آخر الاخبار
من وعاظ السلاطين إلى وعاظ المحتلين/2
بقلم/ علي الكاش
نشر منذ: 16 سنة و 10 أشهر و 23 يوماً
الأحد 23 ديسمبر-كانون الأول 2007 11:57 ص

مأرب برس - خاص

في ثورة العشرين ألقى السيد كاظم اليزدي خطبة في الصحن الحيدري في كربلاء أستنهض فيها همم الناس ونخوتهم ومشاعرهم لدرء الغزاة الانكليز، وأعقبها بإصدار فتوى توجب الجهاد وأرسل ابنه محمدا رسولا لنشر الفتوى وتعبئته العشائر العراقية و رفع مستوى حماسها واندفاعه، وتتسابق الفتوى مع الريح فتهزمه وتصل إلى مدينة الكاظمية المقدسة لتتعالى أصوات الشيخين المهديين الحيدري والخالصي، وترتفع الدعوة إلى أعنان السماء وتحط على نخوة السيد محمد تقي الشيرازي فيرسل ابنه محمد رضا للمشاركة في حملات التطوع، ويخاطب الشيرازي الشعب العراقي بسنته وشيعته وبقية الطوائف يحثهم على التماسك بوجه المعتدين والدفاع عن استقلال العراق يبدأها " إلى إخواني العراقيين السلام عليكم.. وينهيها والسلام عليكم مذيلة بتوقيعه الكريم المتواضع" الأحقر محمد تقي الشيرازي" فتتحول كلمة أحقر إلى مرادفها الأعظم والأعطر والأنقى الأطهر، ويتلقفها أبو الحسن الأصفهاني فيصدر فتوى توجب الدفاع عن الإسلام ومحاربة الكافرين الانكليز ويمررها بقوة إلى الشيخ عبد الكريم الجزائري فيصدر فتوى لمساندة الجيش العراقي وشد أزره، وكذلك الشيخ محسن آل كاشف الغطاء وآخرين. وأن تقرأ هذه الفتاوى الجبارة يخيل إليك كأن العراق أمسى ساحة يتبارى فيها علماء الأمة بأجل وأبلغ مواعظهم وخطبهم كما تبارى أصحاب المعلقات السبعة وأن كانت المعلقات كتبت بماء الذهب فأن خطب العلماء الأجلاء كتبت بدماء الشهداء وهل هناك أثمن من هذه الدماء الزكية، وان كانت المعلقات قد علقت على الكعبة فأن هذه المواعظ علقت بجدران جنة تجرى من تحتها الأنهار. وان خلدت المعلقات فأن الفتوى خلدت أيضاً في تأريخ العراق الحديث كصفحات ناصعة تؤكد وحدة العراقيين بغض النظر عن قوميتهم وديانتهم وطوائفهم عندما يتعرض الوطن إلى العدوان، لقد أستمد العراقيون من علمائهم قدرات علمية ومواقف وطنية ثابتة ووحدة مشاعر وكرامة وكبرياء ما تزال عالقة في ذهن الجميع وكانت ردة الفعل لهذه المواقف أن ارتفعت أسهم وقيمة وقدسية ومكانة علماء الأمة.

من المسلم به أن الاستعمار واحد مهما تعددت إشكاله وأنواعه، وأساليبه القذرة واحدة رغم تفاوته، وأهدافه واحدة واضحة كوضوح الرؤيا في يوم مشمس لا تحتاج إلى شرح وتفصيل سيما للعربي الذي ذاق الأمرين منه، فالغز الانكليزي للعراق والغزو الأمريكي وجهان لعملة واحدة رغم التفاوت الزمني بينهم، وأن كان البعض ومنهم رجال الدين الحاليين قد انخدعوا بالشعارات البراقة التي رفعها المحتلون وذيولهم من العراقيين بعد غزو عام 2003، فأنه سرعان ما أنكشف سراب هذه الشعارات بعد فترة قصيرة من خلال الممارسات الوحشية التي قامت بها القوات الغازية، وإذا كان للسياسيين مبرراتهم الانتهازية لأن يتنكروا لهذه الحقائق الثابتة فليس من حق رجال الدين أن يتنكروا له، لأن الذي يحكمهم شرع السماء قبل شرع الأرض، وان الله سبحانه وتعالى ليس بغافل عما يفعلون في السر والجهر. ومن الغريب والمؤلم أن يفهم علماء الأمة حقيقة الاستعمار منذ ما يقارب القرن ولا يع علماء الأمة الحالية هذه الحقيقة رغم التجارب المرة التي عاشها العرب والمسلمين خلال القرن الماضي على أيدي الغزاة والطغاة والدروس المستنبطة منها.

