الواجهة من الحزب الاشتراكي اليمني السابق، والذي يحاول ابتعاثه من جديد، كقوة مركزية معارضة هذه الأيام، الرئيس السابق علي سالم البيض، متخفياً طبعاً وراء قبيلة مراد، ليضمن لحزبه نجاح المواجهة الاحترابية مع السلطة.. لأن هذا الحزب، وإبان وجوده على رأس السلطة في اليمن الديموقراطي سابقاً، كان قد حاول ما وسعته المحاولة، لإلغاء المظاهر القبلية في نظامه، ولكنه لم يتمكن من ذلك، وإن كان نجح نسبياً طبعاً في إضعاف العصبيات القبلية في الجنوب مقارنة ببقاء هذه العصبيات و«ازدهارها» وتمكّنها في الشمال.

وعليه، فإن عدّة الشغل لدى الحزب الاشتراكي حالياً، تتركز حول النفخ في البوق القبلي لاستنفار المزيد من الأتباع والحشود، والتمكن بالتالي من الوقوف في وجه الجيش، والأهم أيضاً في وجه تحالف القبائل الشمالية بزعامة قبيلة حاشد. حزب علي سالم البيض، مع الأسف، يحلم بإعادة قسمة الوطن اليمني، تحت شعار استبداد ممارسات دولة الوحدة وخطاياها التي لا تغتفر، وإن لم ينجح الحزب افتراضاً في ذلك، فعلى الأقل يكون قد أمّن له الجلوس إلى طاولة المفاوضات بأوراق قوة مضاعفة تفرض وجوده في معادلة الدولة المقبلة في اليمن، ولو بعد «عقود».. لأن هذه الحرب مع الأسف فتحت لتبقى إلى ما لا نهاية.

فما يجري على أرض سبأ، مرتبط تماماً بما يعدّ للمنطقة العربية والإسلامية ككل، من معادلات تقسيمية، وتفتيتية لدولها أو كياناتها الحاضرة، وكيف لا تطول هذه الحرب، وهي تطاول الآن نسيج المجتمع اليمني كله بفسيفسائه القبلية والعشائرية، مضافاً إليها عامل الانقسام الديني أو المذهبي، وهو عامل يزيد الأمور تعقيداً والتهاباً وخطورة، وخطورته المتمادية هنا، هو أنه يحمل عنوان هذه الحرب المفبركة: حرب السنّة والشيعة في اليمن، واشتغال الإعلام على هذا العنوان بكثافة وتواصل، وذلك على غرار ما يسوق، وإعلامياً أيضاً، من حروب سنية شيعية أخرى في العراق ولبنان، وذلك كله في إطار ترجمة سياسية «الفوضى البناءة» الآيلة إلى إثارة القلاقل الطائفية والمذهبية والعرقية والقبائلية في دول الشرق الاوسط العربي والإسلامي الكبير، تمهيدا لانبعاث الخارطة الجديدة له، وقوامها دويلات دينية ومذهبية وقبائلية ضيقة، هشة، محتربة فيما بينها، ولا يقر لها قرار، وتكون جميعها لاحقا، تحت نفوذ دولة إقليمية قوية واحدة (إسرائيل) لا تكف عن إعلان نفسها، وبمنتهى الصلف والوقاحة، بأنها دولة يهودية صرف. والأنكى أن العالم الغربي كله يؤيدها ضمنا في ذلك، أو على الأقل يسكت عن طرحها العنصري، متجاوزا بذلك كل قيم الديمقراطية والحداثة وحقوق الإنسان التي ينادي بها ليل نهار في أدبياته السياسية والإعلامية على اختلافها.

غير أننا لا نريد هنا، وكما العادة، إلقاء اللوم على الآخرين. فنحن عربا في اليمن أو في العراق أو في لبنان، أو في السودان الخ... مسؤولون جميعا عن حروبنا الأهلية وإدامة فصولها الجهنمية الخطرة.

