الإنتخابات بين حل الأزمة الوطنية وتسوية أزمة السلطة
بقلم/ دكتور/د: ياسين سعيد نعمان
نشر منذ: 16 سنة و شهر و 6 أيام
الثلاثاء 18 نوفمبر-تشرين الثاني 2008 07:28 ص

أسفر ضجيج السلطة الإعلامي بشأن منجزاتها الضخمة والتجربة «الديمقراطية الرائدة» عن وضع سياسي واقتصادي واجتماعي هش، تتبلور في أتونه معالم أزمة وطنية حادة وعميقة تضع البلاد أمام مفترق طريقين: إما مواصلة السير في نفس الطريق الم ضلل الذي سيفضي بدون شك إلى نهايات مأساوية، أقلها خطورة دخول اليمن دائرة الدول الفاشلة حيث تستريح هناك إلى جانب تلك الدول التي فقدت الفرصة في استعادة الحيوية إلى مفاصلها بانتظار مصيرها الذي تقرره بعد ذلك عوامل ذات صلة بالاستراتيجيات الدولية، وهناك يعاد تصميم آليات نشاط وعمل القوى والفعاليات فيها بموجب هذه الاستراتيجيات، وإما الوقوف بمسؤولية أمام هذا الوضع في محطة مراجعة وطنية شاملة والاعتراف بالأزمة لتأكيد تصميم جميع فرقاء الحياة السياسية على مواجهتها بروح مسؤولة، بعيداً عن أي حسابات مجهولة.

السنوات الماضية حملت معها مقدمات هذه الأزمة في صور شتى من تخبط السلطة في التعاطي مع القضايا السياسية والاقتصادية والوطنية عموماً، وكان غياب المشروع السياسي الوطني للسلطة والحزب الحاكم مظهراً لإدارة تغيب عنها الرؤيا الاستراتيجية، وتتعامل مع هذه القضايا بطريقة مجزأة في إهمال واضح لعنصر التلازم لمسارات التطور على كافة الأصعدة والتأثير المتبادل بين مكوناتها.

ويكمن جذر المشكلة في غياب النظام المؤسسي القادر وحده على صياغة المعادلة على نحو متوازن وبأولويات تضع حداً لتخبط وارتجالية القرارات الفردية.

والشواهد كثيرة على أن الأزمة الراهنة هي نتيجة لغياب الدولة والنظام المؤسسي، ومواصلة قمع مكوناتها، بل وضرب أسس قيامها بالاستناد إلى منهج في الحكم يعظم دور الفرد على حساب المؤسسة وبالصورة التي تنتهي إلى تصادم وخصومة مدمرة بين الفرد والنظام المؤسسي في حين أن دور الفرد في منهج آخر لا يمكن إغفاله وذلك حينما يفضي هذا الدور إلى بناء الدولة المؤسسية التي تتسلم الحكم.

وسنغفل من حديثنا هنا هذه الحالة الثانية التي يؤدي فيها (الفرد) دوراً تاريخياً طليعياً بل وثورياً يفضي إلى خلق وقيام دولة بنظام مؤسسي ينقل إليها الصلاحيات والسلطات ويهيئ لها سبل الاستقرار والتطور ويكون فيه الشعب هو مالك السلطة ومصدرها، هذه الحالة ماثلة في التجربة الإنسانية اليوم في صورة دول وأنظمة مستقرة ومتطورة. وبإمكاننا أن نشاهد (الفرد الصانع) حاضراً بقوة في مخزون الذاكرة الوطنية لشعوب هذه البلدان بوجود الدولة المؤسسية القوية المزدهرة التي عمل على إقامتها في مشهد يؤكد على أن دور (الفرد) حينما يتجه نحو بناء الدولة والنظام المؤسسي لا يمكن إغفاله، بل يصبح محركاً لا غنى عنه للنهوض والتطور.

