الدواعنة في الحجاز ثم السعودية
بقلم/ أ‌.د. مسعود عمشوش
نشر منذ: 13 سنة و 4 أشهر و 28 يوماً
الأحد 19 يونيو-حزيران 2011 06:46 م

منذ فترة ما قبل الإسلام ارتبطت حضرموت بعلاقة جوار متينة مع أرض الحجاز وسكانه. فإذا كان كثير من أبناء الجزيرة العربية الحضارم قد شدوا الرحال إلى مناطق بعيدة من الكرة الأرضية للاستقرار فيها، والحياة وسط أهلها غير العرب، فكيف لا ينتقلون للعيش بين أشقائهم العرب في الطرف الآخر من رمال الربع الخالي؟

وفي فترة الفتوحات الإسلامية توثقت علاقات الحضارم بالحجاز، وذلك لأسباب دينية وثقافية وتجارية. ويؤكد المؤرخ محمد عبد القادر بامطرف أن أحفاد الحضارم الذين وصلوا الحجاز في تلك الفترة استقروا فيه، واندمجوا وسط سكانه. ويذكر منهم حصين بن الحارث بن مسلم بن قيس بن معاوية الجعفي وكثير بن الصلت بن معدي كرب بن وليعة الكندي .

ومثل غيرهم من المسلمين ارتحل عدد كبير من الحضارم إلى الحجاز لطلب العلم في المدينتين المقدستين: مكة والمدينة، والتتلمذ على يد علمائها. وقد بلغوا بهما مراتب عالية في العلم مكنت بعضهم من تبوء مناصب مهمة في الحرمين المكي والنبوي: منهم عبد اللطيف بن أحمد باكثير قاضي قضاة الشافعية في مكة المكرمة (911 هـ)، ومحمد بن أبي بكر الشلي الذي تولى التدريس في الحرم المكي عام 1030هـ، وحسين بن محمد الحبشي الذي تولى الإفتاء للشافعية بمكة المكرمة (1258هـ)، وعمر أبو بكر باجنيد المستشار الديني للملك حسين بن علي الذي درس في الحرم المكي، ومحمد سعيد بابصيل الذي تولى الإفتاء للشافعية ومشيخة العلماء في مكة عام (1330هـ). وقد صدر مؤخراً كتاب بعنوان (علماء الحضارم في جدة) للشيخ علي بن سالم العميري المتوفَّى سنة 1373هـ .

وفي القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، مع نجاح النشاط التجاري للحضارم في جنوب شرق آسيا وإفريقيا، قام عدد منهم (وتحديدا الدواعنة) بإرسال أبنائهم للاستقرار في الحجاز، ليس لأنها أغنى أو أكثر تقدما من أرضهم، لكن بهدف فتح مؤسسات مالية بسيطة تقدم خدمات الصرافة والتحويل والتمويل للمسلمين الذين يأتون من جميع الأقطار الإسلامية إلى الحجاز لأداء مناسك الحج والعمرة. وقد اختار العثمانيون بعضا منهم – مثل باناجة - لإدارة الشؤون المالية لولاية الحجاز. و من بعدهم نهج الأشراف السلوك نفسه؛ ففي عهد الشريف عبد المطلب عـُيّن عبد الله بامصفر وزيرا للمالية، وفي عهد الشريف عبد الله بن عون تولى الوزارة عبد الله باناعمة، وفي عهد الملك حسين بن علي عام 1916م كان عبد الله باشا باناجة وزيرا للمالية .

وفي مطلع القرن العشرين استمرت هجرة الحضارم إلى جزر جنوب شرق آسيا وسواحل شرق إفريقيا. وفضّل جزء منهم السفر إلى أرض الحجاز، لاسيما من أبناء دوعن الذين كانوا يصطحبون (أو يرسلون) أولادهم الصغار للعمل لدى الأسر الموسرة في مكة والمدينة. ومن اللافت أن نجد بين هؤلاء الدواعنة الذين وصلوا الحجاز صغارا في بداية العشرينات من القرن الماضي (مثل عبد الله بلخير وأحمد بغلف ومحمد بن لادن وسالم بن محفوظ وأحمد وعبد الله أبناء سعيد بقشان) أبرز من نجح في الإسهام في خدمة التنمية في المملكة العربية السعودية وكذلك في خدمة أرض أجدادهم .

