تقوى ووعي
بقلم/ أ. د/أ.د.أحمد محمد الدغشي
نشر منذ: 16 سنة و 11 شهراً
الأحد 16 ديسمبر-كانون الأول 2007 07:40 ص

مارب برس –خاص

حين يرد الحديث عن مسئولية علماء الشريعة ودورهم إزاء الأزمة الشاملة التي تحيق بالمسلمين؛ فلا مناص من تقرير حقيقة أن دور علماء الأمة يأتي في الطليعة لما لهم من تأثير بالغ ، منطلقه تأثير الدين الذي يحملون أمانة تبليغه والدعوة إليه. ولأن الصورة التي تحفر في ذاكرة الأم ة عن علمائها تجسَّدت في اضطلاعهم بالدور الريادي في هداية الضال، وإجابة الحائر، والوقوف مع الضعيف والمظلوم، والأخذ على يدي الظالم والمستكبر، وقيادة الأمة في الأزمات الحالكة، ولا سيما حين تغيب قيادتها السياسية عن التأثير، لضعف الثقة فيها، أو لجُبنها وتراخيها؛ فليس بمستغرب أن تناقش هذه السطور جانباً من الأسباب الجوهرية التي تسببت في تراجع ذلك الدور، أملاً في الإسهام في عودته، على أيادي مصابيح الهدى ، وحملة مشاعل الريادة في التغيير الإيجابي المأمول.

ثمّة أسباب عديدة غير أن السطور هنا لا تتسع لأكثر من سببين جوهريين هما – في ظن صاحب هذه السطور- الأساس في المشكل ، وبتجاوزهما يمكن أن يعاد الوضع إلى نصابه إلى حدّ كبير.

السبب الأول: تقوى العالم: والتقوى المقصودة هنا أن تنخلع حظوظ الدنيا الشخصية ومتعلقاتها من نفسية العالم وفؤاده – والمفتي بوجه خاص- ليحلّ محلها تعلّقه بالقوي الحق، النافع الضار، المعطي المانع، وهو الباري- جل وعزّ-. أمّا حين تغدو مهمة الإفتاء وظيفة رسمية خالصة، تشرف عليها الأنظمة والحكومات، فتعيّن من يتماشى مع خطّها السياسي والفكري، وتقصي من خالف ذلك،أو حتى تشتم من مسلكه الرغبة الجزئية في التحرّر والانعتاق، من الهيمنة والتسيير، أو حين يغدو المفتي مجرّد تابع صغير لمدرسته الفكرية،أو لطائفته، أو لمذهبه، أو لحزبه، بدلا من انتمائه الحضاري لأمته بكل مدارسها وأطيافها ولا سيما في القضايا الكليّة والمواقف الكبرى التي تعني الأمة بكل شرائحها وانتماءاتها، حيث يسعى لتقديم كل ما من شأنه أن ينال رضا أيّ من هذه الأطر؛ فإن ثقة الأمة به تضعف، والاقتداء العام به يقلّ، وفتاواه تصبح قرينة حكايات جلساء الحكام ومسامريهم وندمائهم ليس أكثر! ودوره يتحول- من ثمّ- إلى دور عكسي ، أي الإسهام في إدامة أمد التخلّف ، بألوانه السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية والتربوية وسواها، كما يبقي كذلك حالة التراجع لدور علماء الأمة عن التنوير والتغيير، ليحلّ محلهم غيرهم ممن لا يؤمن بخطاب الدين بشموله وتكامله ، وقد لا يأبه للخروج عن مقررات الشرع وثوابته !

السبب الثاني وعي العالم: وهذا السبب مقترن بسابقه، إذ لو افترضنا تحقق الشرط الأول في العالم الشرعي ولكنه لا يزال ضعيفاً في الوعي، قليلاً في الإدراك لما يجري حوله في واقعه، بحيث تنطلي عليه أساليب الحيل، وألاعيب السياسة، وما بلغت إليه بعض الدوائر المتخصّصة في صناعة الإفك حسب الطلب، ومهارة التزوير للحق، و التمكّن من قلب حقائق الأشياء؛ فإن تقواه وحدها لا تقدّم شيئاً ولا تؤخر بالنسبة إلى الدور المنوط به إزاء المسئولية عن تخلّف الأمة وتراجعها الحضاري.