فما الذي تغير إذن؟ إذا كان العدو واحد والاحتلال واحد وأساليبه وغاياته واحدة ومآسيه وويلاته واحدة وموقف الشرع منه ثابت وفريضة الجهاد مستحقة والويل كل الويل من الله لمن يرفضه، وهل يجرأ أحدا أن يرفض أو يعارض أمر الله؟ فلماذا تباين موقف رجال الدين إزاء الغزو البريطاني والغزو الأمريكي؟ وإذا كان للجهاد كما يدعي البعض شروطاً وواجبات ومظاهر محددة! نرد عليه وهل أخطأ علماء الأمة عندما أصدروا فتاوى الجهاد في ثورة العشرين؟ أم كانوا أقل علماً ومعرفة من علماء الحاضر؟ وهل كانت الشروط متوفرة آنذاك وغير متوفرة حالياً؟ وان كانت خسائر العراق في الأرواح والممتلكات آنذاك لم تصل إلى واحد من الألف من الخسائر الحالية، فكيف ولماذا صدرت فتاوى الجهاد سابقا وأوقفت حاليا؟ إذا كانت خسائرنا ما يقارب المليون شهيد عراقي منذ الغزو وأضعاف العدد من الجرحى والمعوقين، وتهجير أربعة ملايين عراقي بسب الغزو، وانتهاك حرمة بيوت الله وبيوت الناس، وقتل الأبرياء بلا ذنب وقصف البيوت الآهلة بالسكان واغتصاب العراقيات والأطفال ورجال الدين وإيقاظ الفتنة بين المسلمين وسرقة ممتلكات الشعب وثروته، واتهام الإسلام بالعنف والإرهاب والتطرف، وشن حملة صليبية ضد المسلمين كما عبر الرئيس بوش بغلطة لسان واستباحة بلد وتدير مؤسساته ومحاولة إخراجه من خريطة العالم على أيدي قوات الاحتلال، إذا كانت كل هذه المصائب وغيرها لا تستلزم ولا تحقق شروط الجهاد فما الذي يشترطه الجهاد بعد؟ أغيوثنا علماء الأمة أغاثكم الله؟ لنأخذ الدرس والعبرة من حادثة تاريخية يعرفها الجميع عندما استنجدت امرأة من عامورية بالخليفة المعتصم وأطلقت صرخة " وامعتصماه" فجاء صداها من الخليفة العباسي " لبيك"، فجيش الجيوش وسحق الروم في معركة سميت عامورية لا يزال مذاقها الشهد على لسان العرب والمسلمين، فهل خالف الخليفة المعتصم شرع الله وهل كانت شروط الجهاد غير متوفرة آنذاك؟

