خرافات كُورونية
بقلم/ إحسان الفقيه
نشر منذ: 4 سنوات و 7 أشهر و 17 يوماً
الإثنين 30 مارس - آذار 2020 07:46 م
 

في كتابه «البدء والتاريخ»، يحدثنا المقدسي عن قومٍ أسارى شحن الصدور بترهات الأباطيل، فوصفهم بقوله: «الحديث لهم عن جملٍ طار، أشهى إليهم من الحديث عن جملٍ سار»، ثم يعقّب على ذلك بأنه سبب حرمان العلم وتهجين أهله، وفوْت الحظ، واستحقاق الخذلان، وجحد البرهان.

هو طرف من انحياز الوعي إلى الخرافة، كلما حمل سياق الأحداث أزمة معضلة، أو كارثة غامضة، فيلجأ العقل إلى الفرار من المواجهة، بربط المشكلة بالغيبيات، ولو لم يكن له سند من الوحي الإلهي، وهذا تحديدًا ما ظهر مؤخرًا، مصاحبًا لانتشار وباء فيروس كورونا، الذي أربك العالم وحبسه في الهلع والخوف.

تطايرت على مواقع التواصل الاجتماعي معلومات عن كتاب بعنوان «أخبار الزمان» منسوب لرجل يدعى إبراهيم بن سالوقيه متوفى عام 463 هـ، تنبأ فيه بفيروس كورونا، وجاء في الصفحة المصورة من الكتاب المزعوم ما نصّه: «حتى إذا تساوى الرقمان (20=20)، وتفشى مرض الزمان، منع الحجيج واختفى الضجيج، واجتاح الجراد وتعب العباد، ومات ملك الروم من مرضه الزؤوم.. وكسدت الأسواق وارتفعت الأثمان، فارتقبوا شهر مارس يهد الأساس، يموت ثلث الناس، ويشيب الطفل منه الراس». ومع الأسف تفاعل كثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع المنشور، في جهلٍ بيّن بعقيدتهم، التي مِن أُسِسِها الإيمان بأن الغيب مردّه إلى الخالق تعالى، ولا سبيل إليه إلا بوحي.

والغريب أن المنشور لاقى رواجًا، رغم ما تضمنه من مغالطات سافرة، يدركها أبسط الناس، فمنها أن المسلمين لم يكونوا في تلك الفترة يستخدمون التقويم الميلادي، إضافة إلى عدم اتساق العبارات على غير عادة العرب قديمًا.

 أما الباحثون والمدققون، فقد خلصوا إلى الحقائق التالية:

أولًا: ليس هناك شخص يدعى إبراهيم بن سالوقيه.

ثانيًا: كتاب «أخبار الزمان» هو للمسعودي المتوفى سنة 346 هـ.

ثالثًا: كتاب المسعودي خالٍ تمامًا من الحديث عن مثل هذه الأمور.

وذلك يعني أنه محض افتراء، قام به راغبو شهرة، بعدما أتوا باسم كتاب بهذا العنوان، ووضعوا مكان المؤلف اسمًا وهميًا، وأقحموا فيه هذا الهراء.

وسائل التواصل الاجتماعي التي صارت منصّة لبث الإشاعات، وإملاءات الأهواء والنزعة العبثية، في إقحام القرآن في كل مناسبة، طالعتنا منذ أيام بمنشور متداول، يزعم أن فيروس كورونا قد ذكر في سورة المدثر، بالقرآن الكريم، باسمه ومكان ظهوره وأسبابه، بل وطرق التعامل معه والوقاية منه، ولما بحثتُ في أصل المنشور، وجدته في أحد المواقع منسوبا لمن يُقال إنها أستاذة الميكروبيولوجي ونائبة رئيس جامعة حلوان في مصر، وجاء في المقال المنسوب إليها، أن فيروس كورونا كوفيد 19 مذكور في الآية باسم الناقور (فإذا نقر في الناقور) وأن التسمية الشرعية له (Na-co-ro Virus)، وأما العدد 19 فمذكور – وفق هذه المزاعم ـ في الآية «عليها تسعة عشر»، واستدلوا على مكان ظهوره في الصين بالآيتين: «ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا» في إشارة إلى تزايد سكان عدد الصين وصعود اقتصادها، وأن سبب ظهوره مذكور في الآيات من السورة نفسها: «لم نك من المصلين ولم نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين».

كما ذكر المنشور أن سبل التعامل معه تتمثل في قوله تعالى «قم فأنذر» أي التوعية والإنذار بخطر الفيروس، والتكبير «وربك فكبر»، والتطهير «وثيابك فطهر»، وتجنب المخالطة «والرجز فاهجر»، وتفادي الجشع والتحذير من التكالب على تخزين الطعام «ولا تمنن تستكثر»، والصبر «ولربك فاصبر».

