خطر عجز الدولة - اليمن نموذجاً
بقلم/ عمرو حمزاوي
نشر منذ: 15 سنة و 5 أشهر و 9 أيام
السبت 06 يونيو-حزيران 2009 10:12 م

لدينا في العالم العربي طائفتان من الدول، طائفة تضطلع بنجاح نسبي بوظائف الدولة الرئيسية المتمثلة في حماية الأمن وفرض حالة من الاستقرار تكفل التعايش السلمي بين المواطنين والتزام الحياد تجاه تنوعهم العرقي والديني والمذهبي والمناطقي، وطائفة أخرى تخفق بدرجات متفاوتة في القيام بهذه الوظائف وتتعرض بالتبعية لتحديات كبرى تطال شرعية وجودها وتماسك مؤسساتها. فعلى سبيل المثال تصنف دول كالمغرب وتونس ومصر والأردن والإمارات العربية، على ما يعتري أداءها من نواقص ترتبط في الأغلب الأعم إما بضعف المؤشرات التنموية أو بغياب الديموقراطية ومحدودية الحريات، في الطائفة الأولى. بينما تدلل الحالة الصومالية، وبها اختفت الدولة وتقطعت أوصالها وحلت محلها جماعات مسلحة تمارس العنف بلا توقف في الداخل وتصاعديا في المحيط الإقليمي على ما نراه من أفعال القراصنة الصوماليين في منطقة القرن الأفريقي، وكذلك الحالتان السودانية واليمنية، وفي كليهما بلغ الإخفاق في حماية الأمن والاستقرار في الآونة الأخيرة حدا مأسويا، على الخطورة القصوى لانهيار الدولة أو لعجزها عن الاضطلاع بوظائفها الرئيسية .

وواقع الأمر أن الخوف من سيناريو الدولة الفاشلة وتداعياته يهيمن اليوم بوضوح على المشهد المجتمعي والنقاش العام في اليمن. وللخوف هذا سياقات متعددة، بعضها يتعلق بمواجهات مسلحة وأعمال عنف متواترة والبعض الآخر بالتردي البين للمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية لغالبية السكان وبانسداد الأفق السياسي. فمن جهة، رتبت المواجهات المسلحة المتكررة منذ عام 2004 بين القوات الحكومية وحركة الحوثيين في محافظة صعدة الشمالية والنشاط الإرهابي المتنامي لتنظيم القاعدة، وكذلك الحراك المعارض في الجنوب والذي تحول جزئيا من تعبير عن مطالب اقتصادية واجتماعية لبعض الفئات المتضررة من الوحدة اليمنية - عسكريي اليمن الجنوبي السابق - إلى حالة انفصالية توظف العنف في مواجهتها مع الحكومة المركزية، رتبت مجتمعة تراجع قدرة الدولة اليمنية على ضمان الأمن وفرضت عليها توظيف إمكاناتها المحدودة تاريخيا لحماية ركيزتي وجودها الأساسيتين، الوحدة والسلم الأهلي. من جهة أخرى، استمر إخفاق الدولة إن في مواجهة ظاهرة الفساد التي استشرت في المؤسسات العامة (تحتل اليمن المركز 140 من بين 181 دولة يدرجها تنازليا مؤشر الفساد لمنظمة الشفافية العالمية) أو في تحسين الظروف المعيشية لمواطنين يعاني ما يقرب من نصفهم من الفقر وغياب خدمات المياه المستدامة وثلثهم من البطالة. بل تتناقص اليوم على وقع الأزمة الاقتصادية العالمية بما تعنيه من انخفاض في أسعار النفط وهو أهم الصادرات اليمنية عن معدلات الأعوام الماضية ومن محدودية في مساعدات التنمية الخارجية وتحويلات العمالة اليمنية في الخليج موارد الدولة بشدة على النحو الذي دفع الحكومة مؤخرا إلى الحد من الإنفاق العام بنسبة 50 في المئة .