معذرة! معاذ الله إن يكون الغرض من كتاباتنا تشويه صورة رجال الدين والنيل من مكانتهم المقدسة، ولكن كما يحق لهم أن يفتوا لنا يحق لنا أن تتساءل ونستفسر، وكما يحق لهم أن يقدموا لنا الأفكار فأن من حقنا أن نقبلها أو نرفضه، سيما تلك الأفكار المثيرة للريبة والشكوك والمخاوف وكذلك تلك التي تسد المنافذ وتضع العراقيل أمام رحلة العقل إلى منابع الفكر والأيمان والعقيدة حيث تستجم بالحقيقة والرؤية الواضحة، فعلاقتنا مع رجال الدين أشبع بالعقد الاجتماعي، والعقد شريعة المتعاقدين فأن أخل طرف به انتهت صلاحيته. وليس القصد من المقال التعرض لعلماء الشيعة فأن فيهم رايات خفاقة تعلوا ولا يعلى عليه، إن مقصد الكلام علماء الأمة جميعاً ومن كافة الأديان والمذاهب وكل من نجس يده بمصافحة هذه القوات الغازية أو مدن لها يد العون بالعون أو السر، ولكن لعدم وجود مرجعية محددة للآخرين وخاصة السنة إضافة إلى موقف رجال الدين المعلن من قوات الاحتلال جعلهم يقفون على برً الأمان من هذه الموجة العاتية باستثناء القلة القليلة التي خانت الدين والدنيا من خلال المشاركة بالعملية السياسية الكسيحة، وأن كان البعض منهم حرض على الإرهاب كما اتهموا حقاً أو باطلاً فأننا ضد الإرهاب بكل صنوفه وأشكاله، رغم علم الجميع بأن أفضل طريقة لتشويه المقاومة البطلة هي لصق صفة الإرهاب به، وقد مارست الولايات المتحدة هذه الطريقة (فينكس) في فيتنام وكمبوديا كما هو معروف، ونؤكد بأن الإرهاب ليس له هوية أو دين أو قومية أو مذهب. فقتل المدنيين العراقيين سواء قام به الاحتلال أو قوى الظلام أو الميليشيات فهو يصنف كإرهاب.

أن باعث نقدنا لرجال الدين يأتي لعوامل عدة من أهمها:- أن لهم ثقلهم وقدسيتهم وتأثيرهم الكبير على مساحة واسعة من الجماهير وإمكانية تسيرهم بيسر وفقاً لأغراضهم الدينية والدنيوية. ولأن فتاويهم وسلوكياتهم وأفكارهم يفترض أن تستقى من ينابيع الإسلام الرئيسة وهي القرآن والسنة النبوية، وأن يسخرهم الدين لتحقيق أغراضه ولا يسخرون الدين لتحقيق أغراضهم، كما أن الولاء يفترض أن ينتقل من رجل الدين كرجل له طبيعة بشرية غير معصومة عن الخطأ والزلل ومعرض للميول و الأهواء والرغبات إلى أفكاره وسلوكه وعطائه الروحي كمقياس للالتفاف أو الانفضاض من حوله، وعندما يقف خليفة وصحابي أمام حشد من المسلمين يطالبهم بتصحيح أخطائه أن اخط، ويخاطبه الجمع المسلم بأنه لو اخطأ لقوموه بحد السيف فيحمد الله على هذه النعمة، فأنه ليس لمراجعنا مكانة أرفع من مكانة هذا الصحابي وبقية الصحابة وآل البيت رضوان الله عليهم، لهذا ننقد المراجع لغرض التوضيح وإزالة الالتباس ومعرفة الصحيح، فأن كان الخلل فينا وجب عليهم وفقاً للمنظور الإسلامي أن يصححوه لنا بيدهم أو لسانهم أو قلبهم وذلك أضعف الأيمان، وان كان الخلل فيهم فلننبهم عليه ونحذرهم من مغبته، ألم ينبه الصحابة الرسول (ص) بعدم جواز الصلاة على الأموات المنافقين والمرتدين والكفار حتى جاء الأمر الإلهي واضحا بهذا الشأن، فأن كان الرسول قبلها من أصحابه رضوان الله عليهم، فليس من المنطقي أن يرفضها المراجع، وإذا أدخلناها في مجال النصح فنصيحة المسلم واجب، وان أدخلت في جانب التساؤل من قبلنا وجب عليهم الردً.

لست متفقها بالدين ولكي لدي معرفة متواضعة في علوم القرآن الكريم ومنها الناسخ والمنسوخ، فعندما تنسخ الآيات فأن ورائها تقف مبررات كافية، فعلى سبيل المثال إن الآيات الكريمة التي تناولت تحريم الخمر جاءت على ثلاثة مراحل الأولى اعتبرته ذي مضار أكثر من المنافع، والثانية منعت السكارى من التقرب إلى الصلاة، والثالثة وصفته بأنه رجس من عمل الشيطان مما أستوجب اجتنابه، وقد تعامل القرآن الكريم بذكاء وهدوء مع تولع المسلمين بالخمر في العصر الجاهلي، والمراد من كلامنا أنه إذا كانت بعض الفتاوى التي أصدرها المراجع قد جاءت لظروف قاهرة وأسباب خاصة أو إستثنائية فأنه بإمكانهم أن يغيروها بالإلغاء أو التعديل دون أن يضطروا إلى تحمل وزر الاستمرار بها.

