|
الانطباع السائد لدينا كعرب، بل ومعظم اقراننا في العالم الثالث ايضا، ان اجهزة المخابرات الغربية، والامريكية منها بالذات، تعرف كل صغيرة وكبيرة في بلداننا، وتتحكم بكل خيوط اللعبة، لكن الواقع مخالف لذلك تماما، وهناك امثلة عديدة تؤكد هذا الاستنتاج سنذكرها لاحقا.
لا نجادل مطلقا في امتلاك الدول الغربية واجهزتها الامنية ادوات تكنولوجية تجسسية متقدمة جدا على صعيد جمع المعلومات، كما ان لها مراكز بحثية تضم عقولا اكاديمية كبيرة بمقاييس الشهادات والدرجات الجامعية العلمية، بل ان بعض الحكام والوزراء منضوون في هذه الأجهزة، ولكن ما نجادل فيه وبقوة، هو ان كل هذه الامكانيات فشلت فشلا ذريعا في فهم ما يجري في منطقتنا من تطورات على الارض، والسبب ان كل هذه المليارات التي تنفق على اجهزة البحث والتقصي هذه تنسى امرا واحدا واساسيا وهو ان الطبيعة النفسية والنوازع الدينية والوطنية لدى الانسان العربي اعقد من ان تفهمها او تحللها المختبرات الغربية.
المعلومات شيء، وتحليلها واستخلاص النتائج الصحيحة شيء آخر مختلف تماما، والمثال الأبرز في هذا الاطار هو المفاجآت التي تتلاحق الواحدة تلو الاخرى في مصر.
عشرات المنظمات غير الحكومية الممولة من جهات خارجية، تملك مقرات في مصر وتصدر دراسات وتقارير اسبوعية او شهرية حول تطورات الاوضاع في مصر، من خلال مراكز ابحاثها او ا Think Tank ب مثلما يطلق عليها، مدعومة بسفارة امريكية هي الأضخم في المنطقة، ومع ذلك لم يتوقعوا مطلقا حدوث ثورة تطيح بالرئيس حسني مبارك ونظامه.
الادارة الامريكية استثمرت حوالى 36 مليار دولار على مدى السنوات الثلاثين الماضية لتسليح الجيش المصري، مثلما استثمرت الكثير من الجهد والاتصالات لتوثيق العلاقات مع اركان المؤسسة العسكرية المصرية، ليأتي شخص من رحم الغيب اسمه الدكتور محمد مرسي ليقلب الطاولة على الجميع، ويزيل جميع الرؤوس الكبيرة والقيادية في هذه المؤسسة في دقائق معدودة، بمن في ذلك معلمهم الأكبر المشير حسين طنطاوي، والصديق الصدوق للولايات المتحدة الفريق اول سامي عنان رئيس اركان القوات المسلحة المصرية.
' ' '
الانطباع الذي كان سائدا في الاوساط الامريكية ان المشير طنطاوي هو الزعيم الحقيقي لمصر، وان الدكتور مرسي مجرد موظف صغير، او بالاحرى واجهة مدنية ديكورية، لا يستطيع، بل لا يجرؤ، على تجاوز المجلس الاعلى للقوات المسلحة، ليتبين ان الحقيقة مخالفة لذلك كليا، وان العكس هو الصحيح. فلا قوة تتقدم على قوة الشعب، ولا سلطة اعلى من سلطة صندوق الاقتراع.
إتفاقات كامب ديفيد كانت بقرة امريكية مقدسة، لا احد يجرؤ على الاقتراب منها، او الحديث عن تعديلها، رغم ما فيها من ملاحق أمنية مهينة لمصر،ومنقصة من سيادتها، ومذلة لشعبها، وها هي هذه الاتفاقات تترنح، وملاحقها تتآكل، الواحدة تلو الاخرى امام عودة الدبابات والطائرات المصرية الى سيناء دون التشاور مع 'الشريك' الاسرائيلي.