وتواكب مع هذه التطورات السلبية على الأصعدة الأمنية والاقتصادية والاجتماعية تبلور لحظة استقطابية جديدة في العلاقة بين نظام الرئيس علي عبد الله صالح والمعارضة الرسمية الملتفة حول أحزاب اللقاء المشترك وأهمها التجمع اليمني للإصلاح والحزب الاشتراكي والناصريين. على النقيض من الفترة التي سبقت وتلت مباشرة انتخابات اليمن الرئاسية والمحلية عام 2006 والتي تميزت بانفتاح المشهد السياسي وبتفاؤل عام بقرب تطبيق إصلاحات دستورية جوهرية بعد توافق الحكم والمعارضة في حوار وطني ممتد على النظر في إمكانية تعديل النظام الانتخابي من النظام الفردي المعمول به إلى نظام القائمة النسبية أو نظام خليط بين النسبية والفردية لتوسيع قاعدة المشاركة السياسية، وكذلك التوجه نحو اعتماد اللامركزية على مستوى المحليات، يبدو مسار الإصلاح اليوم للمراقب متعرجا في أفضل التقييمات وساكنا في أسوئها. فشل أطراف المشهد السياسي في إنجاز تعديل النظام الانتخابي قبل الانتخابات التشريعية التي كانت مقررة للعام الحالي، بل أجلت الانتخابات لمدة عامين، وظلت خطط تطبيق اللامركزية المحلية حبيسة خزانة بيروقراطية الدولة دون تقدم حقيقي .

والحصيلة مواجهات خطابية مستمرة بين الحكم والمعارضة واتهامات متبادلة بتعريض الوحدة اليمنية والسلم الأهلي للخطر، يرفقها الحكم بممارسات سلطوية تتمثل في إغلاق بعض الصحف المستقلة والتحقيق مع صحافييها بإدعاء تهديد الوحدة وترفض على وقعها المعارضة العودة إلى الحوار الوطني وهو أداتها الوحيدة لفرض التغيير والإصلاح، عوضا عن العمل سويا ووفقا لأجندة توافقية ورؤية إستراتيجية على التعامل بجدية مع تحديات الأمن والاستقرار والتنمية التي تواجهها الدولة اليمنية .

تثير الأوضاع الراهنة في اليمن قلقا بالغا لدى الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بشؤونه، وفي مقدمها المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية. للدولتين، وبخلاف بعض القراءات الصحافية المفتقدة للمصداقية والمستدعية فقط لهواجس التاريخ ونظريات المؤامرة التي يروج لها نفر قليل في الداخل اليمني، مصلحة حقيقية في استقرار اليمن الموحد وتمكين دولته من حماية الأمن والسلم الأهلي. الرياض وواشنطن تخشيان من استمرار النشاط الإرهابي لتنظيم القاعدة في اليمن بما يمثله من تهديد إقليمي في ظل وجود التنظيم في منطقة القرن الأفريقي وكذلك من تصاعد النفس الانفصالي في حراك الجنوب على نحو ينذر بمواجهات عنيفة بين القوى الداعمة له والدولة تستنزف إمكانات الأخيرة المحدودة. بعبارة بديلة، ينظر لاحتمالية سيناريو الدولة اليمنية الفاشلة في المقاربة السعودية والأميركية على أنها مصدر لمخاطر جمة لا يملك الطرفان ترف تجاهلها أو السماح بتناميها. من هنا تسعى السعودية والولايات المتحدة إلى دعم اليمن اقتصاديا والتشديد أمنيا وسياسيا على هدف حماية الوحدة وهزيمة تنظيم القاعدة لإبعاد شبح فشل الدولة .

وفي ذات الاتجاه تذهب دول الاتحاد الأوروبي التي أصدرت في نهاية الشهر المنصرم تقريرا هاما عن اليمن بعنوان "دعم بناء الدولة" ضمنته مقترحات للإصلاح الاقتصادي ولترشيد الإنفاق العام ومكافحة الفساد بغية تحسين الأوضاع المعيشية للسكان وطالبت من خلاله الحكومة اليمنية بالعودة إلى مسار الإصلاح الدستوري والسياسي كسبيل رئيس لتخفيف حدة التوتر في الجنوب وتجاوز لحظة الاستقطاب الراهنة بين الحكم والمعارضة .

بيد أن قدرة الأطراف الإقليمية والدولية على الحيلولة دون تحول سيناريو الدولة الفاشلة إلى واقع أليم في اليمن تظل مشروطة بدور قوى الداخل ورجاحة ومسؤولية فعلها السياسي واختياراتها الإستراتيجية. الحكم والمعارضة الحزبية مطالبان اليوم بالتحرك السريع للتوافق على أجندة وطنية مفرداتها الإصلاح الاقتصادي والدستوري باتجاه تعديل النظام الانتخابي واعتماد اللامركزية المحلية والانفتاح على مطلبية حراك الجنوب في إطار الالتزام بدولة الوحدة لاحتواء النفس الانفصالي، ووضع هذه المفردات محل تنفيذ لا يسوف أو يؤجل. هنا مناط إنقاذ اليمن الحقيقي، فهل ينجح الحكم ومعه المعارضة في إنجازه على قتامة الصورة الراهنة؟

* أكاديمي مصري .

* صحيفة الحياة اللندنية