فلسطين بين الوعد المشؤوم ومأساة القرن
بقلم/ إحسان الفقيه
نشر منذ: 5 سنوات و أسبوعين
الإثنين 04 نوفمبر-تشرين الثاني 2019 07:14 م
 

«إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل عظيم جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية».

رسالة عمرها 102 سنة، ليست مجرد أثر تاريخي يُعلي الزمن قيمته، إنما هي بداية أكبر مآسي العصر الحديث، ففي 2 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1917، بعث وزير خارجية بريطانيا جيمس بلفور، هذه الرسالة إلى أحد زعماء الصهيونية اللورد ليونيل والتر روتشيلد، تتضمن وعدًا بإقامة وطن لليهود على أرض فلسطين، فكان وعد من لا يملك، لمن لا يستحق.

وقبلها بعام، كان سايكس وبيكو يجتمعان لاقتسام إرث الدولة العثمانية وتوزيع المشرق العربي إلى مناطق نفوذ بريطانية وفرنسية، تركت على إثرها فلسطين بدون تحديد، تجهيزًا لإطلاق هذا الوعد لتكون فلسطين بيد العصابة الصهيونية عقب الاحتلال البريطاني للأراضي الفلسطينية بعد شهر واحد من الوعد المشؤوم، ثم إعلان الانتداب البريطاني عام 1920، تبعه إقرار عصبة الأمم الانتداب البريطاني على أساس وعد بلفور رسميا، ليصبح الطريق مفتوحًا أمام طوفان الهجرة اليهودية إلى فلسطين، بأعداد هائلة تحت مظلة الحماية البريطانية.

وبعد هذا التوافق الدولي على سرقة فلسطين – خاصة أمريكا وفرنسا وإيطاليا واليابان – عاثت العصابات الصهيونية في تلك الأرض فسادًا لخلق واقع جديد تحكمه القوة، في معزل تام عن تطبيق القوانين والأعراف الدولية، التي لم تتم صياغتها إلا بما يخدم القوى الاستعمارية. وبعد اكتمال مؤسسات الصهيونية السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية، التي جرى العمل عليها منذ ذلك وعد بلفور، كان الفصل الأكثر إثارة للسخرية في القضية، حين أعلنت بريطانيا إنهاء الانتداب على فلسطين 14 مايو/ أيار 1948، ليعلن بن غوريون في اليوم التالي قيام دولة إسرائيل.

وهكذا تلاقت المصالح الغربية الرامية إلى زرع كيان لقيط في المنطقة يمثل الشرطي الغربي، يفصل آسيا عن افريقيا، ويضعف القوى العربية، ويقسم الشرق الأوسط، ويحول دون بروز أي مشروع نهضوي للأمة، تلاقت تلك المصالح الغربية مع حلم أساطين الصهيونية العالمية في تكوين دولة لهم تجمع يهود العالم تحت مزاعم أرض الميعاد.

وفي الذكرى السنوية للوعد البريطاني، تستمر بريطانيا في الدفاع عن الوعد المشؤوم ورضاها به، حيث قالت كارين بيرس مندوبة بريطانيا الدائمة لدى الأمم المتحدة، خلال مؤتمر عقد بمقر الأمم المتحدة بمناسبة تولي أمريكا الرئاسة الدولية لأعمال مجلس الأمن، أن بلادها راضية عن الدور الذي قامت به لمساعدة إسرائيل على الوجود، في تحدٍ سافر للجرح العربي الإسلامي النازف على مرّ عقود، وبعد أن جلبت نشأة الكيان اللقيط الوبال على المنطقة بأسرها.

وبعد أن تسلمت الولايات المتحدة قيادة العالم، رعت الكيان الصهيوني المحتل، حتى سُميت دولة الاحتلال بطفل أمريكا المدلل، حيث بنت واشنطن سياستها في المنطقة على أساس الأمن القومي الإسرائيلي، فجاءت بوعد بلفور جديد (صفقة القرن) بهدف تصفية القضية الفلسطينية، كتتمة للوعد الأول واستكمال لآليات تنفيذه، فمع الدعم اللانهائي، الذي تقدمه الولايات المتحدة لحكومة الاحتلال، أعلن ترامب في أواخر 2017 القدس عاصمة لإسرائيل، ليحقق لها حلم عقود، يرافقه في هذا التآمر على فلسطين صهره جاريد كوشنر، رجل الأعمال اليهودي والمستشار الخاص له، وتم نقل السفارة الأمريكية إليها، ثم حذت حذوها بعض الدول الغربية بعد ذلك.