ففي حرب كحرب اليمن حاليا، الجميع مسؤول عن بدايات مشوار خراب البلد، والذي لا أدري صراحة متى كان سعيدا، والسير بإرادة ذاتية جماعية تشمل كل الأطراف، نحو المصير الأسود. فلا يكفي مثلا، ولا يفيد أصلا وفصلا، أن ننظر في تبريرات علي سالم البيض القائلة بأن صنعاء «تعاملت مع الجنوب بأهله وثرواته على أساس أنهم غنيمة حرب.. كنا متحمسين للوحدة، لكننا اكتشفنا بعد ذلك أن ما ظنناه عملا تاريخيا كبيرا، هو كمين تاريخي، لأن علي عبدالله صالح، ومن حوله، لم يرغبوا في تنفيذ أي من الاتفاقات». والأدهى هنا أن علي سالم البيض لا يجد غضاضة البتة في أن يستنجد بقوى إقليمية ليكمل معركته المفتوحة على السلطة.. يقول: «إيران دولة موجودة في المنطقة، وهي قادرة ولها دور كبير، ونحن نطلب المساعدة من أي دولة قادرة على توفير ذلك باستثناء إسرائيل».

أما الرئيس علي عبدالله صالح فيصف في المقابل الحوثيين «وقوى الحراك» في الجنوب، بأنهم أشبه بالمرتدين عن الإسلام، أو هم كذلك برأيه: «إن المرتدين عن وحدة اليمن كالمرتدين عن الإسلام».

وكان حسين الحوثي من قبل، أي قبل وفاته، قد كفر السلطة في صنعاء، ورفض الاعتراف بمحافظة صعدة كواحدة من المحافظات اليمنية، ويقال إنه نصّب نفسه إماما وحرم دفع الضرائب للسلطات الخ.

مثل هذه التصريحات من الطرفين المحتربين في اليمن: السلطة والمعارضة، عدا أنها تذكي الحرب وتطيل أمدها، فهي لا تصل إلى أي نتيجة، اللهم إلا المصير المرعب لليمن، وبالتالي تقسيمه هذه المرة، لا إلى دولتين: شمالية وجنوبية فقط، وإنما إلى خمس أو ست دول متعادية، ويدمر بعضها بعضا، لأننا هنا أمام احتراب أهلي.. أمام حرب قبائل، ولا تستطيع السلطة المركزية، مهما حاولت، حسم هذه الحرب لمصلحتها.. وبالتالي فإن الأمر سيقود اليمن، إذا ما استمرت الأمور على ما هي عليه من الحروب المتبادلة، إلى نوع من الدخول في حالة من التأفغن، أو الصوملة، أو العرقنة الخ.. من هذه الاصطلاحات التي تعنون مرحلة الانحطاط السياسي العربي والإسلامي الذي لم يسبق له مثيل في تاريخنا القديم والمعاصر على السواء.

وحالات التأفغن، أو الصوملة، أو العرقنة، هي مقدمات طبيعية وآلية للوصول إلى تقسيم اليمن وتذريره وبواره.

مطلوب إذن من الجميع في اليمن، وقبل فوات الأوان، أن يعترف كل طرف بالآخر.. وهنا لا ضير البتة من الدولة أن تتنازل عن تصلبها المركزي، وتعترف بالأزمة، وتقبل بإقامة طاولة مفاوضات جدية حقيقية، تشمل كل الأطراف الأهلية المتنازعة، ويتفق الجميع من خلالها على برنامج سياسي واحد يجري تطبيقه على الأرض، يضمن، من جهة، وحدة البلد من صنعاء إلى عدن، وتوزيع ثروة البلاد ومشروعات التنمية على الجميع، بحيث تشمل الوطن اليمني كله، ويصار فعلا إلى دمقرطة البلد والاحتكام الفعلي والشفاف، إلى صندوقة الاقتراع ولغتها الفاصلة.

ويخطئ، لا بل يرتكب الخطيئة الكبرى، كل من يعمل في اليمن على ضرب مفهوم الدولة المركزية الواحدة، وإفشال مؤسساتها، وتقويض أجهزتها الأمنية، وأولاها الجيش، تحت أي ذريعة كانت، لأنه لن يجد أمامه غير شر الشرور جميعها: الحرب الاهلية.

نعم، ومهما كانت دولة علي عبدالله صالح مستبدة، قمعية ومستأثرة، تبقى هي الأفضل وبما لا يقاس، من قيام دويلات مذهبية وقبلية وإمامية أقل ما يقال فيها أنها ما قبل سياسية، لأنه على الأقل يمكن الإنطلاق منها (أي الدولة القائمة) ا إلى إصلاح الأوضاع مهما طالت، فهل يتعقلن الجميع في بلاد أصل العرب، أم أن أمامهم فعلا طور الدخول المتمادي في حرب المئة عام؟..

* نقلا عن "أوان" الكويتية