ولنعود قليلاً إلى الوراء ففي 22/9/2002 أصدر السيد السيستاني فتوى جاء نصها " من واجب المسلمين في هذا الظرف العصيب أن يوحدوا حكمتهم ويبذلوا كل ما في وسعهم للدفاع عن العراق العزيز وحمايته من مخططات الطامعين وإن على الجميع أن يعلم أن مأرب المعتدين في العراق إذا ما تحقق لا سامح الله سوف يؤدي إلى نكبة تهدد العالم الإسلامي بصورة عامة، وان تقديم أي نوع من أنواع العون والمساعدة للمعتدين يعد من كبائر الذنوب وعظائم المحرمات يتبعه الخزي والعار في الحياة الدنيا والعذاب الأليم في الدار الآخرة". كما أفتى آية الله العظمى محمد سعيد الحكيم الطبطبائي بتحريم التعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية ولعن كل من يهادن الأمريكيين". وتضم هذه الفتاوى المباركة الكثير من النقاط المهمة تستدعي الوقوف عندها وأهمها على الصعيد الداخلي المعرفة المطلقة بمخططات الطامعين والغرض من احتلال العراق وهو أمر يتجاوز مسألة إشاعة الديمقراطية والحريات الأساسية وتعزيز حقوق الإنسان، ومن المؤكد أن معنى الطامعين كما جاء في الفتوى يصب في رافد الطمع في ثروات هذه الأمة، والأمر الثاني يمثل بعد نظر رائع وهو العامل الخارجي لأن احتلال العراق من شأنه أن يؤدي إلى نكبة عربية وإسلامية وهذا ما تحقق فعل، والأمر الثالث هو طريقة التعامل مع هذه البراثن الدموية فقد أوصى سماحته بعدم تقديم أي نوع من أنواع التعاون والمساعدة للمعتدين، وهذا يعني المقاطعة السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية فكما هو معروف إن الاحتلال أعمى وهو يحتاج إلى عصا محلية ليتكأ عليها وأن حرمانه من هذه العصا من شأنه إيقاعه في مزالق ومطبات كثيرة وتعرقل تحقيق أغراضه وهذه نظرة ثاقبة في التعامل مع الأعداء من شأنها أن تحدد حركته ونشاط الطابور الخامس، ثم تنتقل الفتوى إلى دروس مستقاة من التأريخ وهي أن من يخالف هذه القواعد سيلحقه الخزي والعار في الحياة الدني، وهذه حقيقة ثابتة فالعار كالتركة يخلف من قبل الآباء إلى الأبناء والأحفاد، من ثم تعلن الفتوى بصراحة متناهية بأن معاونة المعتدين تدخل في نطاق الكبائر ونتيجتها العذاب الأليم في نار جهنم، والحل لا تبخله المرجعية فقد شخصت المرض وأعراضه وأثاره على المريض وانتقاله إلى الغير من ثم تحولت إلى العلاج وكانت ألراجيته صائبة 100% وهي توحيد الجهود في هذه الفترة الحرجة وبذل كل ما في الوسع للدفاع عن التراب المقدس وحماية الوطن والشعب. بعد هذا هل هناك من يجرأ على نقد المرجعية على هذه الفتوى الرائعة؟ معاذ الله ومن يفعل وكيف ولماذا؟ لقد رسمت المرجعية بقوة إشارة المرور للعراقيين نحو المقاومة وحولت إشارة الجهاد من الحمراء إلى خضراء، بمعنى أنها ألزمت الجهاد، أي أن شروطه قد توفرت، بمعنى انه إذا حدث ما وصفته "بلا سامح الله" فأن راية الجهاد قد استحقت أكثر من الأول، فليس من المنطق أن تقاوم اللصوص خارج بيتك وتقف متفرجاً عليهم وهم داخل بيتك؟ وليس ن المنطق أن تقاوم الشر وعظائم المحرمات خارج الحدود وتقبلها داخل الحدود؟وهل يجوز تحريم التعامل مع الولايات المتحدة في عقر دارها وتحليل التعامل معها في عقر دارك؟