ولما كنا بصدد البحث في أسباب الأزمة الوطنية التي نعيشها في اللحظة الراهنة، فلاشك أننا أقرب إلى الحالة الأولى حيث تتبلور عوامل الانهيار في قلب الصراع بين الفرد والمؤسسة، فالمؤسسة وإن بدت أنها مقموعة فمع مرور الزمن نجد أن التطور الذي يصيبه المجتمع يفرض على نحو موضوعي حاجة مجتمعية متزايدة لدور المؤسسة، غير أن هذه الحاجة تصطدم بثقافة سياسية تحصر الطاعة للفرد أياً كان مكانه في سلم الحكم وتراتبية النظام الإداري حيث ينشأ نظام أوامري يلغي من الناحية العملية المؤسسات التشريعية والقضائية والتنفيذية بمكوناتها المختلفة وتتحول إلى هياكل فارغة المحتوى. وغالباً ما تكون الوظيفة الفعلية لهذه المؤسسات هي تنفيذ ما يضخه النظام الأوامري من أوامر وتوجيهات لتبدو وكأنها قرارات دستورية، بينما هي تصنع خارج هذه المنظومة الدستورية حيث تنشأ الحاجة إلى القرار وتتبلور بالاستناد إلى حاجة الحاكم لا حاجة المجتمع، أو تبدو معها حاجة المجتمع تابعة.. لا منشئة للقرار.

وفي الغالب يكون هذا الصدام صامتاً في مراحله الأولى، لكنه لا يلبث أن يظهر في صورة أزمة طرفاها سلطة الحكم والمجتمع (الشعب).

في هذا المشهد التصادمي تكون الدولة غائبة، بعد أن تكون قد ختزلت وأذيبت بمجموع مكوناتها في سلطة مطلقة للحكم، وتكون هي موضوع التصادم بين سلطة مطلقة لا ترى لزوماً لهذه الدولة بعد أن تكون قد استحوذت على مؤسساتها وصلاحياتها ووظائفها، وأخذت تقدم نفسها على أنها هي الدولة، وبين المجتمع (الشعب) الذي يتطلع إلى بناء الدولة المعبرة عن شخصيته باعتباره العنصر الأساسي والفاعل بين مكونات الدولة.

وتتجلى مظاهر هذه الأزمة في تقديم السلطة نفسها كمكون وحيد للدولة، فهي تلغي الشعب كمكون فاعل من مكونات الدولة، وتتصرف كمالك للأرض وللثروة المكون الآخر للدولة، وينشأ عن هذا نظام يجسد هذا الاختلال الكبير بين مكونات الدولة يواصل تعسف النمو الطبيعي للشخصية الوطنية للمجتمع بتكريس ثقافة الولاء للسلطة المطلقة، الأمر الذي يشوه مجمل العملية الموضوعية المتعلقة ببناء الدولة ونظامها المؤسسي.

وفي هذا السياق تتجه السلطة المطلقة إلى القوى الفاعلة وإلى العوامل الديناميكية في المجتمع فتعمل على تفكيكها وإعادة بنائها على النحو الذي يغير مسارات عملها ونظام آلياتها في الاتجاه النقيض لعملها الطبيعي باعتبارها القوة الدافعة لبناء الدولة، ويترتب على هذا العمل المقصود تعطيل وتشويه طاقات المجتمع، وتوليد بيئة خاملة واتكالية غير مؤهلة للتفاعل مع القضايا الحيوية للبلاد، ومثل هذه البيئة تكون مؤهلة فقط لتلقي الأوامر الصادرة من السلطة المطلقة، وهي بيئة تتراجع فيها شروط ومقومات العمل السياسي والإبداعي، ولا تستطيع أن تنتج الاستجابة الضرورية للتحديات الكبرى التي تعكس حاجة المجتمع لمغادرة المأزق، وتعمل السلطة المطلقة على توظيف هذا الخمول لإكساب نظامها مشروعية في مواجهة ما تبقى من أجزاء حية في المجتمع تواصل المقاومة في ظروف غاية في الصعوبة بما في ذلك الحصار الذي تفرضه على هذه القوى الحية وإرهاقها بمناورات سياسية وانتخابات مزيفة مع التهيئة لمواجهات حاسمة تفرض فيها خيار الصراع على خيار التوافق والشراكة.

