ثورة فبراير اليمنية ما لها وما عليها
بقلم/ نبيل البكيري
نشر منذ: 5 سنوات و 8 أشهر و 29 يوماً
الأحد 17 فبراير-شباط 2019 10:31 ص

الثورات، على مر التاريخ، هي محاولات للتغيير، تنجح أو تفشل، لكنها أفكار للتغيير لا تموت بمجرد فشل المحاولة الأولى، وإنما تصبح هذه المحاولة وقودا للثورة مجدّدا ودرسا مستفادا في المحاولات التالية للتغيير والنضال والثورة. وقد شهد تاريخ اليمن المعاصر محاولات تغيير ثورية عدة، لم يُكتب لمعظمها النجاح من اللحظة الأولى، فثورتا 1948 و1955، وقبلهما محاولات عديدة، كانت المقدمات لثورتي 26 سبتمبر/ أيلول في العام 1962 و14 أكتوبر/ تشرين الأول 1963، واللتين كانتا أيضا مقدمة لثورة 11 فبراير/ شباط في 2011 التي جاءت لتصحيح مسار تينك الثورتين بعد ما يقارب نصف قرن من قيامهما. 

مرّت علينا الذكرى الثامنة لثورة 11 فبراير 2011، وهناك جدل وجدل مضاد كثيران بشأن هذه الثورة وما تبقى منها بعد انقلاب 21 سبتمبر في 2014، الذي يرى بعضهم أنه لولا "11 فبراير" ما قام هذا الانقلاب أصلا، وينسى أصحاب هذا الطرح أن الحوثية ليست سوى رداء لفكرة الزيدية السياسية الهاشمية والموجودة منذ عقود، وكانت قبل هذه الثورة قد شنت ست حروب لإسقاط الجمهورية وإسقاط ثورة 26 سبتمبر. وهذه الجدلية طبيعية، ولا تخلو من بعض الصواب هنا والمغالطات وتضخيمها هناك، كطبيعة أي حدث في التاريخ وارتداداته السلبية والإيجابية، وليس منطقيا أن يتحقّق أي إجماع حول أي فكرة في التاريخ، فطبيعة الأفكار التغييرية أنها جدلية بالأساس، ينقسم حولها الناس بين فريقٍ يرى فيها منقذة له وفريقٍ آخر يراها سالبة لمصالحه وامتيازاته.
وبالعودة إلى محاولة 11 فبراير الثورية، ستبقى واحدةً من أعظم لحظات اليمنيين التاريخية، والتي شكّلت إجماعا وطنيا شعبيا جماهيريا، بمعزل عن انقسامات النخبة، لأول مرة في تاريخ اليمنيين، على أهمية التغيير وإنقاذ اليمن من مستنقع الفساد والسقوط والتوريث، بغض النظر عن نتائج هذه المحاولة، والتي لا يمكن القياس عليها لإثبات فشل "فبراير" أو نجاحها، لأن ارتدادات هذه الثورة لا تزال حاضرة، وتعتمل على الأرض حربا طاحنة بين مشروع فبراير والمشروع المضاد له، وإن كان الأخير ممثّلا بمشروع الإمامة الطائفي واحدا من أهم أدوات الثورة المضادة يمنيا.
ثورة 11 فبراير، كأي حدث ثوري، لا تخلو من الأخطاء غير المقصودة التي قادت البلاد وثورتها بعيدا عن الأهداف المرجوة من هذه الثورة الشعبية السلمية، التي حاولت تجنب العنف وعدم الوقوع فيه، في مجتمعٍ مفخّخ بالعنف والسلاح والصراعات التي انفجرت فجأة في وجه  "ثورة 11 فبراير ستبقى واحدةً من أعظم لحظات اليمنيين التاريخية، التي شكّلت إجماعاً وطنياً شعبياً جماهيرياً"الثوار، في لحظةٍ كانت المثالية والطهرانية الثورية سيدة الموقف بالنسبة لثوارٍ سلميين، خرجوا إلى الساحات والميادين، واعتصموا فيها شهورا طويلة، مطالبين بالتغيير السلمي. 
