اليمن وإشكاليات عملية الانتقال(2)
بقلم/ د. عيدروس نصر ناصر
نشر منذ: 12 سنة
السبت 17 نوفمبر-تشرين الثاني 2012 03:33 م

توقفنا في الحلقة الماضية عند قضية الدولة والقبيلة، وقبل الخروج من هذه الإشكالية لا بد من التوضيح أن أفراد القبائل يكونون في كثير من الحالات ضحايا اختلال المعادلة خصوصا عندما يتعلق الأمر بالنزاعات وقضايا الثأر حيث يصل عدد الضحايا في كثير من النزاعات إلى العشرات بينما يكون سبب النزاع تافها إلى درجة قد لا تتجاوز قيمته مخزن رصاص من المستخدم في القتل ومن أغرب ما في الأمر أن الذين يدفعون ثمن اختلال المعادلة لا يجنون شيئا من فوائد هذا الاختلال بينما يظل المتنفذون وأصحاب المقامات العالية هم مصدر الخلل وهم من يجني الفوائد الجمة منه في سرائها وضرائها.

ونختتم بالإشارة إلى أن القبيلة يمكن أن تكون عاملا إيجابيا في عملية التنمية والبناء المؤسسي عند ما تكون نصيراً للدولة وعندما يلتزم أفرادها وزعماؤها بمعايير النظام العام للمواطنة ولدستور وقوانين البلاد.

أما الإبقاء على هذه الوضع غير السوي فهو قد يحقق بعض المصالح لبعض المتنفذين لكنه يظل عاملا معيقا لأي تفكير في التنمية أو بناء الدولة أو ترسيخ روح القانون والنظام والذهاب باتجاه المستقبل نحو المواطنة المتساوية.

2. إشكالية الوحدة والانفصال

لن نخوض طويلا في تفسير معاني الوحدة والانفصال والخلفيات التاريخية والمصاعب المتتالية التي أعاقت المشروع الوحدوي وأدت به إلى الفشل لكننا سنخوض فقط في ممكنات معالجة هذه الإشكالية وأسباب وعوامل تنامي أو تراجع هذه الممكنات من عدمها، وقبل كل شيء لا بد من الإقرار أن الوحدة لا تعني ضم الأرض إلى الأرض أو حتى جمع الناس مع الناس أو دمج النظامين في نظام واحد، وهو ما جرى في العام 1990م، وتم ترسيخه على نحو أكثر في العام 1994م في ما سمي حينها بالـ"ـوحدة المعمدة بالدم"، دم اليمنيين الأبرياء الذين سخروا في حرب همجية عبثية لم تخدم إلا التواقين لتعميم سياسة النهب والسلب والاستيلاء.

إن الوحدة التي حلم بها اليمنيون على مدى عقود هي تلك التي تبني مصالح جديدة لأوسع قطاعات الشعب على السواء في كل أرجاء الوطن، الوحدة التي ترتقي بمستوى الإنسان وكرامته وحريته وسؤدده وكل معاني الهوية والانتماء، وكل ذلك هو ما أخفقت فيه وحدة 22 مايو، ناهيك عن وحدة 7 يوليو التي قضت على كل أمل في أمكانية تحقيق أحلام اليمنيين في التقدم والرخاء والازدهار، ومثلما يقال عن الوحدة يمكن أن يقال عن الانفصال، فالانفصال لا يعني بالضرورة وجود نظامين ودولتين وكيانين أو أكثر، إن الانفصال هو تمزيق المجتمع وتفكيك عرى التماسك بين مكوناته، وتحويله إلى مستويات مختلفة من المواطنة، وتكوين مصالح فئوية أو جهوية أو مناطقية على حساب مصالح السواد الأعظم من فئات وجهات ومناطق الوطن والشعب (حتى وإن كانت الأرض واحدة والحكومة واحدة والناس مختلطين جغرافيا) وما جرى بعد 7 يوليو كان استحواذا كاملا على كل مصالح الشعب في الشمال والجنوب على السواء، وإن كان الجنوب هذه المرة (بعد 7 يوليو) قد غدا الضحية رقم واحد حينما صار بأرضه وثرواته وتاريخه وثقافته ومصالح أهله عبارة عن غنيمة حرب بيد المنتصرين في حرب عبثية لا مبرر لها إلا الاستحواذ والنهب والغنيمة.

إن هذه الوضعية التي أنتجتها الحرب ما تزال قائمة منذ العام 1994م، وهو ما يطلق عليه معظم الجنوبيين الانفصال الحقيقي، الذي قضى على المضمون المأمول للوحدة، وعملية استعادة الوحدة بمضمونها الحقيقي لا تتطلب فقط العودة إلى وضعية ما قبل 1994م ولا ما كان عليه الحال في منصف العام 1990، لأن هذه الوضعية هي من أسس للفشل اللاحق في العام 1994م.