وهي تستخدم لخلق هذه البيئة الخاملة منظومة متكاملة من أدوات ووسائل الردع والترويض المباشرة مروراً بتشويه البنية الاقتصادية وخلق فئات طفيلية من خارج الوسط الاقتصادي تمكنها من الاستئثار بمساحة كبيرة من النشاط الاقتصادي والمالي والذي غالباً ما يكون على حساب قطاع رجال الأعمال المنظمين العاملين أساساً في الميدان الاقتصادي والتجاري وعلى حساب اقتصاد الإنتاج، ناهيك عن اتباع نظام توزيع غير عادل للثروة والدخل يؤدي إلى خلق فئات من أصحاب النفوذ والمحاسيب تتركز بيدها الثروة وتمارس الاقتصاد الريعي الذي يواصل هو الآخر تشويه البنية الاقتصادية والاجتماعية, وينمو وسط هذه الفئات الفساد الذي يؤدي إلى نشوء سلسلة من التأثيرات السلبية تمتد إلى الحياة السياسية، وتكوّن جميعها قوة ضغط مقاومة لأي توجهات إصلاحية سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الإداري، وتصبح قوة بيد السلطة المطلقة في مشروعها المقاوم والرافض للنظام المؤسسي، ولا توجد حدود لنمو هذه (القوة) بعد أن تطلق يدها في تخريب قيم المجتمع، حيث تصبح قيمها هي الطريق الوحيد للإثراء واكتساب الجاه في كنف السلطة الحاكمة.

وعلى هذه القاعدة يتبلور نظام مختلف لإنتاج المصالح غير النظام الذي تفرضه المواطنة المتساوية والحقوق الدستورية والقانونية للناس، نظام يسحق بلا رحمة وبدون أخلاق الدستور والقانون وينشيء معطياته السياسية والاجتماعية بشروط القوة التي يرفضها (مجمع) هذه المصالح، ومعها الاختيارات السياسية التي لابد أن تعكس في محتواها وتوجهاتها ونتائجها الانحياز الكامل لهذه المصالح وذلك باستخدام كل الوسائل بما في ذلك الصدامات الدموية والعنف.

واليمن اليوم نموذج لهذه الحالة حيث تتجه تجليات الأزمة فيه إلى كشف حقيقة الوضع السياسي كشاهد على الانتقائية التي مارستها السلطة خلال السنوات الماضية لتضع البلاد أمام تحديات خطيرة، وإيصالها إلى حافة انقسامات سياسية واجتماعية ومذهبية. وفي تعاطيها مع هذا الوضع الذي خلقته بسياساتها الانتقائية والارتجالية رسمت حدود العلاقة الانقسامية بين قاعدتها الاجتماعية التي ركزت بيدها الثروة والسلطة والسلاح من ناحية وبقية قوى الشعب من ناحية أخرى وذلك في مشهد لم يعد معه الحفاظ على السلم الاجتماعي معياراً لقياس الحراك الاجتماعي أو إنتاج المصالح وشروط المواطنة أو تنظيم العلاقة داخل المجتمع أو إدارة شئونه.

والسلطة التي تهمل هذا المعيار وتتعالى عليه وتغرق في استقطاب انقسامي على النحو المشار إليه تضع البلاد في حالة استنفار لا تلبث أن تولد شروط التحرك نحو المواجهة والصراع كمظهر للأزمة التي تأخذ طابعاً بنيوياً أكثر من كونها أزمة عارضة.

وينشأ عن مثل هذه الأزمة البنيوية أن مشاكل البلاد يتم مواجهتها خارج البعد الوطني حيث يقفز الاستقطاب الانقسامي إلى الطاولة ويدفع بشروطه ومعادلاته إلى الصدارة فلا يسمح مجمع المصالح المتنفذ أن يشكل الحل نافذة للتوافق الوطني بل يصر على أن يصبح معطى إضافياً في معادلة الانقسام استجابة لمصالحه المغلقة.

