تعالوا نحتكر الاسلام
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: 14 سنة و 4 أشهر و 29 يوماً
الجمعة 18 يونيو-حزيران 2010 07:39 م

يبلغ حماس البعض للإسلام وحبه لنصرته ، إلى الدعوة في بعض أو في كثير من الأحيان إلى الدعوة إلى احتكاره ، ولا يكاد يقبل قولا من الأقوال مالم يكن هذا القول ماركة مسجل عليها اسم هذا البلد أو المؤسسة أو الجامعة أو الشيخ أو المذهب ، ومن أبرز مظاهر وصور هذا الإحتكار لمعاني الإسلام واختزالها ، في تقديري ما يأتي :

1) احتكار الحديث عن الإسلام ، بدعوى أنه يشترط للحديث عنه أن يكون المتحدث عالما فقيها..!! بصرف النظر عن أي اعتبار آخر ، بلا تفريق بين الفتوى الشرعية التي يشترط فيها الفقه والعلم ، وبين نقل الفتيا ، التي يجوز أن يحملها كل أحد من الناس ، فما أن يقول أحد الصحفيين أو الإعلاميين أو السياسيين قال الله أو قال رسوله ، حتى تنبري بعض الأصوات المتعالمة لتفسيقه وتجهيله ، بزعم أنه ليس فقيها ولا عالما ، ولا بد عندهم أن تكون الفتيا صادرة من المجمع الكنسي وعليها سيماء أو ختم هذا البلد أو تلك الجامعة أو هاتيك المؤسسة أو المذهب أو الشيخ ، أو الحوزة ، ولعمري أي ظلم للإسلام والملة المحمدية ، حين يصمت الجميع عن هذا الفكر الكنسي المقيت الذي يمارس باسم الإسلام ، والإسلام منه براء !!.

أيها السادة : ليس يشترط عند أحد من المتقدمين أو المتأخرين ألا يحمل الفتيا إلا العالم المجتهد ، لأنّ نقل الفتيا جائز لكل أحد من الناس ، فهي أشبه ما تكون بتحمل الحديث الشريف ، فقد يحمل الحديث خباز أو طحان أو عجان أو حمال ، أو صحفي ، وقد لا يفقه منها شيئا ، كما يقع أيضا أن يحمل بعض حفاظ القرآن العظيم القرآن عن ظهر قلب ولا يعرف منه كلمة واحدة ، كما هو الشأن بالنسبة للأعاجم الذين يحفظون القرآن عن ظهر قلب ، وبعضهم لا يعرف كلمة عربية واحدة ، وفي الحديث \\\"رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه\\\" .

ومما نقل في هذا المقام عن الإمام الأعمش أنّ رجلا جاء يستفتيه في مسألة من المسائل ، فقال له اذهب إلى ذاك الشيخ الجالس في تلك الزاوية فاسأله ، يعني الحسن البصري ، فذهب إليه الرجل وسأله عن المسألة ، فقال الإمام الحسن البصري ، حدثني ذاك الرجل - وأشار إلى الإمام الأعمش - بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر الحديث ، ثم عاد الرجل إلى الأعمش ، فسأله الأعمش عن جواب الإمام الحسن البصري ، فقال له الرجل ، لقد أجابني الحسن البصري ، أنك حدثته بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر الحديث ، فقال الإمام الأعمش ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .

إنّ نقل الفتيا أمر جائز من كل أحد إلى كل أحد ، بشرط التثبت وصحة النقل ، وعدم الكذب أو التدليس ، فيجوز للعامي بإجماع أن يقول سمعت الإمام ابن باز أو الإمام القرضاوي يقول أو يفتي بكذا ، بلا غضاضة أو إشكال ، لأنه لا قائل بحرمة النقل أو عدم جوازه ، لأنه يعني توقف عجلة الحياة .

ومن هذا القبيل حديث الصحفيين والكتّاب ، وكل غيور على الإسلام ، حين يناقشون بعض القضايا التي يريدون تثبيتها للرأي العام أو تصحيح بعض المفاهيم أو تعليم الناس أمور دينهم ، فلهم نقْلُ بعض الآراء أو بعض الفتاوى عن أهل العلم، حيث لا قائل من العلماء المعتبرين أن هذا النقل حرام لا يجوز ، طالما وهو نقل صحيح خال من الزيادة أو النقصان ، وطالما وهو منقول بالنص لا بالمعنى ، سيما إن كان الناقل فاهما عارفا بما يقول ، وإنما المحظور على العامي الفتيا ، لأن الفتيا قول عن رب العالمين .

على أنه يفترض في كل مسلم أن يكون غيورا على دينه منافحا عنه ، ولا يجوز لأحد من الناس أن يتهم كل كاتب عن الإسلام اختلف مع هذا الرأي أو ذاك التوجه ، أن يُتهم بأنه ينقصه الغيرة على الإسلام أو ينقصه الولاء للملة ، ومن يطلق هذه التهم جزافا على أمة محمد هو المشكوك في ولائه للإسلام قبل غيره ، لأن الأصل في كل مسلم البراءة الأصلية ، وإن وقع شيء من الزلل فهو غالباً ما يقع بسبب الجهل ، أو سوء التقدير .