وفي تلك الفترة (مطلع القرن العشرين) كان على المهاجرين الدواعنة التكيف مع المعطيات الجديدة التي أفرزتها القواعد الدولية من حدود ونظم سياسية ومواطنة. وقد اختار كثير منهم ومن أولادهم الانصهار التام في المجتمع الحجازي، وتأكيد انتمائهم إلى أرض الحجاز التي احتضنتهم وأصبحوا جزءا من نسيجها الاجتماعي. ويبيّن تقرير نشرته الحكومة البريطانية عام 1930 أن عدد الحضارم بالحجاز بلغ خمسة آلاف شخص يعود أصل معظمهم إلى وادي دوعن، وقد اختاروا حمل الجنسية الحجازية. وبعد وصول جيش الملك الموحد عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود إلى الحجاز عام 1924، وإعلان توحيد الجزء الأكبر من مناطق الجزيرة العربية باسم المملكة العربية السعودية عام 1932، كان ذوو الأصول الحضرمية من أوائل أفراد المجتمع الحجازي الذين أعلنوا الولاء والطاعة لمؤسس المملكة. وفي الأيام الأولى من الحكم السعودي كان عدد منهم يدعون إلى مجلس الملك كمستشارين وأعضاء لجان، ومنهم من تقلد مناصب رسمية مهمة، مثل الأديب والإعلامي والسياسي الشيخ عبد الله عمر بلخير الذي يعد أحد الرجال القلائل الذين اعتمدت عليهم إدارة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود الذي كان يصطحبه في رحلاته المختلفة داخل المملكة وخارجها. وبما أن عبد الله بلخير يجيد اللغة الإنجليزية فقد عينه الملك عبد العزيز مترجما رسميا له. وفي أربعينيات القرن الماضي ترأس عبد الله بلخير ديوان الملك سعود بن عبدالعزيز. ولثقة الملك سعود به كلفه بإنشاء المديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر عام 1374هـ، وعينه أول وزير للإعلام في المملكة العربية السعودية. وقد استمرت أعداد المهاجرين الحضارم في السعودية في الارتفاع إذ أنها فاقت عام 1936 عشرة آلاف شخص أكثرهم في جدة ومكة المكرمة .

وكما أخلص الاندونيسيون والسنغافوريون ذوو الأصول الحضرمية لجاوة وسنغافورة وساهموا في تنميتها وتطويرها، أخلص الحجازيون ذوو الأصول الدوعنية الحضرمية لأرض الحجاز ثم للمملكة العربية السعودية، وشاركوا في تنميتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مع سكانها الآخرين وذلك قبل فترة طفرة النفط السعودية بمراحل كثيرة .

ومن أبرز الذين رفدوا الاقتصاد السعودي الشيخ سالم بن احمد بن الشيبة بن محفوظ الذي أسس أول مؤسسة مصرفية في المملكة: البنك الأهلي التجاري. وكذلك المعلم محمد بن لادن الذي أسس شركة بن لادن السعودية، والذي تشرفت بثقة الدولة السعودية التي كلفته بترميم وتوسيع الحرمين الشرفيين (الحرم المكي والحرم النبوي) والمشاعر ( عرفة – مزدلفة – منى). والشيخ أحمد سعيد بقشان الذي أسهم في تحديث الحياة الاقتصادية في المملكة، والشيخ محمد أبوبكر باخشب الذي أسس جامعة الملك عبد العزيز في جدة .

وهناك كثير من السعوديين ذوي الأصول الحضرمية الدوعنية الذي يعملون اليوم في سلك التربية والتعليم وفي القوات المسلحة والحرس الوطني السعودي. ولا شك أن ما قدمه ويقدمه السعوديون من ذوي الأصول الحضرمية في خدمة السعودية يفسر السياسات الاستيعابية المحفزة التي انتهجها النظام السعودي تجاههم والتي ساعدت على تنامي مكانتهم في المملكة، وكذلك ارتباطهم بعلاقات وثيقة مع رموز الأسرة الحاكمة .