فالحراك السياسي والاجتماعي في الجنوب مثلاً وهو يجسد حالة موضوعية في علاقته بمأزق الوضع العام الذي تعيشه البلاد وما يترتب عليه من إسراف في إرهاق هذا الجزء من الوطن بأعباء وممارسات سلطة تغيب معها وظيفة الدولة الوطنية، أخذ يتجه نحو إنتاج وإعادة قضيته المتمثلة في المطالبة بقيام دولة الشراكة الوطنية على قاعدة اقتسام عادل للثروة وحكم لا مركزي وتكريس حقوق متساوية لكل أبناء الوطن أي الاعتراف بقضية الجنوب كشريك في وحدة سلمية تستلزم تصفية كل آثار حرب 1994م وبناء دولة الشراكة الوطنية، وهو أمر لم تستطع السلطة أن تستوعبه على النحو الذي يدفع بحل ذي بعد وطني للمشكلة، بل راحت تعيد بناء المشكلة داخل مخيلة انقسامية وتشجع الضجيج الانقسامي الذي يعمد على إبرازها بمفاهيم نقيضه لجوهرها لتبدو وكأنها صراع شمال/ جنوب.

استقرت السلطة بكل ثقلها عند هذا الحاجز الذي يضع خطاً فاصلاً بين الحل على قاعدة وطنية والمواجهة بتكريس الانقسام الوطني، وكان الهدف من انحيازها للمواجهة بتكريس الانقسام الوطني هو التخلص من مسؤوليتها في إنتاج جذر المشكلة والهروب من حلها حلاً وطنياً لما يرتبه ذلك من التزامات لا يستطيع "مجمع مصالح السلطة" أن يفي بها لأنها ستفرض عليه أن يعيد بناء وتركيب هذه المصالح على نحو مختلف عما استقر عليه الوضع، ولذلك فإن الحل الأمثل هو الصدام والمواجهة وترك المشكلة تتحرك بمحتوى مختلف عن جوهرها الحقيقي ليبرر المواجهة والصدام غير عابئ بما يشكله ذلك من مخاطر على استقرار ووحدة البلاد، وفي هذا السياق استبدل الحل الوطني الجذري للمشكلة بترتيبات جزئية تعترف بالمشكلة ولا تحلها بل تعمقها بالحديث عن تمثيل شكلي للجنوب في السلطة والتوجه نحو الأحزاب لشراء بعض الذمم واصطيادها بالانفاق عليها ببذخ وإبرازهم كممثلين عن الجنوب في عمل يتسم ببؤس التفكير وتفاهته.

وبالنسبة لصعدة فقد رفضت السلطة ومجمع مصالحها أن يضعا القضية في إطار وطني حيث أخذت الحرب تتجدد بين حين وآخر، ولم تعترف السلطة بدور القوى السياسية والوطنية في مواجهة المشكلة حيث لم يكف خطابها التعبوي عن توجيه الاتهامات من منطلق " من ليس معنا فهو ضدنا" في موقف لم يترك سبيلاً إلا وسلكه لإفشال كل المحاولات لإكساب حل هذه القضية بعداً وطنياً، الأمر الذي جعل تجدد الحرب والعنف والمواجهات المسلحة مظهراً آخر للأزمة السياسية، ربما كان هذا المظهر أكثر خطورة كونه يفتح بوابة إضافية إلى طريق مختلف تماماً عن طريق النضال السلمي الديمقراطي الذي بدا مع تباشير وحدة البلاد وكأنه قد وضع اليمن فوق ناقلة مقودها بيد الشعب قبل إن تسحق حرب 1994م الناقلة بأكملها وتكسب الحل بالعنف والحروب المرجعية التي أخذت تغذي العنف والحروب وتبررها.

إن هذه المرجعية هي جذر الأزمة السياسية الوطنية، وأهميتها أنها أخذت تنتج ثقافتها الموازنة التي راحت تتسلل إلى الوجدان الشعبي حاملة معها بذور اليأس من الديمقراطية والنضال السلمي، وكأننا أمام فعل ممنهج ومقصود الهدف منه تيئيس الناس من طريق النضال السلمي الديمقراطي تمهيداً للتراجع عن الهامش الديمقراطي وإغراق البلاد في سديم الاستبداد الذي سيضع البلاد أمام تحديات من نوع مختلف من منظور ما ترتبه هذه التحديات من آثار خطيرة على الوحدة الوطنية للبلاد ووحدته السياسية خاصة إذا عرفنا أن الوحدة السلمية قد تحققت يوم 22 مايو 1990م على قاعدة الأخذ بالديمقراطية والتعددية السياسية كتسوية تاريخية حمت المفاهيم المتباينة للوحدة عند أطرافها السياسية.

