كيف نتعامل مع إرث صالح السياسي والتدخلات الاجنبية ؟
بقلم/ د/ أحمد عبدالواحد الزنداني
نشر منذ: 12 سنة و 8 أشهر و 21 يوماً
الجمعة 24 فبراير-شباط 2012 06:58 م

أخيراً رُحّل صالح من السلطة, لكنه ودع السلطة بعد أن ترك البلاد ساحة مفتوحة للتدخلات الخارجية, ولقد لمست من الكثيرين استياء عميق من تدخل سفراء الدول الكبرى في كل صغيرة وكبيرة تجري اليوم على الساحة اليمنية, وبالرغم من أن هناك من يبرر تلك التدخلات بالوضع الراهن في البلاد, وهذا طرح له وجاهته, إلا أن ذلك التبرير لا يصمد أمام التاريخ والحاضر الأسود لسياسات الدول الكبرى في المنطقة العربية وفي كثير من دول العالم, ولكن تبقى حقيقة وضع البلاد اليوم والإرث الثقيل الذي يتركه لنا عهد الاستبداد قائمة ولا تدع لنا مجال للحد من تدخلات قوى عاتية لا تفهم إلا مصالحها, الأمر الذي يجبرنا على التعامل مع سياسات الدول الكبرى في اليمن شئنا أم أبينا.

 والسؤال الجوهري لهذا المقال يتعلق بالكيفية التي يتعامل بها السياسيون مع سياسات الدول الكبرى في اليمن, والمقصود بالسياسيين هنا هم أولئك الذين انخرطوا بشكل مباشر في العملية السياسية في البلاد وتصدروا المشهد السياسي في الساحة السياسية اليمنية, ابتداء بالرئيس التوافقي عبد ربه منصور هادي مرورا بحكومة الوفاق الوطني وكافة الأحزاب والتيارات السياسية الفاعلة التي تتفق مبادئها المعلنة مع ثوابت ودستور البلاد, هل يخضعون لإملاءات الدول الكبرى، أم يقاومونها؟ أو ربما ينبغي عليهم مسايرتها على أمل الخروج بالبلاد من هذا النفق المظلم الذي تسير فيه, ولكن, هل مسايرتها سياسة صحيحة؟ وما هي قواعد العمل السياسي الذي تضبط سياسة المسايرة هذه ؟ حتى لا تكون نتائجها وخيمة وتنتهي بنا إلى طريق مسدود.

 الحقيقة أنه عندما نناقش البعض حول مواقف السياسيين وتعاملهم مع سياسات الدول الكبرى بعد الثورات العربية يدخل الجميع في نقاش, تارة هادئ وأخرى حاد, نتبادل من خلاله وجهات النظر المختلفة, فهناك من يفرط في مدح السياسيين ويعتبرهم حكماء ودهاه العصر كونهم يواجهون سياسات الدول الكبرى بحكمة وصبر وأناة فينقذون شعوبهم من الدمار والحروب الأهلية ويجلبون المساعدات التي تنقذ هذه الشعوب, المغلوبة على أمرها, من الفقر والجوع والمرض, وان قدموا بعض التنازلات بشأن المبادئ والقيم, فإن ذلك من باب الاضطرار.

غير أن آخرين يسوقون الاتهامات للسياسيين, وبدورهم, يفرطون في انتقادهم, ويقولون إنهم انحرفوا عن المبادئ والقيم, وإن الدول الكبرى قد اخترقتهم وطوعتهم لخدمة سياساتها التي ستضمن بقاء دولنا ضعيفة ممزقة مهانة لا تقوم لها قائمة, وإن تقديم التنازلات تلو التنازلات لن يوصلنا إلا إلى طريق مسدود سندفع معه الثمن أضعاف مضاعفة ونعود من جديد إلى دائرة العمالة والاستبداد, وتغدو الثورة حلما بعيد المنال, بعد إذ كانت واقعا نعيشه وفرصة نادرا ما يجود بها التاريخ لكننا أضعناها.

