من أحكام أزمنة الجور
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: 14 سنة و 3 أسابيع
السبت 23 أكتوبر-تشرين الأول 2010 04:38 م

يخلط البعض خلطاً غير حسن ولا كريم بين أحكام أزمنة العدل وأحكام أزمنة الجور، ونتيجة عمى الألوان هذا لدى البعض، نجد ذلك التهارج والتهاجر والاختلاف على صعيد الساحة الفكرية والثقافية في أوطاننا العربية والإسلامية، الأمر الذي يستلزم من الباحثين والدارسين رؤية تأصيلية شرعية لأحوال وأوضاع وأحكام أزمنة الجور وفق منهج الكتاب والسنة، وفهم سلف الأمة.

في تقديري مما لا خلاف عليه أنّ الأمة الإسلامية في وضعها الراهن تعيش مرحلة استثنائية غير عادية وغير طبيعية، والواجب أن يكون لهذه المرحلة الاستثنائية من تاريخ الأمة أحكاما واضحة جلية تخصها، يُبيّنها ويجليها أولوا العلم والرشد، على كافة الصعد السياسية والفكرية والاجتماعية والدينية، على اعتبار أنّ الشريعة السمحة جاءت لكل الأحوال والظروف البشرية، قوة وضعفا، وحدة وتفرقا، غنى وفقرا، عدلا وجورا، تقدماً أو تخلفا.

أود في هذا المقال أن أتناول على عجالة بعض الأحكام الشرعية الخاصة والمتعلقة بأزمنة الجور، والتي في تقديري من أهمها :

1) يجب في أزمنة الجور الصبر الإيجابي الفعّال، فقد ورد في الحديث الشريف في السنن: عن أبي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ فَقُلْتُ يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ كَيْفَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ يَعْنِي بِنَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ، وَزَادَنِي غَيْرُهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ قَالَ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ) .

والمراد بالصبر كما هو منطوق الحديث الشريف، الصبر الإيجابي القائم على العمل الدؤوب، لا الصبر السلبي أو الرضى بالمنكر أو الانقطاع أو الانعزال عن الحياة، بل صبر مع أمر بمعروف ونهي عن منكر، حيث لا معارضة بين الصبر من جهة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جهة أخرى، ومثل هذا مثل حال المريض فهو مأمور بالصبر وعدم الجزع أو الضجر، ومأمور بالسعي للتداوي والمعالجة، على الراجح من أقوال أهل العلم، ومن الخطأ بمكان أن يفهم البعض أنّ المراد ب\"الصبر\" تحمل المنكرات والتعايش معها، دون إنكارها أو السعي لإزالتها، أو التخفيف منها.

2) يجب على المصلحين التخفيف من الظلم والجور ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ويندرج تحت هذا المفهوم ما يأتي:

أ‌) السعي الجاد لتغيير هذا الجور أو التخفيف منه، عملا بقول الله تعالى : (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) .

وقوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)) .

وقوله صلى الله عليه وسلم كما في الترمذي وأبي داود وغيرهما:( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ).

وغيرها من النصوص المتواترة، المجمع عليها.

بيد أنه يجب أن يكون هذا التغيير سلمياً متدرجا هادئاً متأنياً مدروساً منضبطاً، بهدي الكتاب والسنة، يقوده الحكماء وأولوا العلم والرشد، بحيث لا يؤدي إلى منكر أعظم منه، قائما على الإعداد والتربية والخطط المدروسة، ولا بأس أن يكون هذا التغيير وفق وسائل العصر المتاحة، كالانتخابات والمظاهرات والاعتصامات والمهرجانات وغيرها من الوسائل العصرية التي لها حكم المقاصد .

على أننا هنا نرى أنّ هذه الوسائل ليست لازمة في كل الأوقات والأحوال والظروف، بل تدور مع المصلحة وجودا وعدماً، فإنْ غلب على الظن تحقق المصلحة منها ودرأ المفسدة فثم شرع الله.