فالديمقراطية التعددية هي ركن أساسي في الوحدة، والنضال السلمي الديمقراطي هو طريق التوافق الوطني، وهما الفكرة الجامعة التي استندت عليها تجربة تاريخية امتدت قرابة خمسة عقود منذ قيام الثورة (26 سبتمبر – 14 أكتوبر) وهي تجربة كافية لاستخلاص أهمية هذا الطريق لإخراج اليمن من مأزق التخلف والصراعات والتمزق.

ولتأمين السير على هذا الطريق لابد له من أن ينتج خياراته على الأرض والتي تتصدرها الدولة المؤسسية، وإعادة بناء دور الفرد في سياق متناغم مع الأهمية التاريخية والوطنية لبناء هذه الدولة ونظامها المؤسسي، ولابد أن ينعكس ذلك في صور شتى من الانسجام الوطني بين مكونات العملية السياسية والاجتماعية والثقافية بحيث يشكل هذا الانسجام أساس بناء هذه الدولة الوطنية ونظامها السياسي المستند على شرعيته الدستورية والشعبية.

إن الثورة لم تكن غايتها في الأساس سوى الوصول بالمجتمع إلى هذا المستوى من الإنسجام حتى يتمكن من إدارة شئونه على قاعدة التوافق التي يحكمها العقد الاجتماعي كي لا تطغى المصالح على بعضها فتربك مسار الحياة، كما يحدث اليوم حيث يشق هذا الطغيان لنفسه طريقاً غير طريق النضال السلمي الديمقراطي، يتسم بالعنف والحروب وفرض الأمر الواقع، وهو ما يعني إحداث قطيعة تاريخية وقيمية مع الثورة حتى أن شرعية الحكم قد فقدت بهذا الانقلاب جذرها المستند على قيم الثورة ومبادئها، خاصة وأن نظام الحكم لم يستطع حتى اليوم أن يؤسس لشرعية تنقل حكم البلاد من الشرعيات الانتقالية إلى شرعية راسخة وهو ما اعتبرناه في حديثنا خلاصة التجربة التاريخية.

وجاءت المشاركة في الانتخابات السابقة لتعبر عن حرص شديد للسير في طريق إنتاج هذه الشرعية لحماية البلاد من الاضطرابات وعدم الاستقرار التي تؤدي إليها الشرعيات الانتقالية والناقصة وذلك على الرغم من كل ما رافق تلك الانتخابات من اختلالات وتزوير، وكنا نرى أن الانخراط بمسئولية في هذه العملية سيؤدي إلى تراكم كمي يتحول مع المدى إلى تغيير نوعي وجوهري انسجاماً مع القانون الموضوعي الذي يحكم الظواهر الاجتماعية، غير أن السلطة عملت بكل قوة على منع عملية التراكم تلك واستأسدت، بتوظيف كل إمكانيات "الدولة"، في جعل الانتخابات محطة لإعادة إنتاج نفسها وتحويلها إلى معركة مع الديمقراطية وليس من أجل الديمقراطية .. كانت الديمقراطية في كل مرة تخسر جانباً من شروطها وقدراً لايستهان به من زخمها. وكانت هذه المعارك تخلق أوضاعاً تتسع فيها مساحة الإحباط في الوعي الاجتماعي بجدوى الديمقراطية والنضال السلمي بل بجدوى العمل السياسي، حتى أن السنوات المنصرمة شهدت انسحابات كثيرة من الحياة السياسية من قبل النشطاء السياسيين وعزوف من قبل الشباب الذين يتهددهم الخوف على مستقبلهم فيما لو التحقوا بأحزاب المعارضة. وأخذ بعض الانتهازيين والنفعيين يهجرون أحزابهم إلى المؤتمر الشعبي ضمن حركة استقطاب تستخدم فيها الإغراءات المالية والمناصب ويوظف فيها المنشقون بكل صفاقة ضد الأحزاب التي خرجوا منها، ويعكس هذا الوضع مستوى التردي الذي تغرق فيه الحياة السياسية، لدرجة أن هذا التشويه المتعمد الذي تمارسه قوى السلطة المتنفذة وسلوك هؤلاء الانتهازيين على ذلك النحو الذي أساءوا فيه للعمل السياسي أضحى يطرح عدة أسئلة حول أجندة السلطة الحقيقية بشأن الديمقراطية والتعددية.

