تحية إلى "أمير الشعراء" و"شاعر العرب"!
بقلم/ دكتور/فيصل القاسم
نشر منذ: 17 سنة و 3 أشهر
الأربعاء 15 أغسطس-آب 2007 07:24 م

هل راحت السكرة وجاءت الفكرة؟ نرجو ذلك، فبعد أن أسرفت الفضائيات العربية في تزييف الوعي، وتسليع المشاهدة، وتقديم السخيف والسطحي والهابط من البرامج والمسابقات الشعبية الفنية والترفيهية، ومحاولة تغريب الذوق العربي، والإساءة إلى التراث، ها نحن نشهد الآن صحوة رائعة في بعض الفضائيات باتجاه الأسمى والأرقى في الثقافة العربية، فكما نجح برنامج "سوبر ستار" الشهير في إعادة الاعتبار للطرب العربي الأصيل، من خلال تشجيع التسابق والتنافس على تأدية الأغاني العربية الطربية المجيدة، وإحيائها، وإعادة الهيبة إليها بعدما كاد يأكلها الغبار على رفوف المكتبات الموسيقة المتهالكة، ها هو برنامج "أمير الشعراء" على قناة أبو ظبي، وبرنامج "شاعر العرب" على قناة المستقلة ينفضان الغبار عن فن العرب الأول، ألا وهو الشعر، بعدما كا يندثر أيضاً في الدواوين الصفراء، ويصبح في خبر كان.

كم هو جميل أن يتم الالتفات إلى الشعر العربي كموضوع لبرنامج تلفزيوني جماهيري! وكم هو رائع أن يُخصص جزء يسير من ميزانيات التلفزيونات العربية الضخمة للشعر والشعراء الذين تَفاخر بهما العرب على مر الزمان، كأروع ما أنتجته الثقافة العربية! فإذا كانت اللغة الانجليزية لغة التجارة، والفرنسية لغة الحب والرومانسية، والروسية لغة السياسة، والألمانية لغة الحرب، فإن اللغة العربية هي لغة الشعر بامتياز. لكن انحطاطنا العربي العام أساء لتلك اللغة ومنتجاتها الشعرية العظيمة كما أساء لحياتنا العربية بشكل عام، وجعل الشعر والشعراء كائنات تثير الشفقة، ولم يعد لها محل من الإعراب حتى في محل مفعول به، أو مجرور في حياتنا العربية البائسة، مع الاحترام لحروف الجر وأدوات النصب.

لم تسئ أمة لشعرها وشعرائها كما أساءت الأمة العربية في العقود الماضية، فبينما يحتفظ الانجليز في مكتباتهم المنزلية بمجلد الأعمال الكاملة لشاعرهم الأول شكسبير إلى جانب الكتاب المقدس، نجد أنه قلما تجد ديوان شعر في الكثير من المكتبات البيتية العربية، هذا إن وجدت المكتبات أصلاً. وكم كنت أشعر بحزن وأسى عميقين وأنا أنظر لكل من حاول أن يقرض شعراً في هذا الزمن العربي..! فحسب الشعراء الجدد هذه الأيام أن يمارسوا الشعر لإشباع رغبات شخصية لا أكثر ولا أقل، كما لو أن الشعر كفن جماهيري مهنة قديمة، يجب أن تنتهي برحيل نزار قباني ومحمود درويش وسميح القاسم بعد عمر طويل للاثنين طبعاً.

لكن كي لا نلوم فقط الوضع العربي العام على إهماله لأجمل ما في تراثنا الأدبي، يجب أن ننحي باللائمة على من يمكن أن نسميهم بـ"الموجة الشعرية الهابطة"، تماماً كما هو الحال مع الغناء الهابط الذي فـُرض على الإعلام العربي فرضاً، كما فُرض "الشعر" الأدونيسي على الساحة الأدبية العربية عنوة، لكن دون جدوى.

فكما جاء برنامج "سوبرستار" ليثبت أن الأصل هو الأبقى، كما نرى من خلال الإقبال العظيم من قبل الأجيال الصاعدة على تأدية الأغاني الطربية الأصيلة، فإن برنامجي "أمير الشعراء" و" شاعر العرب" أثبتا أن كل الذين حاولوا تعهير الشعر العربي تحت مزاعم "أدبية" واهية لا محل لهم في الذائقة ولا المخيال الشعبي العربي، حتى لو مولَتهم كل وكالات الاستخبارات العالمية، وحاولت بهم اختراق الذوق العربي الأصيل.

لنفترض أن المتسابقين في برنامجي أبو ظبي والمستقلة هم من نوعية الشعراء الذين يعنونون "دواوينهم" بـ "مجافاة السوط" أو "رعيان العزقة" أو "مرتقى الانقراص" أو الذين ينظمون أبياتاً على وزن "قامت شجرة، سقطت سمكة" لما نجح البرنامجان، ولما سمع بهما أحد، ولما انشدت إليهما الجماهير العربية بالملايين من المحيط إلى الخليج.

قد يقول البعض: إن العرب شعب يهوى الخطابة، ولا عجب في انجذابه للشعر التقليدي، وتعلقه بالمسابقات الشعرية التلفزيونية الجديدة. ونحن نتساءل: وما العيب في ذلك؟ هل نقولب لكم هذه الملايين العربية التي رضعت ذائقتها من المتنبي لتستلذ بالشعر "الحديث" الذي لا يحمل من العربية إلا اسمها؟. ولا أبالغ إذا شبهت الشعر "الطارئ" بغناء "الواوا" أو "الشخابيط" أو "الأوباح" "وبحبك ياحمار". ولا داعي للحط من قيمة هذا النوع من الغناء أو الشعر، فكلاهما عرف قيمته إعلامياً بعد ظهور برنامج "سوبرستار" و"أمير الشعراء" و"شاعر العرب". ناهيك عن أن أمسية شعرية واحدة لنزار قباني كانت تجتذب أكثر مما تجتذبه أمسيات "بني أدونيس" وشركاه على مدى ألفي عام. فالشعر للناس، وليس للجحور. ولا ضير أبداً في تسخير السموات المفتوحة لـ"شعبنة" الشعر وغيره من صنوف الأدب(نسبة إلى شعب وليس إلى "شعبولا")، وذلك كي لا تبقى العولمة الإعلامية مكباً للإسفاف والسفاسف.

لقد أثبت البرنامجان الشعريان الجديدان أن المشاهد العربي ليس سخيفاً ولا هابطاً ولا مسفـّاً، ولا من جماعة "الجمهور عاوز كده"، بل هو ضحية للمبرمجين في التلفزة العربية، فهو مستعد لأن يصعد إلى الأعلى لو صعد القائمون على التلفزيونات العربية. فقد استقطب برنامجا المستقلة وأبو ظبي اهتماماً شعبياً منقطع النظير، بالرغم من أنهما أدبيان بامتياز. وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أن الجمهور العربي جمهور ذوّاق، لو توافر للفضائيات العربية بعض الذوق والتذوّق، كما يدل على أن هذا الفضاء التلفزيوني لا يتسع للغث فقط، بل للسمين أيضاً.