|
في صبيحة الحادي عشر من فبراير المجيد بدأت الشمس تشرق بغير ما اعتاد عليه الناس، فقد كانت تجمع بين الهياج والابتهاج، وفي ذلك الصباح الأغر ارتعدت فرائص الحاكم في قصره الرئاسي حين استذكر ما حدث في تونس ومصر، فكان ذلك نذير اقتراب نهاية الظلم والظالمين ..
هذا الحاكم الذي سعى لرسم صورة مقيتة لمجتمعنا في الداخل والخارج؛ وكان غرضه في الداخل إقناع الشعب أنه ليس فيهم رجل رشيد سواه، وأنه هو وحده عنوان الحضارة والقيادة وكل شيء، أما الشعب فلا يفقه ولا يفهم ولا يدري. وبالتالي حق للحاكم أن يمد رجليه ثلاثاً وثلاثين عاماً ولا يبالي، وأن يزرع في ثنايا تلك السنين العجاف شخوصاً عشقوا المال والسلطة كعشقهم للحياة، من ذوي القربى والمنتفعين والمتمجدين؛ فكانوا ينفثون السموم في وجه كل تواق لاستنشاق الحضارة والحياة الكريمة ..، ليس ذلك وحسب بل جعلهم المدد والبديل لاستمرار الحكم بصورته تلك، وهو الذي لا هم له غير الحفاظ على مجتمع جاهل، فحارب المثقف، والأكاديمي، والمتعلم، والموظف، إما بالتحقير أو بالتهميش أو بالتجويع أو بالتفضيل أو بالإقصاء. كما حارب القبيلي بقتل نخوته وتمييع عاداته وتقاليده، فنشر الفوضى بين القبائل، وغذى الثارات والخلافات والحروب، واشترى ذمم ضعفاء النفوس، وحول الكثير من شباب القبائل إما إلى قطاع طرق يختطفون الضيوف، أو إلى محاربين متصارعين لا يجد الواحد منهم يوماً سعيداً آمناً ينعم به مع أهله ككل الناس. أما الجيش والأمن فقد قسمه وصنفه: أضعف قسماً، وسرح آخر، ودعم جزءاً، وشق بعضاً، وحول البعض الآخر إلى جلادين وقتله. حتى الوطن جعل صدره الواسع الحاني ضيقاً بأهله .. وريفه الجميل خوفاً .. ومدنه البريئة فوضى .. ووحدته سراباً ...
ولكن بفضل الثورة السلمية –هبة الله لليمن- أدرك الناس في هذا الوطن أن تلك المتناقضات التي صنعها الحاكم لا غرض له منها سوى الإبقاء على مجتمع جاهل مضطرب متناحر؛ ليتيح لنفسه ولأسرته حكماً طويلاً ليله لا نهار له، وشهيته لا تشبع نهباً من أموال الشعب، وعطشه لا ترويه إلا الدماء، وغروره لا يرضيه غير إذلال الآخر مهما كان مركزه ..، أدرك الناس أن الفتن الظاهرة في مجتمعنا ليست سوى خارطة طريق رسمها الحاكم لإدامة الفساد والإفساد، أقنع بها براءة كثير من الناس، وصورها أنها مؤامرة ومعضلة لا حل لها إلا ببقائه، بل أصر على تسويق هذه الفكرة حتى بعد رحيله وإلى يومنا هذا ..
ولذلك لم يكن غريباً أن تعاملت آلة بطش الحاكم مع الثوار بتلك الصلافة التي رأيناها؛ لأنهم أدركوا أن النهار أطل برأسه، وأن شمس الثورة أوشكت على أن تطفئ ليل المأساة في بلد الحضارة . فالحاكم لم يتصور يوماً أن الشباب الذين حولهم إلى عاطلين عن العمل يستجدون رضاه، وجعل فراغهم لا بصيص أمل يملأه، ووضعهم داخل دائرة مغلقة يحومون حول أنفسهم في متاهة لا مخرج لها، لم يتصور هذا الحاكم أبدأ أن يكون هؤلاء الشباب هم من يزلزل عرشه ويقض مضاجعه، تماماً كما لم يتصور فرعون أن يكون غرقه ونهايته على يد موسى الذي لم يعرف غيره حاكماً منذ أن عرف الدنيا ..