لقد بدأت عناصر هذا المشهد تظهر كتجاعيد مفزعة في السلوك الاجتماعي حيث تدهورت القيم التي كانت قد أخذت تنتظم في سياق الخيار الديمقراطي، وعبّر هذا التدهور عن ضعف الضوابط القيمية التي أخذ الفساد بتعبيراته المختلفة يقوم بتفكيكها ويفتح الطريق أمام قيمة المفضية إلى العنف والإرهاب وغير ذلك من المشاريع التفكيكية التي تضع المجتمع في مواجهة بعضه البعض.

لقد تم التلويح بهذه المشاريع في وجه المشروع الوطني الديمقراطي كخيار للسلطة تربك به الحياة السياسية، وتستولد من داخل هذا الارتباك مبررات مقبولة دولياً لمزيد من تقييد الحريات والاعتقالات والمحاكمات، وبلورة موقف مناهض للديمقراطية التعددية من منظور أنها غير ملائمة لبلد مثل اليمن الذي يحتاج إلى "الضبط والربط"، حتى أن تراجع الاستثمار خلال الفترة المنصرفة قد عزاه البعض إلى ما اعتبروه "فوضى الديمقراطية".

واتجهت الحملة ضد الخيار الديمقراطي نحو تهيئة الوعي العام على القبول بسقف للديمقراطية لا يغير من الوضع شيئاً، وإذا كان هنالك من تغيير فلابد أن يكون لمزيد من ترسيخ دعائم السلطة القائمة وتوسيع مساحة منتسبيها في المؤسسات المنتخبة وحجز المعارضة في مساحة ضيقة لزوم الديكور، ولابد أن تخدم الانتخابات هذا الهدف.

وراحت تصمم نظام وآلية وإدارة للانتخابات لتحقيق هذا الهدف، وناورت بحوارات طويلة ومضنية طوال السنتين الماضيتين وفي نيتها تكريس وفرض ما قررته سلفاً من نظام وآلية، وهو ما أكدته الوقائع مؤخراً في مشهد لم يترك أدنى شك في أن الأزمة السياسية لم تعد تتحرك في إطارها الموضوعي بل أخذت تصعق المشروع الوطني بذلك الموقف الذي يجسد أجندة السلطة تجاه الديمقراطية والتعددية، باعتباره أخطر وجه للأزمة السياسية، غير آبهة بما سيفضي إليه هذا الموقف والمسارات المزامنة من نتائج.

لقد حرصت أحزاب اللقاء المشترك أن تحاور بمسئولية وتتمسك بالاتفاقيات التي وقعت مع المؤتمر الشعبي، ناهيك عن تقديمها رؤيا عن إيجاد المناخات السياسية والوطنية الملائمة لإجراء الانتخابات، بالإضافة إلى فتح الباب أمام حوار وطني شامل لكل القوى السياسية والاجتماعية للوصول إلى رؤيا لمعالجة مجمل الأوضاع السياسية والاقتصادية وتجنيب البلاد مغبة الإنزلاق نحو أزمة يصعب الخروج منها إلا بأثمان باهظة.

مانراه اليوم هو أن البلد قد انزلق نحو هذه الأزمة، فما الذي يعنيه إجراء انتخابات برلمانية تكرس كل العناصر والعوامل المنتجة للأزمة الوطنية غير البحث عن حل لأزمة السلطة الحاكمة نفسها والحصول على شهادة براءة ولو شكلية لا تغير من واقع الحال شيئاً عدا أنها تزج به في مأزق جديد.

الانتخابات التي يراد لها أن تكرس الأمر الوقع كما صنعه مجمع مصالح السلطة هي صورة للمنهج الانقسامي الذي تنزلق إليه السلطة والمؤتمر الشعبي من خلال الإصرار على سياسات الإلغاء والتهميش للأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية المعارضة، فبدلاً من أن تصبح الانتخابات محطة مراجعة وطنية شاملة لأوضاع البلاد وإعدادها من ثم للإنتقال إلى طور أرقى من العمل السياسي التعددي فإنه يجري توظيفها للتمويه على هذه الأوضاع من ناحية وكبح الديمقراطية بهذه الانتخابات ذات النتائج المعدة سلفاً.