كانت الأخطاء واردة لجيلٍ وجد نفسه فجأة في قلب الأحداث غير المتوقعة، وهو جيل صحيح أجاد تفجير صاعق الثورة والهتاف بشعاراتها، لكنه بلا خبرة له بالسياسة وأدواتها وألاعيبها، فتم تكبيله ومصادرة حقه في إدارة فعله الثوري، منذ لحظة البداية، وزادت بعد ذلك الأخطاء والإرباكات في طريق الثوار الشباب الذين وجدوا أنفسهم فجأة خارج مسرح الأحداث، بعدما كانوا صنّاع الحدث وقادته.
أولى هذه الأخطاء عدم قدرة الشباب على تشكيل حامل ثوري لبرنامج الثورة وأهدافها، فرأينا كيف تكاثرت التكتلات الثورية وتناسلت مسمياتها في الساحات، ولكل تكتلٍ رؤاه التي ربما كانت تتفق في معظمها، لكن هذه التكتلات كانت بيئةً خصبةً لبذر الخلافات والتباينات في ما بينها، ومن ثم تعطيل قدرتها على العمل الثوري الجماعي والمنظم، ما ساعد في اختطاف قرار الثورة وتحويلها إلى مجرد ورقةٍ سياسية.
ثاني هذه الأخطاء تسليم شباب الثورة زمام الأمور للأحزاب السياسية التي التحقت بالثورة متأخرة، وصادرت إرادة الشباب، بذهابها إلى التفاوض مع النظام بشأن مصير الثورة. وهكذا تحولت المطالب الثورية إلى ورقة تفاوض سياسي، ما ساعد على تكبيل الثورة والثوار، وقبولهم بالخيارات المفروضة عليهم. ولم يكن من ضمنها أي خياراتٍ يتبنّاها الثوار، حتى في حدها الأدنى.
ثالث هذه الأخطاء غياب الوعي التاريخي لدى النخبة الثورية بالقضية الوطنية اليمنية، وأبعادها وصراعاتها وتعقيداتها ومحطاتها المختلفة، ما سهل عودة قوى الإمامة متسترةً تحت رداء ثورة فبراير التي أفرطت في تسامحها مع الجميع، فوقعت ضحية لإفراطها في التسامح مع قوى سياسية تعد نقيضا للإجماع الوطني اليمني، وعدوة له، ولا تؤمن مطلقا بالحداثة السياسية التي تعيشها أمم اليوم من جمهورية وديمقراطية وتعدّد فكري وثقافي، وتوجت كل ذلك بانقلاب 21 سبتمبر/ أيلول 2014.
رابع هذه الأخطاء عدم فهم الثوار موازين القوى الإقليمية والدولية بشكلٍ دقيق، والتحولات التي تعتمل من حولهم، ما دفع بهم بعيدا عن هذا الاتجاه الحاكم لمسار الأحداث وتعقيداتها، هذا المسار الأكثر خطورة حتى اللحظة، على سير الأحداث والحرب في اليمن، ما يعني أن الاستمرار في إغفال هذا الجانب يعني استمرار الأخطاء وتكرارها.
في المقابل، مثلما ما لثورة فبراير من أخطاء وسلبيات، فلها إيجابياتٌ لا يمكن تجاهلها وإغفالها في أي تقييم حقيقي لتداعياتها، أولاها أن هذه الثورة فتحت صندوق باندورا بكل شروره الحاكمة التي ظلت هي من يتحكّم باليمن، ويديرها بكل سوء هذه الشرور التي مثلت عقبةً أمام تقدّم اليمن، وخروجه من أزماته ومحنه على مدى نصف قرن، وفي مقدمتها تنظيم الهاشمية السياسية الذي ظل مثل فيروس قاتل داخل بنى الأنظمة الجمهورية المتعاقبة، مشكلة عائقا حقيقيا للتعافي السياسي عقودا. وبالتالي، خروج هذه الشرور من تحت الطاولة إلى فوقها سيساهم في الوقوف بجدّيةٍ لمعالجتها والقضاء عليها.