حينئذ وإلى جانب آلة القمع، سلط النظام على الثوار: النعاقين والنباحين والشتامين والمخذلين والمشوهين والمشوشين والمشككين، والمتمجدين، لينالوا من عزيمتهم ووحدتهم ومن الأهداف السامية لثورتهم، فواجهوا كل ذلك بالصبر والمصابرة، والتحدي والصمود والسلام، وكذلك واجهوه بالاستعداد لكل أنواع التضحية من أجل انتصار الثورة؛ لأنها المخرج الوحيد لعودة الوطن المختطف ...
أما على الصعيد الخارجي:
فقد عجز المثقفون، وعجزت القنوات الفضائية، وعجزت كل المحاولات (غير الحكومية !!) عن إقناع العالم أن شعب اليمن شعب حضارة؛ لأن الحاكم ومعاونيه خدشوا حياء الوطن، وخربشوا وجه الشعب، ودونوا في سجلات العالم اسماً مزيفاً لليمنيين هو: \"الشعب الجاهل القبلي المتخلف\"..
لكن الثوار الأبطال من الرجال والنساء تمكنوا خلال وقت قصير من استبدال نظرة العالم السلبية تجاه الشعب اليمني بنظرة جديدة أذهلت كل متابع. فقد ظهر الناس للعالم بثقافات عالية، وعلم غزير، وعقول متفتحة متقده، وخطاب راق، وفعل سلمي، وإبداع لا متناهي...، أثبت الثوار في الساحات –رغم وجود تباينات في وجهات النظر وهذه من علامات التحضر والوعي- أنهم وطن واحد، وقلب واحد، وهدف واحد، الجميع: من الشباب والشيوخ، والنساء والأطفال، والعسكر والقبائل، والمثقفين والأكاديميين، والأطباء والكفاءات والمهنيين ...، الجميع أثبت عكس ما أراد الحاكم أن يحفره في ذاكرة العالم.
ومع كل ذلك ظهر اليوم من ينظر للثورة أنها سُرقت أو خُطفت أو فشلت، فهؤلاء –على ما يبدو- يجهلون أنه ما قامت ثورة عبر التاريخ إلا وتبعتها هزات ارتدادية، والهزات التي تحدث الآن هي حالة فرز طبيعي بين مألوف مضى وجديد قادم؛ فالناس لم يألفوا الحرية المفتوحة على كل شيء، بل تربوا على القهر، والكبت، والرعب، وصورة الزعيم البطل والمخلِّص الأكبر، وعرفوا الابن القائد، والأخ المسئول، والصهر المدير، والشيخ المرجع، والخال التاجر، والعم االسفير، و و و ...
قد نتفق أن الثورة المضادة تحاول خربشة وجه الثورة السلمية، لكنها لن تستطيع وأدها، وهذه سنة الحياة، والتاريخ يشهد على التحولات الكبرى في المجتمعات، فلا توجد مرحلة تحول بدون تبعات تباغت الناس أحياناً بوجهها القبيح لكنها لا تستطيع أن تخفي حقيقتها مع مرور الأيام، ولذلك لا بد أن يتحقق النصر الكامل، فيأس البعض وخوفهم من توقف عجلة التغيير نابع من كون المجتمعات العربية اعتادت إما على الثورة التي تفرض انتصارها بتطهير شامل للماضي، أو على انقلاب عسكري لا يبقي ولا يذر .. فقط يأتي لتغيير مراكز القوة وحسب. صحيح أن مظاهر الشيخوخة تظهر على وجه الحراك السياسي في اليمن .. ولكن الصحيح أيضاً أن مفهوم الثورات في القرن الحادي والعشرين قد تغير .. وانتقل من أسلوب الاجتثاث إلى أسلوب التدرج في التغيير والتعايش مع الآخر وتحمل سلبيات ذلك في مرحلة المخاض لأن البديل أقسى وأعنف.
فلا بد إذاً من استيعاب المنهج الثوري الجديد حتى لا ننكسر أمام ما يمكن أن يكون ملامح ثورة مضادة ..وعلينا أن نؤمن أن الربيع ما يزال يختبئ بين حنايا مخاض الأمل ... فلا يأس ولا انكسار...
في الثلاثاء 12 فبراير-شباط 2013 01:00:24 م