يا حكام العرب… دفاعكم عن الرسول ليس تطرفا
بقلم/ إحسان الفقيه
نشر منذ: 4 سنوات و أسبوعين و 6 أيام
الإثنين 26 أكتوبر-تشرين الأول 2020 07:29 م
 

«إذا قمتم بعرض هذه المسرحية التي تقدح في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسوف أستخدم صلاحيات الخليفة التي أتمتع بها، وسأحرّض الهند وبلاد العرب وكل العالم الإسلامي ضدكم». يبدو أن كلمات «ندين» و»نشجب» و»نستنكر» لم تكن في قاموس السلطان العثماني عبد الحميد، الذي أرسل تلك الكلمات شديدة اللهجة بكل وضوح ودون مواربة، إلى حكومة فرنسا، عندما جرى الاستعداد لعرض مسرحي كتبه مارك دي بورنير يحمل عنوان «محمد» يتضمن الإساءة إلى نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم.

نجح السلطان بالفعل في وقف هذا العمل المسيء للرسول، بل سعى إلى ملاحقة هذه المسرحية، التي حرص صاحبها على عرضها في إنكلترا، لكن السلطان كان له بالمرصاد، وأرسل خطابا شديد اللهجة لحكومتها وتم منع عرضها. فعلها السلطان في حقبة ضعف شديد لدولته، وفي زمن كان الأوروبيون يطلقون عليها الرجل المريض، ولم يكن موقفه مبنيا على ضغط شعبي، أو مظاهرات عارمة ألجأته للتدخل، بل بمجرد أن تناهى إلى علمه هذا الحدث، سارع للتعامل معه انطلاقا من وضوح الهوية التي يتنكر لها معظم زعماء العالم الإسلامي اليوم.

من آنٍ لآخر تتم الإساءة إلى الرسول في دول غربية تدعي الديمقراطية، واحترام معتقدات الجماهير على اختلاف مشاربها، ثم سرعان ما تأكل صنم العجوة، وتتحدى مشاعر ملايين من الجاليات الإسلامية، والسكان المسلمين على أراضيها، يتبعه كالعادة رد فعل جماهيري غاضب في العالم الإسلامي بأسره، يقابله شجب واستنكار رسمي على استحياء من قبل الحكام، تحوّل مع مرور الوقت، وتغير الخريطة السياسية، وضعْف وزن الشعوب وتأثيرها إلى صمت مطبق. لكن هذا التطاول يزداد، ووصل إلى مرحلة خطرة، يعبر عنها الموقف الأخير للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي بدلا من أن يطفئ النار أذكاها، وحوّل الإساءة من أعمال فردية، أو نابعة عن صحف ومجلات، إلى موقف حكومي رسمي، حيث تبنى ماكرون الرسوم المسيئة للرسول، بدعوى حماية حرية الرأي، وهو الأمر الذي من المفترض أن يتحرك له حكام الأمة. يفترض أن يتحركوا من منطلق ديني، باعتبار أنها إساءة لنبي الإسلام، خير المرسلين وسيد ولد آدم، والرحمة المهداة، وحامل رسالة النور إلى العالمين. فإن لم يكن فمن منطلق سياسي، حيث أن الأمر يتعلق بالإساءة إلى زعيم مليارات البشر الذين امتلأت بهم المعمورة على مدى 14 قرنا، وليس رئيس دولة تعدادها خمسون أو مئة مليون، ومحصورة داخل حدودها الجغرافية، إضافة إلى أن التحرك، يعبّر عن إرادة أغلبيات مسلمة يتعلق الأمر بهويتها الثقافية التي ينبغي للقيادة السياسية الحفاظ عليها ومراعاتها، أو من منطلق أمني، حيث أن الإساءة إلى أعظم رمز للأمة الإسلامية يؤجج مشاعر المسلمين، ويفتح الطريق أمام ردود الفعل الغاضبة العنيفة. أفلا تستحق القضية من حكامنا إصدار بيانات شديدة اللهجة، تخاطب ماكرون وتطالبه بالكف عن الاستهزاء بمشاعر ملياري مسلم؟ ماذا لو أن حاكما عربيا أصبح مادة للسخرية في بلاد الغرب وعلقت رسوم مسيئة تتعلق به على واجهات المباني الرسمية وتم تداولها رسميا وبرعاية حكومية؟ ماذا سيكون موقف وسائل الإعلام في دولته؟ حينها سوف تتطور الأمور، وتصل إلى حد الأزمة، وينطلق الإعلام الموالي له في الصياح والصراخ، والمطالبة بمقاطعة منتجات الدولة المسيئة لجناب الرئيس، وربما وصل إلى حد المطالبة بسحب السفير منها.