الإرادة الوطنية اقوى من كل الاتفاقات، خاصة تلك التي جرى فرضها على قيادات ضعيفة مستسلمة متخاذلة، هذه الإرادة هي الأقدر على كسر قيود الظلم والاستعباد، الواحد تلو الآخر، والدليل هو هذه القيادة الاسرائيلية المتعجرفة التي تستجدي مصر حاليا لسحب دباباتها وطائراتها من سيناء، ولا تجد مجيبا.
هذه الاستخبارات الغربية نفسها توقعت سقوط النظام السوري في ايام، وها هو يستمر لأكثر من 18 شهرا، وها هو الصراع يتحول الى صراع عسكري شرس، ضحاياه عشرات الآلاف من الابرياء، سواء الذين يستشهدون بالقصف والعربات المفخخة، او مئات الآلاف من الهاربين بأرواحهم الى مخيمات اللجوء المزرية في دول الجوار.
هل كانت هذه الاستخبارات تتوقع تدفق المئات، بل ربما الآلاف، من انصار الجماعات الاسلامية المتشددة الى سورية مثلا، لتقاتل النظام الدموي بأسلحة جرى شراؤها بأموال حلفاء امريكا، وبما يمكنهم من تغيير معادلة القوة على الارض، ليس في سورية فقط، بل ربما في المنطقة الشرق اوسطية بأسرها؟
بالأمس اصدرت الادارة الامريكية تحذيرا شديدا لرعاياها بعدم زيارة ليبيا الجديدة، خوفا من قتلهم او خطفهم، او الاثنين معا، بسبب انعدام الأمن واستفحال الجرائم، وازدياد سطوة الميليشيات المسلحة. هل توقعت مراكز البحث الوصول الى هذه النتيجة عندما اوصت بتدخل قوات الناتو عسكريا، ام انها فعلا كانت تريد انتشار الفوضى الأمنية في هذا البلد، وربما المنطقة بأسرها؟
' ' '
الإدارة الامريكية، ومعها جميع الدول الغربية، تفرض حصارا اقتصاديا وسياسيا شرسا على ايران، من المفترض ان يعزلها دوليا، ويجبرها على الركوع صاغرة تحت اقدام العم الامريكي طالبة الرأفة والصفح. اليوم تبدأ في العاصمة الايرانية طهران اعمال قمة دول عدم الانحياز بحضور وفود من مئة دولة، بينهم ثلاثون رئيسا، ثمانية منهم عرب، واثنان على الاقل من دول الخليج، ان لم يكن اكثر.
الرئيس مرسي الذي قالوا انه سيجبر على الركوع امام الرئيس الامريكي لأنه مضطر لإطعام تسعين مليون فم جائع في مصر، ها هو يتوجه الى الصين اولا، وليس الى واشنطن، ويعرج في طريق عودته على طهران، وليس على تل ابيب مفتاح المساعدات المالية الامريكية.
المنطقة العربية تتمرد على أشكال الهيمنة الامريكية كافة، لأن الشعوب بدأت تستعيد إرادتها، الواحدة تلو الاخرى، وهذه الخطوة تستعصي على فهم جميع مراكز الأبحاث وحواسيبها وخبرائها المزعومين.
امريكا لن تكون صديقا للشعوب العربـــــية مهما داهــــنت وحاولت تغيير جلدها، والادعاء بأنها رســـول الديمقــــراطية وحــــقوق الانسان، لأنها لا تريد الديمقراطية الحقيـــقية لهـــذه الشعوب، وانما تقــــديم ثرواتها رخيصة للغرب، وفروض الطاعة والولاء لاسرائيل، وهذا غير مقبول على الاطلاق.
المنطقة العربية تتغير.. ولكن امريكا والغرب لا يتغيران، ولهذا ستكسب منطقتنا، وسيخسر الحلف الغربي الامريكي في نهاية المطاف.
Twitter:@abdelbariatwan
في الأربعاء 29 أغسطس-آب 2012 05:16:41 م