حتى الأعذار قد تنضب
بقلم/ فكري القباطي
نشر منذ: 12 سنة و 10 أشهر و 21 يوماً
الجمعة 23 ديسمبر-كانون الأول 2011 06:26 م

( الشعوب التي تستبدلُ الحرية بالأمن لا تستحق أيّاً منهما ) .. بنجامين فرانكلين

فمهما كانت الأعذار مجديةً في تقديم حلولٍ مؤقتة لمشكلة الخنوع والخضوع ومهما كان الأمان والسلام حاجةٌ ملحةٌ للهاربين من لهيب الحرية وجحيم الكرامة فهناك حقيقةٌ مرةٌ لا بد من تذوقها لمرةٍ واحدةٍ فقط كي ننجو من العقاب الذي سيدفعهُ كبرياؤنا حينما تصطدمُ أعذارنا بأحلامِ الثائرين ..

هذه الحقيقة التي تذوقها الثلايا -رحمه الله - وكذلك تشي جيفارا فاستبدلا حرير البرجوازية بصليل السيوف وقصور الرفاهية بكهوف النضال حتى ارتوت الكرامة من أضلاعهم النحيلة وكلاهما دفعَ حياتهُ ثمناً لحريةٍ تنكّرتْ لها أنفسٌ ضعيفةٌ وهممٌ رهيفة وكذلك أعذارٌ سخيفة ..

وهيَ ذاتها الحقيقة التي تذوقها سيد قطب وهو على حبل المشنقة فرفض التوقيع على مذكرة الاعتراف بجمال عبد الناصر كرئيسٍ لـ مصر مقابل الإبقاء على حياته مضافاً إليها المنصب والجاه فقال كلمتهُ المشهورة ( إن أصبعي السبابة التي تشهد لله بالوحدانية

لتأبى أن تُقرَّ بحكم طاغية )..

فدفعَ حياتهُ ثمناً للحرية ليقول فيه القائل الذي أبكتهُ رؤية ذلك البطل معلقاً على حبل المشنقة ( حتى وأنت معُلقٌ في حبل المشنقة .. ما زالت نعلكَ فوق رؤوسهم) ..

تلك الحقيقة التي اختصرها مارتن لوثر كينغ قائد ثورة العبيد في أميركا حينما قال (( من لم يجد شيئاً يستحق الموت لأجلهِ فهوَ لايستحقُّ الحياة ))..

هيَ حقيقةٌ مرةٌ لا يستسيغُ مذاقها النائمون على ركام الأعذار لأنهم مُرغمون على الإفصاح عن معاناتهم في مجالسهم ولكن أحداً لم يرغمهم على تجبير تلك المعاناة بغير الكلام فأيديهم مغلولةٌ بأقواتِ يومهم وليس لكرامتهم عنوانٌ في كراريس جهلهم بأبسط قوانين الحياة الكريمة والتي تنصُّ على أن من لا يملكُ قوتهُ لا يملك نفسه ..

هم محرومون من كل شيء إلا من حق الحاكم في حصولهِ على أقساط الطاعة التي يدفعونها لهُ كلما شعر الحاكم بأن هناك بطوناً تقرقر بصوتٍ مسموعٍ يُزعج قريرته ويقض مضجعه فيضطر إلى إلقاء خطابٍ ديماغوجي يذكر فيه الشعب بإنجازاته التي كاد الجياع أن ينسوها في غمرة انشغالهم بالبحث في أكوام النفايات عما يسد رمقهم لتضج القاعة بالتصفيق والهتاف معلنةً الولاء والوفاء للقائد الرمز فيرد لهم الوفاء بالجُرَع والولاء بالجزَع ..

ولأن الحاكم قد علمهم أن الطاعة حقٌّ لهم لا حقٌ له وأن حرية التقديس والتبجيل والتعظيم لشخصه كرمٌ منَّ عليهم بهِ فقد كان من حقهِ أن يفرض عليهم ضريبة الفقر كـ واقعٍ مفروض لا يتجاوزه إلا مختلس أو مرتزق أو مارقٍ أو سارق ..

وما زال هؤلاء العبيد إلى يومنا هذا يمارسون حقهم في الطاعة والتقديس والتبجيل وبضراوةٍ تتمثل في تبرير كل قطرةِ دم ٍيسفكها الحاكم بغض النظر عن ضحالة الأعذار التي كدستها في رؤوسهم سياسة التخويف من المستقبل القادم فمعاناتهم لا تحتمل المزيد من التدهور ولكنها تحتمل المزيد من التنازلات التي ستضمن لهم ولأجيالهم مستقبلاً مُتخماً بكل أنواع الحقوق المفروضة عليهم سائلين الله عز وجل أن يُديم عليهم نعمة الأمن والاستقرار حتى لو كانت الضريبة التي سيدفعونها هي تأليه الحاكم وتنزيهه عن كل خطأ قد يخدش قدسيته المزعومة ..

ولأن الثورة بالنسبة إليهم خروجٌ من دائرة الحقوق المفروضة إلى دائرة العقوق المرفوضة فستظل وحدانية الحاكم هي غايتهم التي سيبذلون في سبيل الحفاظ عليها كل الوسائل التي ستستهلك ما تبقى من كرامتهم وأخلاقياتهم ولا ضير من خسارة إنسانيتهم ما

دامت الدماء التي سيسفكونها كفيلةً بإشباع جوعهم ولو لمرةٍ في حياتهم متناسين أن نعمة الأمن والاستقرار -المزعومة- هي كل مايرجونه في الحياة ولا بأس بالفقر والعوز ما دامت حرية التطبيل للحاكم قد أشبعت رغبتهم في الخضوع ...

ولكن الوقت لن يطول حتى يدركوا أن إنسانيتهم التي تنازلوا عنها مقابل حفنةٍ من المال هي آخر ما يستطيعون تقديمه لحاكمهم

الذي سيفقد ما تبقى لديه من أحجارٍ على رقعة ( السبعين ) ليكون سقوطه بدايةً لعهدٍ جديدٍ لا يملك أمامه العبيد سوى الانسلاخ من

جلودهم التي دبغها لهم الحاكم في مدبغة إعلامه الخارق لكل قوانين المصداقية والنزاهة وذلك ليحصلوا على شهادة اعترافٍ من المجتمعِ الحرِّ بصلاحيتهم للحياة ...

ليبدؤوا بعد ذلك في تقديم أعذارٍ جديدةٍ تبرر انصياعهم للظلم بتبريراتٍ لا تخاطب العقول ولكنها تخاطب العواطف ليكون استدرار الشفقةِ هي آخر ملاءةٍ يسترون بها عوراتهم ...

ومهما كانت الحقوق التي سينالونها في الدولة الجديدة كافية لرد اعتبارهم أمام معاناتهم إلا أن كرامتهم ستظل حبيسة ماضيهم الأسود لأنهم تنازلوا عنها حينما كانوا عبيداً فتنازلت عنهم حينما أصبحوا أحرارا ...

وكفى بالثائر عظمةً أن ثورته أطعمت الجياع من قبل ومن بعد ...