اليمن في ذكرى وحدته
بقلم/ نصر طه مصطفى
نشر منذ: 17 سنة و 7 أشهر و يومين
الجمعة 25 مايو 2007 06:16 ص

لا شك في أن الانكفاء الحضاري الذي أصاب الأمة العربية في القرن الماضي أثّر سلباً في كل محاولات نهوضها من جديد حتى هذه اللحظة، وتركت عملية التمزيق والشرذمة التي تعرضت لها الأمة مخلفات نفسية سيئة على أبنائها حتى غدا الإحباط جزءاً من واقعها اليومي، وواحداً من أسباب استمرار كل عوامل التخلف التي تعاني منها. والحقيقة أن خصوم الأمة يدركون مكامن قوتها أكثر منها؛ ولذلك كانت المخططات الأساسية التي تريد إبقاءها على هذه الحال من التخلف والتشرذم والخصومة بين دولها تجعل من استمرار وضعها الحالي هو الحد الأدنى الذي لا يمكن النزول عنه، على أن تستمر المساعي لتحقيق المزيد من التمزق والتشتت، فكان لبنان بروفة طوال الربع الأخير من القرن الماضي، إلا أن إرادة أبنائه قهرت مشروع الدويلات الطائفية، ومن بعده بدأت المحاولات من جديد في كل من العراق والصومال. وفيما هذان البلدان يقاومان مشروع التفتيت حتى الآن فإن محاولات إحياء العصبيات المذهبية والطائفية والعرقية والدينية والجهوية تجري على قدم وساق في عدة بلدان عربية لكي لا تهنأ بالاستقرار والتطور والتنمية.

ومن أعماق هذه الصورة القاتمة انب ثق شعاعان مضيئان يحييان الأمل في نفوس المواطنين العرب بإمكان تجاوز محنة التمزق عندما تتوفر الإرادة القوية الصادقة. فمنذ عام 1971م يعيش أبناء دولة الإمارات العربية المتحدة في ظل اتحاد فيدرالي قام على أسس عقلانية راشدة ضمنت له الاستمرار والاستقرار، وأصبح نموذجاً واقعياً يمكن لأي دولتين أو أكثر أن تقتدي به إن أرادت تحقيق تجربة وحدوية جديدة في المنطقة. ونجح اتحاد الإمارات بعد أكثر من خمسة وثلاثين عاماً في تجاوز الكثير من العواصف العاتية التي ضربت المنطقة، وكان يمكن أن تترك بصماتها السلبية عليه، لكن وعي أبنائه وقادته على السواء وترفعهم عن الأنانيات البائسة هما اللذان حافظا عليه حتى في غياب القادة التاريخيين الذين أسسوه وعلى رأسهم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم رحمهما الله، وها هم أبناؤهما يمضون بنفس الروح والحماسة لصون هذا الاتحاد.

أما الشعاع المضيء الثاني فقد انبثق عام 1990م من جنوب الجزيرة العربية باستعادة اليمنيين لوحدة أرضهم، ولا أقول وحدتهم كشعب، لأن كل عقود وقرون التمزق لم تستطع أن تجعل منهم شعبين مختلفين، فهم في 22 مايو/ أيار 1990م لم يكن ينقصهم سوى اتفاق النظامين القائمين في الشطرين لإنهاء تشطّر الأرض والنظام، وهو ما حدث بالفعل في ذلك اليوم الذي استعاد فيه التاريخ مكانته واعتباره، واستعادت فيه الجغرافيا استقرارها ومقومات تأثيرها، واستعاد اليمنيون فيه إنسانيتهم وسيادتهم. ويوم الثلاثاء الماضي احتفلوا بالعيد السابع عشر لهذا الحدث التاريخي الذي عادت فيه الأوضاع داخل اليمن إلى وضعها الطبيعي باعتبار التشطير هو الاستثناء وليس الأصل، ولأن التشطير هو الاستثناء فقد فشلت محاولة إعادته من خلال حرب صيف 1994م التي قوضت كل عوامل الانفصال باعتباره لم يكن أكثر من مزاج سياسي لمجموعة محدودة التأثير شعبياً وسياسياً، وإن كانت تمتلك دبابات وطائرات مقاتلة استثمرتها في محاولة فرض إرادتها، إلا أن الإنسان اليمني الذي لم تمح سنوات التشطير بكوابيسها المزعجة من ذاكرته خذل إرادة الانفصال، وانتصر لإرادته هو، التي ظل يناضل من أجل تحقيقها سنوات وعقوداً امتدت إلى ما يقارب ثلاثة قرون.