لكن أليس من الأحرى تحري الأمر قبل كيل التهم جزافا؟ لنستمع إليه ليس من طرف خارجي أو معادي أو مخالف لتوجهات الحوزة وإنما من داخل الحوزة نفسها؟ من قبل مرجع ديني مهم وهو أبن مرجع ديني كبير وجاء إلى العراق أيضاً ممتطياً ظهر الدبابات الأمريكية وهو ليس من فصائل المجاهدين، يذكر عبد المجيد الخوئي بأن المرجع السيستاني سبق أن أصدر فتوى دعت العراقيين إلى عدم الوقوف في طريق قوات الاحتلال الأمريكي وتبعها بفتاوى تصب في مصلحة قوات الاحتلال منها الهروب من الجيش والشرطة وسمح بالتعاون مع قوات الاحتلال! أية كارثة فقهية حلت وكيف نفسر حالة الانفصام في هذه الفتاوى؟ وهل يجوز للمرجعية أن توقع إتباعها في وحل الالتباس والتناقض دون أن تبرر ذلك؟ إن الحوزة العلمية مؤسسة تاريخية مقدسة، وفي الوقت الذي تخترق حصونها المدرعة صواريخ الاتهامات الموجهة من كل حدب صوب، فإنها تعجز عن حماية نفسها من شرر شظاياها و والردً عليها. أليس من حق إتباع الحوزة والذين يدفعون خمس مواردهم لمراجعها العظمى أن يحصلوا على إجابات محددة تزيل عنهم هموم هذه الازدواجية العجيبة، وان تواجه الحوزة بشجاعة الانحراف في بوصلتها وتعيد سفينة البحار إلى مسارها الصحيح؟

تلقت الحوزة اتهامات في الصميم حول تعاونها مع الاحتلال وأذنابه دون أن تواجه الأسئلة المبطنة على الشر، وفي اعترافات المندوب السامي بول بريمر أكد تعاون آية الله العظمى السيد السيستاني مع قوات الاحتلال وتحدث عن(25) رسالة بينهما في السر وعبر الوسطاء، وهذا تأكيد لما ذكره الخوئي قبل أن يلقي حتفه على أيدي عناصر من نفس مذهبه! فكيف نعلل صمت الحوزة بعد أن تجاوزت مصطلح الحوزة الصامتة؟ أليس هذا اعترافا بصحة هذه الاتهامات وتتويجاً لمقولة الخوئي؟ إذا انطلقنا من القول الشائع " السكوت علامة الرضا" أو" أفحمه بالحقائق فلاذ بالصمت"؟ ألا يفسر هذا بعجز الحوزة عن توضيح الحقائق وكشف المستور ووضع النقاط على الحروف؟ علماً أن هذا الهجوم الموجه ضدها لا ينصب على المخالفين للنهج والعقيدة بل انه يضم عناصر من داخل الحوزة نفسها وفرسان كبار من المذهب نفسه؟ ألا يحق لجمهور الأتباع والمقلدين معرفة أسباب تحول الحوزة من قلعة مقدسة للصمود والتحدي إلى جدران كلسيه هشة لترويج الاحتلال والسكوت عن فضائحه؟ أليس البقاء للمؤسسة وليس لرموزها أو هكذا يفترض أن يكون الأمر؟ في رواية قرأتها أكثر من مرة أن رجالا مثلوا بيد يدي الرسول(ص) وسألوه عن علاج لآفة أثرت على زرعهم فنصحهم بأمر، ولما جربوه هلك زرعهم فرجعوا إلى الرسول ليخبروه فأجابهم (ص) " إنكم أدرى مني بشؤون دنياكم" إلا تصلح هذه الرواية للاقتداء بها من قبل مراجعنا الكرام؟