من الصعوبة بمكان أن نتحدث اليوم عن إصلاحات فنية مجردة، فقضية الانتخابات تعكس أزمة سياسية ووطنية بنيوية ولايمكن إعادة الاعتبار للانتخابات إلا بمعالجة جذرها السياسي والوطني، والمؤتمر الشعبي ومعه السلطة الحاكمة لا يجهلان حجم وأبعاد هذه الأزمة وإن اتبعا خطاباً إعلامياً ينكرها لكنهما لا يستطيعان أن ينكرا وجود الجبل بإدارة ظهرهما إليه، ولذلك فإن إصرارهما على إجراء الانتخابات بالأجندة التي قررا بها أن يدقا آخر مسمار في نعش التعددية السياسية سيكون قراراً ارتجالياً لن تقف آثاره عند حدود اختطاف الديمقراطية، فتداعياته ستمتد إلى العمق الوطني، وكما خلخلت السياسات الخاطئة مكونات وروابط هذا العمق فإن المشاريع التفكيكية ستنتعش بتراجع المشروع الديمقراطي في ظروف سيكون فيها المشروع الوطني قد أرهق بمناورات السلطة، فهل تتجه هذه السلطة نحو تسويات من نوع ما مع هذه المشاريع ويكون هذا هو خط الرجعة لها بإصرارها على تصفية التعددية السياسية؟! ربما .. لكن التسوية هنا لن تكون كما يتخيلها دعاة التسوية مع هذه المشاريع ومصممو سياسة فك الارتباط بالمشروع الديمقراطي .. ستدفع البلاد ثمناً باهضاً مقابل ذلك، وقد يكونون هم أنفسهم جزءاً من الثمن، إن المغامرة بالمشروع الديمقراطي لقاء مصالح آنية صغيرة هو ضرب من العمل الارتجالي سيضع البلاد أمام معادلة بمجاهيل عديدة، وكل ما في الأمر هو أن يوسع عقلاء السلطة والمؤتمر حدقات أعينهم ليتمكنوا من رؤية المساحات التي تحجبها عنهم أبخرة أصحاب المصالح الضيقة والمتمصلحين.

إننا أحوج ما نكون إلى نظرة تمتد على الأقل لعشرين سنة قادمة أو أكثر من ذلك نُعيد بموجبها ترتيب أولوياتنا في ضوء المعطيات التي أفرزتها وقائع الحياة، ونبحث بعمق في حاجة بلدنا إلى الاستقرار والتنمية وتعميق الوحدة الوطنية والسياسية.

لقد بات اليمن محاطاً بأساطيل القوى العظمى في مؤشر لا تخفي دلالته عما بات يعرف بأهميته الجغرافية في الأمن الإقليمي والقومي، وما قصة القرصنة إلا سيناريو لتدويل المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وهي مسألة تضع اليمن تحت المجهر، لذلك لم تعد إداراتها لشئونها الداخلية مسألة محلية، ولن يكون مقبولاً منها بعد اليوم أن تأخذ قراراتها بنفس الأسلوب القديم، بل لابد أن تدفع إلى الصدارة بطرق وأساليب سياسية وإدارية قادرة على إنتاج القرارات المؤسسية التي تُعد البلاد كلها لتحمل مسئولياتها إزاء القرارات التي تأخذ بعين الاعتبار المصالح المترابطة وذات البعد الاستراتيجي على الصعيدين الإقليمي والدولي، وهذا لن يتأتى إلا ببناء قاعدة سليمة لتنظيم المصالح الوطنية وإدارتها على أسس تحمى مصالح كل أبناء الوطن.

والانتخابات باعتبارها عملية سياسية وطنية يجب أن تتجه إلى بناء وإصلاح هذه القاعدة، ولن تستطيع أن تحقق ذلك إلا انتخابات حرة ونزيهة وفي إطار نظرة استراتيجية تضع البلد على قاعدة مستقرة من التوافق السياسي والاجتماعي والوطني والفهم المشترك لأولويات المرحلة القادمة (والله غالب على أمره).

* الأمين العام للحزب الإشتراكي اليمني، والمقال نشر في صحيفة الصحوة التابعة للتجمع اليمني للاصلاح.