ومن هنا أوتي الفكر الخارجي ، حيث كفّر الخوارج كل مخالف لهم ، فيما مذهب أهل السنة والجماعة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله ، في سرده لضوابط تكفير المعين ، أنّ أهل السنة لا يكفرون من خالفهم ، فالحذر الحذر من هذا المنزلق الخطر ، يا طلبة العلم .

إن علينا أن نوسع من دائرة الإخاء وقبول المعاذير وسلامة الصدر ، قدر الإمكان وقدر المستطاع ، وأن نحمل المسلمين جميعا على حسن النية والسلامة ، وليس من الحرص في شيء أن نحاكم النوايا والأشخاص والهيئات والمؤسسات بمجرد مقال أو زلة قلم أو خطأ أو سوء ظن ، أو موقف أو موقفين ، أو شخص أو شخصين ، إلا اللهم من اشتهر تواتراً بالنفاق والخداع والولاء لغير المسلمين ومنابذة الإسلام ، وصار لا يُفرّق بين أقواله وأقوال أعداء الإسلام ، بمعنى أن يكون بوقا للآلة المعادية لهدي الإسلام وأوطان المسلمين ، فهذا الظالم لنفسه له أحكام أخرى ، بينتها الشريعة الغراء ، وأمره موكول إلى السلطات القضائية .

إن الذين يريدون حصر الفتيا في بلد أو مذهب أو جامعة أو طريقة أو حوزة أو شيخ أو مؤسسة أو فئة أو قبيلة أو نظام ، هؤلاء أرى أنه قد أصابهم ما أصابهم من أهل الكتاب ، وهم أشبه ما يكونون برجال الدين في أوربا الذين كانوا يخادعون جماهيرهم ، ويتسترون على باطلهم وضلالهم باسم الدين أو صكوك الغفران أو الإكليروس ، ونحو ذلك من التلبيسات التي لا يقبلها الإسلام .

أيها السادة إن علينا أن نثق في أمتنا بمختلف شرائحها ومؤسساتها ، سيما الأقلام الصحفية الحرة منها على وجه أخص ، وليس أدلّ على ما أقول من احتشاد جماهير اليمنيين في جنازتي الإعلاميين الأستاذين القديرين / محمد مسعد سماحة ويحي علاو، يرحمهما الله ، في حشود مهيبة ، تدل أن الأمة تختزن كثيرا من الخير والأمل ، وأن الإعلاميين ليسوا جميعا في خصام مع دينهم أو أمتهم أو أوطانهم ، كما يصوره بعض المتشددين أو المغالين ، بل كثير من الإعلاميين أحياء، فيما كثير من العلماء أموات في واقع الحال ، ببعدهم عن عصرهم وزمانهم ، وأحوال وأوضاع أمتهم ، ممن أثقلهم فقه الكبسة وشغلهم فقه التعدد .

2) إحتكار التدين ، وهذا مظهر آخر من مظاهر احتكار الإسلام ، بأن يقصر التدين والدفاع عن الإسلام في هيئة أو مؤسسة أو حزب أو جامعة أو جهة ، لأن التدين صفة عامة يشترك فيها كل المسلمين ، وكم من المتدينين والخيرين والصلحاء ممن تعج بهم الأمة ، إلا أنهم ليسوا من هذه الطائفة أو تلك ، وفي الأمة كثير من العلماء والعباقرة والخيرين والصلحاء ، ومن الجهل بمكان حصر وقصر التدين على جهة معينة .

إلا أن هذا التدين المنتشر في كل جوانب الأمة وربوعها يحتاج إلى قيادة رشيدة واعية صادقة مخلصة تحسن استثماره وتحسن توجيهه الوجهة الشرعية الصحيحة ، فيما يحقق للأمة الخير والنصر والتمكين .

وكم أثلج صدري حديث الإخوة رواد أسطول الحرية ، الذين تابعت لقاءاتهم عبر الفضائيات ، وحديثهم العاطر عن زملائهم في هذه القافلة التاريخية المباركة ، الذين كانوا يحيون الليل ركعا سجدا ، وأن الله تعالى اختار بعضهم إلى جواره .

إن التدين إذن لم يعد حالة في جماعة أو هيئة أو مؤسسة أو جامعة ، بل باتت ظاهرة التدين ظاهرة عالمية ، يجب أن نعترف بها ، ولا يجوز حصر التدين على بلد أو شعب أو حزب أو فئة ، بل في الأمة كثير من الغيارى والأحياء الذين تعج بهم الساحة الإسلامية ، بل والعالمية ، لا نعلمهم ، الله وملائكته وأولوا العلم يعلمهم.

والله تعالى من وراء القصد, والحمد لله رب العالمين,.