الخطأ سجية بالبشر وليس من العيب أن تخطا، لكن العيب كل العيب عندما لا تعترف بخطئك، أو تتهرب منه لأنه سيبقى مثل ظلك يتبعك حتى لا يفارقك، والأكثر عيباً عندما تصر على خطئك ولا تكترث بضحايا خطئك؟ وخطأ رجال الدين في فتاواهم يختلف عن بقية أخطاء البشر فهو مقبول شرعاً فهم ليس كغيرهم أنهم الأقرب إلى الله سبحانه وتعالى لذا خصهم بميزة كبيرة فأن أصابوا في اجتهادهم فلهم أجرين وأن أخطئوا لهم أجر واحد فعلام الخوف والتردد! ألا يكفي أجر واحد؟

نعاود النظر مرة أخرى إلى لوحة ثورة العشرين الجميلة بشخوصها الأبطال وبألوانها الرائعة وإطارها الوطني الذهبي ونستلهم منها دروسا وعبرا كبيرة، عندما تتضافر الجهود ويرسل أبناء المراجع العظمى أولادهم في كل أنحاء العراق ليحثوا العشائر بشيعتها وسنتها وبقية الأقليات للوقوف خلف راية الجهاد وتحرير العراق من دنس الاحتلال، وتزدحم منابر الخطباء في الجوامع والحسينيات والكنائس لتدعوا لنصرة المجاهدين وتتحول العتبات المقدسة إلى غرفة عمليات عسكرية فلا راحة بعد الآن وهل هناك راحة ومغتصب ثقيل في دارك يقتل وينهب ويغتصب ويفرق؟ وينتشر رجال الدين الغيارى بين صفوف الجماهير لتعبئتهم وإشعال جذوة حماسهم للجهاد وتنكسر الحواجز بين الجامع والحسينية فالهدير واحد والراية واحدة، ويندفع الحبوبي والحيدري والمئات غيرهم إلى المواقع الأمامية للقتال منافسين القادة العسكريين في وقفة تاريخية، ألا تهزك هذه اللوحة الفاتنة وتأخذ بلبك بعيدا ومن ثم ترجع إلى واقعك المزري فترى لوحة متهرئة باهتة بلا معنى فشتان بين الاثنين.

وحتى هذه اللوحة حاول الطغاة أن يمزقوها وهذا ما ردده الشيطان الأمريكي بريمر وانطلى على بعض المراجع والمثقفين عندما حذر الشيعة من مغبة مقاومة الاحتلال لأنهم خرجوا من مولد ثورة العشرين بلا حمص، والكل يعرف أن الشيعة كانت ممثلة وبشكل كبير في الحكومات السابقة ملكية كانت أو جمهورية وبقية مرافق الدولة وخاصة في الجيش والشرطة؟ والعبرة ليست في دين أو مذهب الحاكم وإنما في العطاء الذي يقدمه لشعبه ومستوى الرخاء والازدهار المتحقق، وان كان البعض يعتقد إن الشيعة ظلموا آنذاك فأنه ليس من حق أحد أن يطالب بمناصب لأموات لم يطالبوا بها وهم أحياء؟ وليس من حق أحد أن يطعن في أولئك الأبطال ليدعي أن فتاواهم ومواقفهم البطولية كانت لغرض الوصول إلى مزايا وامتيازات دنيوية. نقول لهم كفاية ما فعلتم بالأحياء فاتركوا الأموات بسلام ولا تنبشوا دفاتركم العتيقة فلا فائدة ترجى منها. وعلى سبيل الافتراض أن الشيعة قدموا أكثر مما أخذوا بعد ثورة العشرين أليس في ذلك تضحية وإيثار ووطنية وغيرة تحسب لهم؟ عندما قامت الثورة الفرنسية ورفض الثوار تسلم الحكم وسلموه لغيرهم، فأن رفضهم هذا هو الذي خلدهم وليس سواه.

الجانب المحير الآخر الذي لا يفهم ولا يبرر هو اعتكاف رجال الدين في صومعاتهم عندما يتعرض الوطن إلى مصيبة وأية مصيبة إنها الاحتلال، أليس لنا في رسول الله والصحابة وآل البيت أسوة حسنة؟ وهل حدثنا التأريخ عن انزوائهم عن أتباعهم؟ الم يكن الرسول(ص) في الخطوط الأمامية يحث أتباعه على الجهاد ضد الكفار في معركة أحد ويصاب بجرح عميق؟ وكذلك شأن الصحابة والخلفاء الراشدين وآل البيت رضوان الله عليهم جميعاً؟