ثاني الإيجابيات أن "11 فبراير" حرّر الإرادة الشعبية للناس، وكسر قيودها، بعدما ظلت عقودا رهينةً لنخب سياسية غير أمينة وغير صادقة ولصوصية، كانت هي التي تقرّر نيابة عن الناس ومصالحهم. تحرير إرادة الناس وسحب الدفة والمقود السياسي من النخب إلى الشارع عملية ليست سهلة. ويمكن أن تتم بسهولة، من دون تضحياتٍ كبيرة، وهذا ما قامت به ثورة "الأحزاب السياسية التي التحقت بالثورة متأخرة صادرت إرادة الشباب، بذهابها إلى التفاوض مع النظام" فبراير اليوم، ولا يمكن تجاوز هذا الإنجاز الثقافي والفكري بعد اليوم.
ثالث إيجابيات الثورة اليمنية في فبراير/ شباط 2011 أنها عزّزت فكرة الأقاليم، وكسرت فكرة المركزية السياسية، جغرافية أو مذهبية، بعد اليوم، والتي ظلت مهيمنةً على اليمن عقودا طويلة، فمثلما ظن تحالف الانقلاب أن حربه التي شنها ستمنع فكرة الفيدرالية، فقد عزّزت الحرب الفكرة من حيث لا يشعرون، وعملت على تحصينها وتعزيزها بالقوة والسلاح أيضا، إذ أصبح اليوم لكل إقليم جيشه القادر على الدفاع عنه في إطار المشروع الوطني العام.
رابع الإيجابيات أن فكرة "11 فبراير" هي فكرة تغيير ثقافي ديمقراطي بالأساس، ما يحصّنها من الصنمية القاتلة للأفكار، فيما لو كانت فبراير قد تحوّلت إلى فكرة حاكمة، وبالتالي بقاؤها فكرة تغيير سلمي مدني، غير مرتهنة للأجندات المتصارعة، وشريطة هذا هو أن يستمر مسار فبراير بعيدا عن الصراعات والإستقطابات الإقليمية، عدا عن إمكانية انبثاق تيار سياسي وطني عريض خارج الحسابات الأيديولوجية للأحزاب المتصارعة والمرتهنة لأحقادها الماضوية.
ختاماً، يمكن القول إنه على الرغم من كل هذا الجدل، تبقى ثورة 11 فبراير لحظة تاريخية فارقة في حياة اليمنيين، يجب أن تخضع للنقد والمراجعة والتصحيح، والبناء عليها باعتبارها لحظة تغيير سلمي، ينبغي الانطلاق منها نحو الفضاء الوطني العام، وإعادة تنظيم حواملها السياسية، باعتبارها تيارا وطنيا حان وقت بروزه في الميدان، حتى لا تبقى فكرة فبراير فكرة يوتوبيا رومانسية حالمة، لا وجود لها على أرض الواقع، في ظل الصراعات المجنحة التي يمكن أن تستمر في استنزاف اليمن، وإبقائها رهينة صراعات طويلة المدى، قد تعمل على تجريف كل القيم السياسية التي تراكمت منذ ما بعد 26 سبتمبر/ أيلول 1962.
تحتاج ثورة فبراير اليمنية وقفة تقييم شجاعة وصادقة ومخلصة، والقفز بها من لحظة الشعارات إلى واقع العمل والبناء. ولا يتأتى ذلك إلا بالانطلاق من المشروعية إلى المشروع الذي يتطلب حاملا سياسيا وطنيا، يمتد على امتداد الجغرافيا، وبحجم الحلم والتحديات معا. ولا يتطلب ذلك كله سوى التخفف من لحظة الشعار والانغماس بواقع العمل والإنجاز، فهل تقوى قوى "فبراير" التي شتتتها صراعات اللحظة كثيرا على تحمّل هذا العبء الوطني الكبير الذي ولد معها، ويجب أن تكبر به ومعه، باستعادة الوطن وجمهوريته وشرعيته أولاً وأخيراً. ومن دون ذلك لن يكون فبراير سوى حلم منام عابر وقصير.