هل وصل بنا الجهل إلى هذه الدرجة؟ نلوي أعناق النص القرآني ونفسره على غير النحو الواضح في سياقه، فضلا عن تفسيره الوارد عن الصحابة؟ وهل يحتاج القرآن لإثبات إعجازه حتى نأتي بهذا الهراء؟ وإذا انتقلنا إلى الطائفة الشيعية في العراق مثلًا، وفي ظل الإجراءات التي تتخذها الدولة، يخرج أحد رموز الطائفة ليقترح رفع رايات تحمل صور أئمة الشيعة فوق المستشفيات، حتى لا يصاب الناس بالمرض، ويوصي آخر بالتجمع في المزارات والمراقد لأنها ستحميهم. هذه الخرافات التي يبرأ منها الإسلام، هي بغية أعداء النص الإسلامي، الذين يرومون سقطات أتباعه، حتى يطنطنوا حولها ويدقوا الطبول عليها، ويتهمون الدين بأنه سبب التخلف والرجعية، ومن يقوم على هذه الخرافات يصد الناس عن التعرف إلى هذا الدين، ويؤدي لأن يأخذ غيرنا فكرته عن الإسلام من خلال الخرافة، في الوقت الذي يعاني فيه المسلمون من اتهام دينهم بأنه مسؤول عن قلة إرهابية مارقة عن تعاليم الدين السمح. ومن أطرف ما قرأته من تعليقات حول هذا الهراء: لو عاصرتم ابن الجوزي لأدرجكم في كتابه «أخبار الحمقى والمغفلين».

حري بنا أن ننتقد أنفسنا في ذلك ونصحح مسارنا في التصورات والأفكار والمفاهيم وفق تعاليم الدين الصحيحة، بدلًا من أن نصير عرضة للتهكم والتشكيك في ديننا، الذي يُعلي من قيمة العقل ويبني قواعد التفكير السليم. ومن الخطأ الجسيم، الاعتقاد بأن الخرافات المصاحبة للأزمات والكوارث محصورة في العالم الإسلامي، بل هي آفة جميع الأمم والدول والمجتمعات، ففي كوريا الجنوبية، اكتشف المسؤولون تورط إحدى الكنائس في نشر الفيروس بين المواطنين والمساعدة في تفشيه بشكل كبير، لإيمانهم بوجود رابط ديني بين الفيروس وعقيدتهم، حيث اعتبر مؤسس الكنيسة لي مان هي 88 عامًا، أن المرض عمل من الشيطان، واختبار للإيمان يهدف إلى إيقاف نمو كنيسته «شينتشونجي»، وبناء على ذلك تفشى المرض بين رواد الكنيسة بكثرة المخالطين، الذين انتشروا في البلاد، وتسببوا في تفشي الفيروس، ويذكر أن لي مان هي، الذي يدعي أنه يجسد المجيء الثاني للمسيح، وأنه يصطحب معه 144 ألف شخص إلى الجنة، قد أعلن اعتذاره عما تسبب فيه هو وطائفته.

كما انتشر الحديث عن وقوع فيروس كورونا في دائرة تنبؤات المنجم الفرنسي «نوستراداموس» الذي ألف كتابا يضم ألف نبوءة بشأن مصير العالم، وتم استغلالها سياسيًا وعلميًا، كلما وقعت حادثة أو كارثة فريدة، وذكروا أن النبوءة 54 تضمنت الإشارة إلى تفشي وباء قاتل، وتم الربط بين كلامه وانتشار فيروس كورونا، لكنّ منشورًا في إذاعة كندا الدولية، أظهر أن الكلام المنشور لا يوجد في كتاب العراف الفرنسي على الإطلاق. يشار إلى أن ما كتبه نوستراداموس عبارة عن رباعيات، لا تعدو أن تكون نصوصًا عامة تصلح للإسقاط في أكثر من موطن، فمنها نبوءة عادت للأضواء بعد فوز ترامب، تقول: «سيصبح عظيمًا يومًا ما، الوقح الجريء»، فاستدلوا بفوز ترامب على صدق النبوءة، مع أنها عبارة عامة تصلح لأن تقع على شخصيات عديدة.

وقد قرأت كلاما منسوبًا للدكتور مصطفى محمود يتحدث بصيغة (ماذا لو) عن انتشار فيروس قاتل في العالم، وإغلاق الدول حدودها وانعزالها خوفا من الموت، وانقسام الدول إلى فئة تمتلك أدوات المعرفة، تعمل ليلا ونهارا على اكتشاف العلاج، وفئة أخرى تنتظر مصيرها المحتوم، ولكن تم التحقق من أن كاتبه هو الدكتور عايد العجمي منذ أسبوعين او ثلاثة أسابيع، وفي كل الأحوال لو نسبنا هذه العبارات لرجل دين أو مُنجّم، لتعامل معه الناس على أنه نبوءة.

في «قصة الحضارة» يتحدث ديورانت عن جماعات «الفلاجان»، التي سار أتباعها عراة في القرن الثالث عشر، يضربون أنفسهم، ويعظون بيوم الحساب ويدعون إلى ذبح اليهود، ويعزو تعلقهم بالخرافة إلى ضعف العقيدة، وهذا صحيح، فالديانات السماوية المنزلة بالحق لم تتضمن الخرافات والخزعبلات، وما طرأ عليها إنما هو عمل بشري.

ولئن صاحب انتشار فيروس كورونا نشوء خرافات تتعلق بالدين، فلم يكن أهل السياسة بمعزل عن تلك الخرافات، حيث دخل الوباء على خط الخصومة السياسية، فرأينا من يتهم تركيا وقطر بأنهما مسؤولتان عن نشر الفيروس، وبعضهم يتهم جماعات الإسلام السياسي بذلك، وتبقى هذه الخرافات أو تلك محض أمنيات عند خصم، ومجرد أوهام عند آخرين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

*كاتبة أردنية