وعلى هذا فقد تكون المصلحة تقتضي خوض انتخابات مثلاً في هذا البلد أو ذاك، فيجب لذلك خوض هذه الانتخابات، وفي بلد آخر قد يغلب على الظن تحقق مفسدتها ودواعي الفساد أرجح وأقوى، كأن يغلب على الظن مثلا تحقق تزييف إرادة الأمة ونهب خيراتها ومقدراتها، والعبث بسيادتها وكرامتها، فلا تجوز المشاركة والحالة هذه، بل الأقرب هو القول بالمقاطعة لا المشاركة، ومثل هذا بقية الوسائل الأخرى.

ومن ذلك أيضا: المظاهرات إن غلب على الظن تحقق المصلحة منها جازت وإلا فلا تجوز، كأن يغلب على الظن مثلا وقوع مفاسد لهذه المظاهرات كإراقة الدماء أو الفساد، في أي شكل من أشكاله، سيما إن كان هذا الفساد عاما وكبيراً ، فلا تجوز، أو كان البلد مقدساً كمكة والمدينة حيث يرتاده الملايين من شتى الأعراق والمذاهب، أو يغلب على الظن أن يدخل هذه المظاهرات بعض المدسوسين لإثارة الفوضى والشغب والفساد والتخريب، فلا تجوز والحال هذه، حتى يغلب على الظن تحقق الأمن والسلامة والحماية لهذه المسيرات والفعاليات، وهلم جرا، وبالجملة فللوسائل حكم المقاصد، ويجب النظر دوماً إلى المآلات والنتائج، وفق نظرية المصلحة والمفسدة لدى علماء الإسلام.

ب‌) في أزمنة الجور يجب الدفع بالصالحين إلى أماكن التغيير والإدارة والحكم والقضاء، وفي حال التخلف عن هذا الواجب فإنه يأثم كل مسلم ترك هذا الواجب أو قصّر فيه، والأصل في هذا قول يوسف عليه السلام ، كما حكى الله عنه : (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55).

قال العلامة ابن شاس: \"إذَا تَحَقَّقَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ سِوَاهُ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ الِامْتِنَاعُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ السَّعْيُ فِي طَلَبِهِ وَتَحْصِيلِهِ لِتَعَيُّنِ الْقِيَامِ بِهَذَا الْفَرْضِ عَلَيْهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} فَإِنَّهُ كَانَ بَيْنَ قَوْمٍ كُفَّارٍ فَأَرَادَ اسْتِصْلَاحَهُمْ وَدُعَاءَهُمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالسَّعْيِ فِي هَذِهِ الْوِلَايَةِ دُونَ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لِأَرْزَاقِ الْعِبَادِ تَذِلُّ لَهُ الرِّقَابُ وَتَخْضَعُ لَهُ الْجَبَابِرَةُ وَلَا يَسْتَغْنِي أَحَدٌ عَنْ بَابِهِ\" (تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام : 1/22).

قلت وهذا القول من العلامة ابن شاس، هو قول جمع من أهل العلم منهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم وغيرهما من أهل العلم .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: \"إذا فَعلَ ذلك بعد الاجتهاد التام، وأخذه للولاية بحقها، فقد أدى الأمانة، وقام بالواجب في هذا، وصار في هذا الموضع من أئمة العدل المقسطين عند الله؛ وإن اختلّ بعض الأمور بسبب من غيره، إذا لم يمكن إلا ذلك، فإن الله يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (سورة التغابن : من الآية 16) ... فمن أدى الواجب المقدور عليه فقد اهتدى\" (السياسة الشرعية: 1/5).

3) يجب في أزمنة الجور، وفساد الزمان أن يولّى الأمثل فالأمثل، إذا تعذر وجود الأصلح، قال العلامة الْقَرَافِيُّ: \"نَصَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّا إذَا لَمْ نَجْدِ فِي جِهَةٍ إلَّا غَيْرَ الْعُدُولِ أَقَمْنَا أَصْلَحَهُمْ وَأَقَلَّهُمْ فُجُورًا لِلشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ، وَيَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ لِئَلَّا تُضَيَّعَ الْمَصَالِحُ\" (معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام:2/57) .