وبعد أن ولّى ترامب ظهره لحل الدولتين، عملت الولايات المتحدة على تفكيك منظمة الأونروا التي تقدم خدمات لخمسة ملايين لاجئ فلسطيني، بتقليص وقطع تمويلها، كما أغلقت مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وأعطت الضوء الأخضر لحكومة الاحتلال بضم مستوطنات في القدس الغربية.

ثم كانت هدية ترامب الأخرى في سياق المنح الأمريكية لإتمام صفقة القرن، فاعترفت بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان السورية المحتلة، واعتبارها حقا لدولة الاحتلال، لتؤكد على لانهائية الدعم الأمريكي لإسرائيل، في توسعها الجغرافي لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى.

كانت أبرز المشاريع الأمريكية التي استفادت منها إسرائيل، العولمة وخلق شرق أوسط جديد، يتم من خلاله محو الذاكرة التاريخية للأمة الإسلامية والعربية، فوجود السوق الشرق أوسطية يفتح الطريق إلى تغلغل الصهيونية في العالم العربي، من خلال قيم السوق، كما يرى المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري، وكان شيمعون بيريز يرى السلام يتم عن طريق التداخل الاقتصادي لا الاتفاقات الثنائية، فوجدت الأمة نفسها وجها لوجه أمام طوفان التطبيع، الذي سطح شأن القضية الفلسطينية، وصارت نبرات التنصل من التزاماتها تعلو خطابات وتصريحات النخب العربية.

ولنا أن نتساءل: أين العرب طيلة هذا القرن بين الوعد المشؤوم وصفقة القرن؟ وأين الأنظمة العربية من هذا التمدد والصلف الصهيوني، رغم انتهاء الاستعمار العسكري بشكل عام؟ النظام العالمي الجديد الذي تقوده أمريكا لا يرتكز على الغزو العسكري، بل على أمركة الشعوب ودفعها باتجاه النموذج الأمريكي، الذي ينتهي عنده تاريخ صراع الحضارات، وعن طريق فرض هذا النموذج تتم السيطرة على الموارد الطبيعية والبشرية، ومن أجل ذلك كان لابد لها من تجنيد الأنظمة لتنفيذ أجندتها فتخدم المصالح الغربية، على أساس أنها شريك للغرب في استغلال الشعوب ومواردها وثرواتها، ومن ثم لن تجد هناك قرارات عربية تسير عكس اتجاه الإرادة الأمريكية، وأقرب مثال حالي هو الموقف العربي من التدخل العسكري التركي في الشمال السوري، لمنع قيام دولة كردية تهدد الأمن القومي التركي، وإيجاد منطقة عازلة يتم فيها توطين السوريين المهجرين، إذ تروج له الأنظمة العربية على أنه احتلال، بينما كانت صماء بكماء حين تدخلت روسيا وإيران وميليشياتها الشيعية بصورة علنية في سوريا.

ومن أجل هذه الشراكة تُجيش الأنظمة العربية نخبها السياسية والثقافية والاقتصادية وأذرعها الإعلامية، من أجل طمس الشعور بالالتزام تجاه القضية الفلسطينية، التي تمثل مركز القضايا الإسلامية والعربية، ودفعت في غالب إجراءاتها وقراراتها السياسية باتجاه التطبيع، بل لا أكون مبالغة إن قلت وحماية الأمن القومي الإسرائيلي أيضا لصالح بقاء العروش.

وما يقوم به النظام المصري من مماطلة شعبه في حل أزمة سد النهضة، وحديثه الدائم عن الأمر الواقع، والبحث عن بدائل لمياه النيل، ما هي إلا خطوة على طريق مد دولة الاحتلال بماء النيل.

ينبغي عدم التعويل على الأنظمة والحكومات في التصدي لمخرجات وعد بلفور، وإجراءات إتمام صفقة القرن، بل يعول على الشعوب نفسها التي تملك أن تضغط على الحكومات لإجبارها على تغيير مسارها تجاه القضية الفلسطينية، ولعل ما قام به الشعب الأردني من ضغط على الحكومة في استعادة سفيرها من تل أبيب، بعد اعتقال حكومة الاحتلال لمواطنين أردنيين، مثال حي على ذلك، ما جعل صحيفة «معاريف» الصهيونية تحذر من الضغوط التي يمارسها الشارع الأردني على الحكومة لإلغاء صفقة الغاز مع إسرائيل. يضاف إلى هذا السبيل، دعم الحراك الفلسطيني في مسيرة العودة، وإبقاء جذوة الانتفاضة حية متقدة بكل الوسائل المتاحة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

كاتبة أردنية