هكذا الحال عندما يتعلق الأمر بملوك ورؤساء العرب، فيقال إن صدام حسين عندما عيّر حافظ الأسد قائلا: «أتحداك أن تذكر جدك الثالث» أراد حافظ الأسد الثأر لنفسه، فأوعز إلى الإذاعة والتلفزيون السوري ببث أغنية «يا صبحة هاتي الصينية» للفنان السوري موفق بهجت، فكانت تذاع يوميا بصورة متكررة، ذلك لأن والدة صدام كانت تسمى «صبحة» وكان يحظر تداول هذه الأغنية في العراق لهذا السبب، واشتعلت حربا صامتة بين الرئيسين، كل منهم حركه تقديس النسب والجذور. لمثل هذا يتحركون ويغضبون، أما أن تتعلق الإساءة بحق النبي الأعظم، فلا تجد إلا صمتا، وإن حدث وأراد بعضهم أن يندد بالإساءة، جعلها عن طريق المؤسسة الدينية الرسمية، أو وزير خارجيته، في خطاب باهت لا يسمن ولا يغني من جوع. من المؤسف أننا لم نجد رئيسا عربيا واحدًا يغضب لهذه الجريمة، ويراعي حق شعبه في الانتصار لنبيه، ولو أن كل حاكم أعلن استنكاره لهذا الأمر، وهدّد بقطع العلاقات مع فرنسا، أو أشار حتى إلى أن الإساءة تهدد المصالح بين البلدين، لما تجرأ ماكرون وغيره على الإساءة للنبي. أرى أن السبب في تقاعس حكامنا عن الدفاع الصريح عن جناب الرسول ضد هذه الإساءات المتكررة، هو خوفهم من أن يُتهموا ببناء سياساتهم الخارجية على أساس رؤية إسلامية، وهم بذلك يناقضون الدساتير التي تقر بأن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، وهو أمر طبيعي أن يكون للدولة هوية ثقافية تعبر عنها، لكن ماذا نقول عن الرغبة الجامحة في الفرار من أسلمة الدولة.

عام 1980 عقد الإسرائيليون ندوة في فلسطين المحتلة، حضرها رئيس الوزراء المصري حينذاك مصطفى خليل، ووزير الدولة للشؤون الخارجية بطرس غالي، وعدد من الأساتذة الإسرائيليين، فأراد خليل أن يطمئنهم فقال: «أطمئنكم أننا في مصر نفرق بين القومية والدين، ولا نقبل أن تكون قيادتنا السياسية مرتكزة إلى معتقداتنا الدينية». لكن قام الجانب الآخر بتلقينه درسًا قاسيًا في الهوية، فقال البروفيسور دافيد فيتال: «إننا في إسرائيل نرفض أن نقول: اليهودية مجرد دين، بل إننا نؤكد لكم أن اليهودية هي دين وشعب ووطن» وقال البروفيسور تفي يافوت: «أقول للدكتور مصطفى خليل إنه يكون على خطأ كبير إذا أصر على التفريق بين الدين والقومية، نحن نعتبر اليهودية ديننا وشعبنا ووطننا».

إن الدفاع عن المقدسات الإسلامية ليس تطرفا، وليس استعداءً للآخر، ولو أنه يُساء إلى بابا الفاتيكان في القنوات والصحف الرسمية، وأصبح ضمن خطاب يتبناه نظام أي دولة عربية أو مسلمة، ثم اتخذ حكام الدول الأوروبية موقفا حازما صارما، وصل إلى التهديد بقطع العلاقات، لكان هذا من حقهم، فكيف والأمر لدينا يتعلق بقدوتنا وإمامنا الأعظم صلى الله عليه وسلم؟ وإنه لمن المؤسف أن تسارع بعض الدول العربية لمقاطعة المنتجات التركية والقطرية، بدواع ومسوغات واهية، في حين أنها لم تحرك ساكنا أمام هجمات ماكرون على الإسلام. متى يعي الحكام أن الدفاع عن المقدسات ليس تطرفا، وليس تخندقا مع الإرهاب؟ متى يعي الحكام أن الدفاع عن المقدسات إن لم يكن مطلبا لهم فهو حقٌ لشعوبهم وعليهم رعايته والقيام به؟ ومتى يدرك حكامنا أن الحفاظ على العروش لا يكون بالتنكر للهوية؟ فإذا كان ماكرون يرى أن الدفاع عن الهوية العلمانية لبلاده، فهل يُلامون للدفاع عن هوية بلادهم الإسلامية؟

ومتى تنضم المقدسات الإسلامية إلى الخطوط الحمر، التي يطنطن حولها الزعماء ليلا ونهارا؟ والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

*كاتبة أردنية