4) في أزمنة الجور وقلة الصالحين والأتقياء الأبرار، أو مع وجودهم، ولكن يغلب على الظن عدم أو ضعف كفاءتهم وقدرتهم في بعض الميادين فإنه يقدم الأكفأ والأقدر والأصلح والأمكن لتحقيق مصلحة المسلمين، وإن لم يكن من العلماء أو الفقهاء، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: \"ينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب، فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة، كما قال تعالى: { إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}.. والقوة في كل ولاية بحسبها؛ فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، وإلى الخبرة بالحروب، والخادعة فيها، فإن الحرب خدعة، وإلى القدرة على أنواع القتال..\" (السياسة الشرعية : 1/6).

ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم عيّن قواد جيوشه، كخالد ابن الوليد وسعد وزيد ابن حارثة، وفي الصحابة من هو أعلم وأفقه منهم.

ومثل هذا قل أيضاً لا ينبغي إقحام جنرالات الجيوش في ميادين التربية والإعداد العلمي والفقهي، مالم يكن لأحدهم قدر كاف ورصيد معين من الزاد العلمي والفقهي والدعوي والتربوي، وحَدّ ذلك الزاد أن يفقه على الأقل أصول الديانة وكلياتها وضرورياتها التي تنبني عليها، ولا يسع المسلم جهلها، وهلم جرا .

وبالتالي فأحسب أن هذا أعني تولية القوي الأمين بحسب كل ميدان، حكم شرعي عام ليس خاصا بأزمنة الجور، بل هو حكم عام في كل زمان ومكان، وإنما ذكرناه هنا إقحاماً، لأنه مما تحصل به الفتنة سيما في أزمنة الجور والظلم .

5) يجب على الأمة في أزمنة الجور والظلم وطغيان الفتن الاعتصام بالكتاب والسنة وجماعة المسلمين، فإنه لا معصوم بعد الكتاب والسنة، إلا جماعة المسلمين، وهذه فقرة كان حقها التقديم لأهميتها، فكثير من الناس يحرصون في زمن الفتن وأزمنة الجور على إقامة السنة، ويغفلون عن فريضة إقامة الجماعة، والعكس بالعكس، ومن هنا ظهر مصطلح أهل السنة والجماعة، فليس يفهم هذا المصطلح – كما يريد البعض- أن تقام السنة ويطاح بجماعة المسلمين، ويصير المسلمون شيعا وأحزاباً يبدع ويكفر بعضها بعضا، بل الواجب أن تقام السنة والجماعة جنباً إلى جنب، فكلاهما واجبان متعينان، لا قيام لأحدهما إلا بالآخر.

ويلزم لهذا بالضرورة تأخير بعض المعارك العلمية والجدلية والفقهية مع بعض التيارات المخالفة للسنة أو المخالفة للملة وأصل الديانة، في ديار المسلمين، حفاظاً على جماعة المسلمين ووحدتهم وقوتهم، سيما في أزمنة الحروب والفتن، كالذي يقع في عصرنا، فإنّ الأمة أحوج ما تكون إلى وحدة كلمتها وجمع شملها ضد أعدائها الخارجيين، وأن تغض الطرف عن بعض خصومها الداخليين.

بل المصلحة في بعض الأحوال قد تفرض أن تمد الأمة أو من يمثلها إلى هؤلاء المخالفين لها دينا أو مذهباً اليد للتعاون والمحاورة، سيما عند وجود العدو الغازي الذي لا يفرق بين مذهب وآخر وفكر وآخر.

وللأمة في سيرة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، الأسوة الحسنة فقد عقد العهود والمواثيق مع اليهود، وسعى لتحييدهم عن معركته المصيرية مع الكفار، حتى مكّن الله له في الأرض، فأجلى اليهود عن مدينته عليه الصلاة والسلام، وإنما كان إجلاؤهم عن المدينة المنورة لا لدينهم وخلافهم له، وإنما كان إجلاؤهم في واقع الحال لنقضهم العهود والمواثيق واعتداؤهم السافر على حرمات المسلمين، ولو أنهم التزموا العهد والميثاق لعاشوا في كنف المسلمين، آمنين مطمئنين، كما وقع ويقع عبر تاريخ المسلمين.

أخيرا أهدي عنوان هذا الموضوع لطلبة العلم والبحاثة لإثرائه وبيانه من جميع جوانبه وزواياه في رسائل علمية محكمة، لأنه فيما أحسب من الأهمية بمكان، وهذا جهد المقل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،