المجرم والأعظم جرما
بقلم/ د: عبدالرحمن أحمد المختار
نشر منذ: 13 سنة و 6 أشهر و 6 أيام
الخميس 12 مايو 2011 05:07 م

ليس هناك من أفعال الإنسان المذمومة ما هو أعظم إثما ، وأقبح ذنبا ، وأثقل وزرا ، وأبشع وصفا ، وأشد عند الله مقتا ، وأغلظ عذابا من فعل القتل الذي يهتك عصمة الدم ، ويزهق الروح ، والذي يمثل اعتداء صارخا على تكريم الله جل وعلا للإنسان على سائر المخلوقات ، وقد اقتضى هذا التكريم التحذير الشديد من مقارفة فعل القتل إلا بالحق وإلا عُد ذلك الفعل في بشاعته قتلا للناس جميعا ، ولم يقف الخطاب الإلهي للإنسان عند حد التحذير من الاجتراء على اقتراف فعل القتل بل تجاوز ذلك لعلمه تعالى بالنفس البشرية ونوازعها الإجرامية تلك النفس التي لا يزجرها مجرد التحذير من قبح وبشاعة فعل القتل القائم على العدوان ناهيك عن الإفراط والإسراف في سفك الدماء دونما مبرر مشروع ولذلك ينتقل الخطاب الإلهي من التحذير إلى الوعيد وفي ذلك يقول تعالى " ومن قتل مؤمنا متعمدا فجزأه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه ، وأعد له عذابا أليما. كما حذر رسولنا الأكرم صلى الله عليه وعلى أله وسلم من المساس بحرمة النفس البشرية لعظمة مكانتها عند الله تعالى فذكر أن هدم الكعبة حجرا حجرا أهون عند الله تعالى من قتل النفس المحرمة .

وفي النظم الوضعية يعد الحق في الحياة اسمي الحقوق الإنسانية وأرفعها شأنا ، ولذلك تتبارى الدساتير وإعلانات ومواثيق حقوق الإنسان في السمو بهذا الحق ، وتكريس الضمانات الكفيلة بحمايته وعدم المساس به، وتسخر في سبيل تحقيق هذه الغاية كافة إمكانيات الدولة ، ولم يكن التشريع الدستوري والقانوني اليمني بعيدا عما تقرره تشريعات النظم الوضعية من الحماية لحق المواطن اليمني في الحياة ، ويزخر الدستور اليمني بالنصوص النظرية التي يستدل من خلالها على إلزام الدستور لسلطة الدولة العمل على تحقيق تلك الغاية وفي سبيلها تُنشئ الدولة القوات المسلحة والأمن وأية قوات أخرى والتي تعد وفقا للمادة (36) من الدستور ملكا للشعب كله.

وبالتأكيد فإن إنشاء هذه القوات واقتطاع المليارات من قوت الشعب لإنفاقها عليها ليس لمجرد اللهو أو العبث ، بل إن غاية ذلك عند من يدركها هي حماية حقوق وحريات المواطنين وعلى رأسها الحق في الحياة وكفالة الأمن والطمأنينة لهم ، وحمايتهم من كل خطر يمكن أن يشكل تهديدا لحياتهم أياً كان مصدر هذا الخطر ، وقد فصّلت نصوص قانون الجرائم والعقوبات النافذ القول فيما أجملته نصوص الدستور فحددت بشكل صريح وواضح العقوبات الرادعة في مواجهة من يمس حق المواطنين في الحياة سواء كان سلوك الجاني فعلا أو امتناعا ، والمقصود بالامتناع هنا هو السلوك الصادر من جانب من أوجب عليه القانون حماية حياة المواطنين ضد الأخطار التي يمكن أن تهددها.

ووفقا لقانون الجرائم والعقوبات يعد فاعلا من يحقق بسلوكه عناصر الجريمة ، وكما ذكرنا فالسلوك قد يكون فعلا إيجابيا صادرا من الجاني كما هو الحال بالنسبة لإطلاق النار أو الطعن أو الضرب أو غيره من الأفعال القاتلة ، وقد يكون السلوك القاتل فعلا سلبيا يتمثل في امتناع من أسند إليه القانون القيام بعمل يترتب عليه حماية حياة من أوجب عليه القانون حمايته وهو في هذه الحالة رجل الأمن الذي امتنع عن أداء واجبه في حماية حياة المتظاهرين وترك للمجرمين حرية الفتك بها ، وهذا السلوك السلبي يعد مُجرما قانونا ويوصف مرتكبه بأنه مجرم ، ولا فرق بينه وبين السلوك الصادر عن الفاعل المباشر ويأخذ حكمه .

ولكن من هو الأعظم جُرما من مرتكب السلوك الإجرامي - فعلا أو امتناعا - وما هو العقاب الذي يمكن أن يناله جزاء عظِم جرمه؟ لا شك أن هناك ممن يرتكب السلوك الإجرامي في صورتيه السلبية أو الايجابية وهو عبارة عن أداة لا إرادة لها تنفذ فقط إرادة مجرم جرمه أعظم وأشد خطرا من مجرد الفعل المباشر ، ولذلك نصت المادة (9) من قانون الجرائم والعقوبات على أن " يتوافر القصد الجنائي إذا ارتكب الجاني الفعل بإرادته ..." ونصت المادة(21) على أن "... يعتبر فاعلا بالواسطة من يحمل على ارتكاب الجريمة منفذا غير مسئول ..." والنص يتحدث هنا عن انتفاء المسؤولية الجنائية للشخص المستخدم في التنفيذ كما هو الحال بالنسبة للمعتوه أو الطفل أو المجنون أو من في حكمه ، باعتبار أن الجاني في هذه الحالة يمثل مجرد أداة لتنفيذ إرادة الجاني الحقيقي ، كما أفرد قانون الجرائم والعقوبات حكما خاصا بالمحرض على ارتكاب الجريمة حيث نصت المادة (22) من قانون الجرائم والعقوبات النافذ على أن " يعد محرضا من يغري الفاعل على ارتكاب جريمة.

ووصف المحرض على جريمة قتل المتظاهرين ينطق هنا على القائد العسكري الذي يأمر جنوده بالقتل ، والرئيس الإداري الذي يغري مرؤوسيه على القتل ، وخطيب الجامع الذي يسوغ ويؤصل لشرعية القتل ، والعالم الذي يفتي ويبرر القتل ، والإعلامي والكاتب الصحفي الذي يصور الجاني في موقف المدافع ويصور المجني عليه في موقف المعتدي خصوصا إذا ما عرفنا يقينا أن القانون لا يجيز القتل إلا في حالة الدفاع الشرعي التي يشترط فيها أن تكون في مواجهة خطر جسيم حال محدق لا سبيل لدفعه بوسيلة أخرى ، ويشترط التناسب أيضا بين فعل الدفاع والخطر المراد دفعه ، و لا يمكن هنا بحال من الأحوال تبرير أفعال القتل العبثية الموجهة ضد المتظاهرين ، الذين لا يشكلون خطرا جسيما وحالا يهدد حياة المعتدين فلا تناسب مطلقا بين من يسير في مظاهرة سلمية وبين من يستخدم السلاح الناري في القتل ، ولا تناسب أيضا حتى في حال فرضية استخدام المجني عليهم المتظاهرين للحجارة أو السلاح الأبيض أو العصي في مواجهة من يستخدم السلاح الناري.