منذ خروج الاستعمار البريطاني من جنوب اليمن عام 1967م وقيام دولتين يمنيتين متناقضتي الاتجاه السياسي خاض الشطران حربين مباشرتين بينهما، فيما دعم كل منهما خصوم الآخر. فالجنوب الماركسي دعم حرب عصابات مسلحة ضد الشمال لفترة تجاوزت اثني عشر عاماً، فيما الشمال المحافظ احتضن معظم معارضي الجنوب، وقدم لهم دعماً سياسياً. ولم يكن من حل للخروج من مأزق الخلاف السياسي المستشري بين النظامين سوى الوحدة خاصة أن كلاً منهما اعتبر استعادتها هدفه الرئيسي لكن بطريقته. ولما أدرك الطرفان أن غلبة أي منهما على الآخر عسكرياً مستحيلة قررا أن الطريق الوحيد لتحقيق هذا الهدف الوطني الكبير هو الحوار السلمي، ومع بدء ظهور مؤشرات انهيار المعسكر الشيوعي شنَّ الرئيس علي عبدالله صالح هجوماً سياسياً دبلوماسياً ضاغطاً على النظام شبه المنهار في الجنوب لاستعادة الوحدة السياسية للبلاد أسفر عن نتائج إيجابية انتهت بالإعلان عن قيام الجمهورية اليمنية الموحدة عام 1990م.

إذاً، فقد استعاد اليمنيون وحدة أرضهم سلماً، لكنهم لم يحافظوا عليها إلا بقوة السلاح للأسف بسبب المطامع والحسابات السياسية التي غلّبت المصالح الضيقة على المصلحة الأكبر، ورغم إراقة الدماء إلا أن اليمنيين أدركوا أنهم أمنوا وحدتهم إلى الأبد، وأنهم نزعوا عنها كل أسباب الخطر الذي كان يحيق بها. ناهيك عن أن الاستمرار في انتهاج الديمقراطية التعددية كنهج سياسي نجح في تأمين الأوضاع الداخلية للبلاد، ونزع منها أسباب الصراع، كما أن حل مشاكل الحدود مع كل من سلطنة عمان ودولة إريتريا والمملكة العربية السعودية نجح في نزع كل أسباب الخلافات الخارجية ذات التأثير المباشر في الداخل. إن ذلك كله جعل البلاد تدخل مرحلة الإصلاحات الاقتصادية وتعزيز أركان الدولة الجديدة دستورياً وتشريعياً والتفرغ لإصلاح علاقاتها الخارجية مع الدول والمؤسسات المانحة واستعادة ثقتها لتحظى بدعمها ومساندتها. وأهم من ذلك كله كانت عودة الحميمية إلى العلاقات اليمنية الخليجية بعد أن أدرك الجميع أنه لا استقرار في منطقة الجزيرة العربية من دون استمرار الوحدة اليمنية، حيث انتقل التعاون بين اليمن ودول مجلس التعاون إلى رؤية متقدمة تتلخص في اعتماد برنامج لمدة عشر سنوات لتأهيل اليمن اقتصادياً ليصبح قادراً على الالتحاق بمنظومة المجلس. إذاً، فهذه هي الوحدة اليمنية بانعكاساتها الإيجابية على اليمن ومحيطه الإقليمي على السواء، الأمر الذي يجعلنا نتفهم دوافع الحرب الإرهابية التي تشنها مجموعة من المتطرفين ضد النظام اليمني في مدينة صعدة، فأهدافهم ليست مقصورة على تمزيق اليمن مذهبياً، بل هي امتداد في الوقت ذاته لمخطط يستهدف المنطقة بأكملها، ويسعى إلى تكريس فرقتها وتمزقها على كل الصعد.