الم يرسل الأمام علي(رض) ولديه الحسن والحسين(ع) سيدا شباب أهل الجنة في حملة عمر بن الخطاب(رض) لفتح بلاد فارس؟ ألم يكن الأمام الحسين(ع) على رأس الثوار؟ إذن فعلام الاعتكاف وأن قبل وقت السلم جدلاً فهل يقبل وقت الحرب؟ إن الانسحاب في المفهوم العسكري أما هزيمة أو إعادة تنظيم، وفي المفهوم الديني تهرب ولا مبالاة ولا نقول أكثر، ولا يمكن قبول يقبل الفكرة بأنه نوع الزهد والتعبد والحكمة، وإنما هوا لتهرب من المسئولية التاريخية والشرعية و الالتفاف على الفريضة السادسة وتجنب التأثير في موازين القوى والصراع، وهذا الانكفاء يحسب على الحوزة والمراجع و وليس لها أو لهم.

عندما يكون الاعتكاف عاماً يمكن أن نفهمه وهذا لا يعني أن نقبله، وعندما يكون ثابتا بلا استثناءات يمكن أن نقبله وهذا لا يعني أن نرتضيه، أما أن تفتح باب الاعتكاف أمام السياسيين ورؤساء الأحزاب ونماذج سافلة خبيرة بفن التسلق السياسي والانتهازية، وتوصد أمام العامة فهذا مثار عجبنا؟ القادة السياسيون من رئيس الجمهورية ورئيس حكومة الذل نزولاً أمسى المارثون إلى النجف رياضتهم المفضلة للحصول على مباركة المرجع لمشاريعهم السياسية والاقتصادية والاستنارة بتوجيهاته السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والفنية ( وليس الدينية)، وهم غالباً ما يرجعون وسلالهم ممتلئة بالتبريكات وعلامات الرضا؟ ولا نعرف صحة ومصداقية ذلك! ولم تتكفل الحوزة بنفي أو أثبات هذه العلامات؟ وبعد السقطات المتلاحقة التي وقعت فيها الحوزة والمراجع في شباك والأعيب السياسيين أبتداءا من مباركة الاحتلال والانتخابات الزائفة والدستور الهجين كان من الأحرى أن تغلق الحوزة أبوابها بقفلين أمام هذه الفئران بعد أن قرضت حرمتها وقداستها.

الحوزة العلمية لا تحتاج إلى تزكيتنا ولا إلى إطرائنا فهي اكبر من هذه التزكية والإطراء، إنها مؤسسة تاريخية كبيرة ومقدسة وهي بحق مدينة للعلم وتأريخ حضاري وإنساني كبير وعطاء كبير ومتواصل لا يخضع إلى خارطة أو حدود، ومن منطلق الحرص فأننا نرفض أن تتحول الحوزة إلى مؤسسة تجارية والمراجع إلى رأسماليين يديرون هذه الشركة ويروجون ماركتها التجارية عبر الوكلاء إلى الناس؟ بإمكان المرجع أن يعين ناطق مخول واحد للتحدث باسمه ولا يحق لغيره أن يتكلم باسمه ولا يخول غيره بهذا الحق، ووضع حد للمتاجرين بأسم المرجع والحوزة وإلغاء صفة جميع الوكلاء، مع ضرورة أن يكون للحوزة العلمية ناطق إعلامي لحل الإشكاليات وإزالة الغموض عن الكثير من القضايا الراهنة ومنها فك اللحيم المشوه مع قوات الاحتلال وحكومة الذل والميليشيات المسعورة ووضع حد للتصريحات النارية التي يلقيها السياسيون وإدعائهم بمباركة المراجع لها سيما تلك الفنية مثل الاستثمارات الأجنبية وتوزيع وإرادات النفط وغيرها التي يفترض أن يعالجها ذوي الاختصاص وليس رجال الدين، والبراءة من الخطب التحريضية التي يقوم بها بعض رجال الدين المدسوسين لإشعال الفتنه.

للحديث بقية إنشاء الله.. والله من وراء القصد.

*كاتب عراقي

أبو عبدالله بن الحسنالوطنية في قاموس الرئيس
أبو عبدالله بن الحسن
مشاهدة المزيد