ويأتي رأي ثالث, أكثر واقعية, يقول أن عالم السياسة مليء بالمخلصين مثل ما هو مليء بالفاسدين أيضاً, فهناك السياسي المحنك الذي يمتلك القدرة على السير في حقل ألغام السياسة بحذر وحنكة وهو مخلص لدينه يعمل من أجل وطنه, وبأمثاله تنجو الشعوب وتصل إلى بر الأمان, وهناك من السياسيين من ينظر إلى عالم السياسة كسوق لا قوانين لها, فهو يسعى للاستفادة من أي شيء أو أي جهة لتحقيق مآربه وعقد صفقاته الخاصة, وهو يجيد التلون كالحرباء ليتناسب مع مختلف الأجواء والظروف, لا يردعه وازع من دين أو ضمير, وهؤلاء هم سبب الكوارث التي تتعرض لها الأوطان, لذا فإن مصيرنا سيحدده قدرتنا على التمييز بين النوعين أعلاه فنساند الأول ونعمل على اجتثاث الثاني.

 ولما كان الرأي الثالث هو الأقرب إلى المنطق السليم, فإنه من اللازم علينا أن نبحث عن حلول ومعايير دقيقة لنقيس بها سلوك السياسيين الذين هم في المواجهة وعلى رأس الحربة لنعلم أيهم في الطريق السليم عند التعامل مع سياسات الدول الكبرى فنؤيده ونشد من أزره ونضحي معه, وأيهم في الجانب الخطأ لنعمل ما وسعنا لإحباط سياساته وإفشالها, وأمام هذا الوضع ليس لنا من ملاذ آمن وركن شديد نأوي إليه إلا شريعتنا الغراء نتلمس من خلالها طريقنا بعد إذ عجزت أفكار النظريات الغربية والشرقية, التي أخذ بها العالم العربي ردحا طويلا من الزمان دونما جدوى, في تقديم تصور شاف لأسلوب التعامل مع القوى الكبرى التي أنهكت ماضينا وانتهكت حاضرنا وتريد أن تستحوذ على مستقبلنا من خلال عملها الدءوب في بلادنا التي تمر بأخطر مرحلة عرفها تاريخها المعاصر.

 إن لديننا الإسلامي الحنيف أهدافاً مثالية لكنه في ذات الوقت لا يغفل الواقع, فالله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه, ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِير﴾ آل عمران 28, إذن هنالك تقية تمكن السياسي المخلص من الخوض في غمار السياسة والتعامل مع دروبها الوعرة, ولكن ما هي التقية المشروعة التي تمكن السياسي من السير بخطٍ ثابتة في مجال السياسة والإحاطة بدروبها الغامضة والنجاة من زلاتها الخطرة وانزلاقاتها القاتلة؟!.

يقول علماء اللغة إن التقيّة لغة تعني الخوف الذي يحمل على الحذَر، والاحتماء، والاتّقاء,

 ويقول علماء الشريعة إنها تعني اصطلاحاً إظهار الموالاة والمداراة للمشركين الظالمين باللسان لخوف محقق منهم على النفس، والعِرض، والمال، بالقَدْرِ الذي يدفع الضرر، مع إضمار العداوة والبغضاء لهم في القلب, كما أنها, أي التقية, مجرد استثناء ورخصة وليست ديدنا للمسلم ومنهاجا لحياته أو سمة من سمات المجتمع المسلم, بل هي حالة مرتبطة بالإكراه والعجز وتزول بزوال حالة الضعف والخوف أو إحداهما.

 ولقد ضبط أهل العلم التقية المشروعة بتفسيرهم لقوله تعالى: ﴿ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾, حيث تجوز الموالاة باللسان بالقدر الذي يدفع الضرر بشرطين أن لا يعان أعداء الإسلام على المسلمين, وأن يُضمر لهم العداوة في القلب كما بيّن ذلك أهل العلم والتفسير, فيروى عن ابن عبَّاس في تفسير ﴿ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾ قوله إن التُّقاة التكلُّم باللِّسان والقلب مطمئنٌّ بالإيمان، ولا يبسط يدَه فيقتل، ولا إلى إثمٍ، فإنه لا عُذْر له, وقال ابن جرير الطبري في تفسير ﴿ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾ إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم أي لا تناصروهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تُعينوهم على مسلم بفعل, وقال الثوري: قال ابن عباس، رضي الله عنهما: ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس: إنما التقية باللسان، وكذا قال أبو العالية، وأبو الشعثاء والضحاك، والربيع بن أنس.