إن استقرار اليمن فضلا عن نهوضه وتقدمه الذي صار اليوم أقرب إلى المستحيل، يتطلب إعادة النظر في شكل الدولة من خلال مشروع جديد يجب أن يبتكره اليمنيون، مشروع يتجنب أسباب فشل وحدة العام 1990م ويحمل مضمونا جديدا وشكلا جديدا للمفهوم الوحدوي، مشروع يضمن الشراكة الحقيقية للشعب كل الشعب في الشمال والجنوب ويؤصل لشروط جديدة للمواطنة، بعيدا عن الثنائيات القاتلة التي أنتجتها الحروب المتتالية منذ العام 1962م وإذا كان مشروع الوحدة الاندماجية والوحدة بالحرب قد فشل، فلم يعد أمام اليمنيين إلا التفكير بتروي من أجل الخروج من هذه الثنائية المستهلكة (الوحدة والانفصال) لأنه لا دعاة الانفصال وحدهم انفصاليون ولا أدعيا الوحدة هم وحدويون بحق، أما التشبث بالوضع الراهن والإصرار على إنه الشكل الأمثل للدولة اليمنية فهو إنما يعبر عن صمم وعمى سياسيين ينتج عنهما عدم رؤية عوامل التدمير والتآكل التي أصابت اليمن على مدى عقود.

إن الوضع الراهن يمكن أن يبقى بعض السنوات بالاعتماد على الخداع والمراوغة والترهيب والترغيب، وقد يحفظ بعض المصالح للمتنفذين والمستفيدين من الاختلالات القائمة لكنه لا يمكن أن يصمد أمام العواصف التي تتفاعل عواملها وتتبدى رياحها على مقربة من كل ذي عينين، وهو ما يعني أن الإصرار على عدم تصحيح الوضع الراهن بخطوة شجاعة وجريئة ومبتكرة تعيد قطار اليمن إلى سكته إنما سيضع اليمن كل اليمن بشمالها وجنوبها وشرقها وغربها في طريق مجاهيل عديدة وليس مجهول واحد، وبعيدا عن التسرع والاستخفاف فإن نظام الحكم اللامركزي الذي يجعل طرفي المشروع الوحدوي على قدم المساواة في المصالح والعطاءات وفي الحقوق والواجبات يمكن أن يكون أحد الخيارات الأفضل لتجنب اليمن مخاطر الانزلاق إلى عوالم المجاهيل المدمرة.

إنه لم يعد من الممكن الاستمرار في الاستخفاف بمعاناة الجنوبيين وإغراقهم بالوعود والكلمات البراقة دونما إقدام على خطوة واحدة تعيد الثقة المفقودة ويصدق معها الجنوبيون أن هناك فعلا نية صادقة لمعالجة نتائج الحرب المدمرة، لأن من شأن مثل هذه الخطوة التي ينبغي أن تكون جزءا من توجه سياسي شامل وجدي، من شأنها، أن تخفف من الأمزجة الساخطة والناقمة على كل شيء أما مواصلة النزعة المتطرفة في النظر إلى القضية الجنوبية من قبل الممسكين بأدوات اللعبة السياسية، فإنه لن يقود إلا إلى المزيد من تنامي المزاج المتطرف، وهو فعلا ما قد تم حتى اللحظة بفعل الإصرار على تقديس نتائج حرب 1994م واعتبارها إحدى المنجزات الوطنية.

برقيات:

*يعتقد البعض أن عرض مظالم الجنوب والجنوبيين والتمسك بإعادة الحقوق المنهوبة وتصحيح الخلل المدمر الذي صنعته الحرب يمثل موقفا من الوحدة والثورة الشبابية، . . . إنه نفس خطاب المخلوع وأنصاره، عندما كانوا يتهمون كل من يفضح عيوبهم بأنه عدو للوطن.

* أتمنى أن ينجح الحكماء في تطويق الفتنة التي نتجت عن مقتل وإصابة بعض أولاد الشهيد قائد محمد علي صلاح وبعض غرمائهم، من خلال محاصرة القضية في إطارها الجنائي وعدم السماح بتحويلها إلى قضية سياسية أو نزاع قبلي، لأن هذه لن تكون إلا الشرارة التي قد تتحول إلى حريق كبير.

* قال الشاعر العربي محمود سامي البارودي:

حلبتُ أشطرَ هذا الدهرِ تــــــجربةً .... وَذُقْتُ مَا فِـيهِ مِن صَابٍ، وَمِنْ عَسَلِ

فَمَا وَجَــــــــدْتُ عَلَى الأَيَّامِ بَاقِيَة ...........أَشْهَى إِلَى النّــَفْسِ مِنْ حُرِّيَّة الْعَمَلِ

لكــــــننا غرضٌ للـــشرَّ في زمنٍ ........... أَهْلُ الْعُـــــقُولِ بِهِ فِي طَاعَة الْخَمَلِ

قامتْ بهِ منْ رجالِ السوءِ طائفة ....أدهى على النفسْ منْ بؤسٍ على ثكلِ