الحق أقول لكم – سادتي علماء الشريعة-: إنه لم يؤت أحد منكم مِن قِبل شيء كما أتي مِن قبل غياب هذا الجانب – أعني غياب الوعي-. ومما يؤكِّد ذلك بعض هذه الأمثلة المعاصرة الصارخة من الفتاوى (المؤسفة) التي تؤكّد أن أصحابها لا يعون واقعاً ملتبساً –كما لا يراعون فقه النص ولا حيثياته ومقاصده- : فتاوى رضاع الكبير ، المبالغة في وصف شمائل النبي- صلى الله عليه وآله وسلّم- إلى حدّ منح مخرجاته وصفاً مقدّساً غريباً على نقاء الدين واعتداله واحترامه لكرامة الإنسان وكينونته، فضلاً عن مخالفته الصريحة للنهي النبوي الكريم:" لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم"، والانكباب على المسائل الميـّتة، أو تلك التي قتلت بحثاً في القديم والحديث،أو تهييج عامة القوم من على المنابر العامة على مفكّر أو باحث أو مثقّف، ومحاولة الجزم بنواياه الخبيثة ومقاصده التآمرية، لكونه خالفهم في قضية كبيرة أو صغيرة، دون اللجوء إلى مقارعة الحجة بمثلها وكفى،ولاسيما حين يكون ذلك الخلاف فكرياً –لا أخلاقياً- ، والانشغال بتفسير الأحلام والمنامات، والهرب من مواجهة مشكلات الأمة وتحدّياتها المعاصرة إلى أدغال الماضي، ومصارعة طواحين الهواء ممثلة في الفِرق الإسلامية الغابرة، فتعمل فيها تفسيقاً أحياناً، وتكفيراً أحياناً أخرى، وتصويرها بأنها المشكلة التي ليس قبلها ولا بعدها مشكلة، أو ترك العدو الصيو أمريكي ومن يدور في فلكهما يسرح ويمرح ويعبث بمقدّرات الأمة وكراماتها في أكثر من بقعة وصقع، في حين تأتي فتاوى التخذيل والتثبيط عن مناصرة هذه الطائفة أو تلك الجماعة التي تقف في وجه المخطط الصهيو أمريكي، لأن من يقود المواجهة لا ينتمي إلى غير طائفتها أو جماعتها (السياسية)- قبل الطائفية أو المدرسية- ، في مقابل تلكك الفتاوى التي أسهمت بنصيب وافر في صناعة جماعات العنف والغلو والتكفير بحكم التنشئة العنيفة على المسلك الذي يصوّر الآخر القريب – قبل البعيد- عدوّا يجب التبرّؤ منه إذا لم ينصع لمقرراتها المدرسية، وإعلان موقف حازم منه، قد يبدأ من المقاطعة في الحديث إلى المقاطعة في الأعناق إذا استلزم الأمر ذلك، أي حين لايرعوي عن اجتهاده أو خطئه، لاسيما إذا كان مصنّفاً على طائفة مشتهرة بالخلاف التاريخي معها، وما يجري على أكثر من بقعة من عالمنا الإسلامي لهو أكبر دليل على مخرجات هذه التنشئة، مهما تبرّأ منها أصحابها اليوم، بعد أن تبيّن أن الكارثة إذا حلّت بجارك حتماً ستبات في دارك !. ونحو ذلك من علامات غياب الوعي واستيلاء القصور في الإدراك لهذا الواقع وملابساته والضعف في التفاعل الواعي مع الأزمات الكبرى والقضايا المصيرية بوجه خاص .

إن كاتب هذه السطور إذ يشكو من هذا الوضع المحزن لحال قطاع من علماء الشريعة فإنه لا يصرخ من خارج الدائرة، ولا يشايع دعوات عدمية تسعى لتهميش خطاب الدين، فتلجأ إلى شن حملات ظالمة عمياء على علماء الشريعة، وتصبّهم جميعاً في خانة واحدة . كما لا يقبل أن يزايد عليه آحاد طلبة العلم- وليس بالضرورة أدعياؤه - أنه إذ يعبّر عن نصيحته لخاصة الأمة – كما ثبت في حديث النصيحة الصحيح –فإنه يقع في نهش لحوم العلماء المسمومة ، ثمّ يسرد عليك مقولة بن عساكر الشهيرة في هذا السيّاق، فإنه لو صح ذلك بإطلاقه فإنه لا يصحّ نبز هؤلاء لغيرهم من علماء الشريعة سواء من مدرستهم أو غير مدرستهم أو طائفتهم أو إطارهم الخاص، بدعوى التسيّب أو الانفلات، أو مجاراة الواقع ،أو الرضوخ لترغيب السلطان وترهيبه، أو الوقوع في شرك العقلانية أو التصوّف، أو عكس هذه الأوصاف ....الخ

إنها أنات مسلم حزين غيّور يصعب عليه الصمت على مشهد مؤلم، يُغتال فيه رأس الأمة، ويغيّب ضميرها الفاعل (علماء الشريعة)، حين لايعي بعضهم حقيقة الدور الذي يناط به، أو يستسهل ذلك فيستمر مسلسل التخلّف بلا توقّف.