ومن هنا فإن من واجب المواطن اليمني الصادق المخلص الحريص أن يراقب وبدقة بالغة السياسات والقرارات التي يتخذها السياسيون ويحللها لينظر أهي من باب التقية المشروعة, كما حددتها الضوابط أعلاه, فيساندها ويعين في إمضاءها, أم أنها خرجت عن تلك الضوابط لينطبق على أولئك السياسيون ما جاء في قوله تعالي ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ النحل 106، أي أن هناك فريقاً في المسلمين انشرحت صدورهم وسعدوا واطمأنوا لما جاءت به برامج الدول الكبرى من رؤى وحلول لمشكلاتنا سواء في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي, فأصبحوا من دعاة سياسيات الدول الكبرى والمروجون لها والمدافعون عنها وعن مفاهيمها ورؤاها وتصوراتها, فلنعلم عندئذ أنهم بذلك قد تجاوزوا حد التقية المشروعة ودخلوا في مؤشر آخر وضعه لنا القرآن الكريم وحذرنا منه.

أما المؤشر الآخر فهو المسارعة, فالله سبحانه وتعالى يقول ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ... ﴾ المائدة: 52, أي يبررون قراراتهم وسياساتهم التي يخدمون بموجبها مصالح الدول الكبرى بالخوف من أن تتسبب هذه الدول بخلق الفتن والحروب الأهلية والبطالة والمجاعات في اليمن, وبأن ما يقومون به من التكتم على الإسلام ومشاريعه, ومشايعة ومناصرة برامج الدول الكبرى وسياستها يأتي من باب الحنكة والدهاء السياسي, وأنه في النهاية سيصب في مصلحة الإسلام وإعزازه في المستقبل, والحقيقة أن إعزاز الإسلام يكون من خلال إظهاره على الملأ، وعدم كتمانه، كما قال الله - تعالى ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ الفتح: 28, أما المسارعة فهي عكس التقية المشروعة وهي في الأصل نتيجة طبيعية لانشراح صدور المسارعون بثقافة غير المسلمين وانبهارهم بحضارتهم وهجرهم قيم ومبادئ وثقافة الإسلام, ولذلك صاروا من دعاة تلك الحضارات ومناصريها, فكتبوا لها المقالات وأقاموا لها المحاضرات وأصدروا لها الصحف والمجلات وأنشئوا لها المؤسسات والمنظمات والجمعيات, بل ووضعوا لبرامجها مشاريع تهدف إلى إزاحة تشريعات الإسلام من الدستور والقوانين اليمنية وإحلال القوانين والتشريعات الوافدة محلها ليحكم بها اليمنيون ويحتكمون إليها!

 إذن فالمسارعة تلك تصب في خدمة الدول الكبرى ومصالحها وتمهد الطريق لمشاريع تلك الدول في اليمن, ولذا على المواطن اليمني أن يعلم أن هناك فارق جهوري بين من يُظهر الموالاة بهدف التقية وقلبه مطمئن بالإيمان وفعله يصب في مصلحة المسلمين, ما استطاع إلى ذلك سبيلا, وبين من يوالي ويناصر وقد انشرح قلبه لرؤى وأفكار تصورات غير المسلمين فترى أقواله توافق أفعاله في مناصرة الدول الكبرى وسياساتها, وهنا تأتي مهمة المواطن اليمني المخلص لدينه ووطنه والذي عليه أن يميز بين السياسي المخلص والسياسي المسارع المهرول وذلك ليعرف الحق من الباطل فيعلم أين يضع قدمه, والله سبحانه وتعالي يقول: ﴿وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ النحل: 94.

نعم, لقد منحنا الله سبحانه وتعالى رخصة التقية تخفيفاً على الأمة في بعض الظروف الاستثنائية والضرورية, علما بأن الأخذ بالعزيمة والصدع بالحق أولى, بل قال العلماء بأن من أخذ بالعزيمة, أي صدع بالحق, ووقع عليه الضرر فإنه في منظار الشرع الأصح والأكثر أجرا, وبالتالي الأجدى والأنفع للأمة, ولقد سـُئل الإمام احمد بن حنبل عند محنته في خلق القرآن: إن عُرضت على السيف تجيب؟ فقال: لا, وقال: "إذا أجاب العالم تقية والجاهل يجهل, فمتى يتبين الحق؟", وبهذا نعلم لماذا آثر العلماء التقاة قول الحق والصدع به وتحمل الضرر, حتى يتبين الحق لعموم الناس, ثم يأتي متفيقه ويقول هم يجهلون العمل السياسي وقواعده!!! ﴿ إنك لا تهدي مَن أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء، وهو أعلم بالمهتدين ﴾ القصص: 56