حالة الاستخفاف في لاوعي المثقف
بقلم/ نشوان محمد العثماني
نشر منذ: 15 سنة و 3 أشهر و يوم واحد
الأحد 16 أغسطس-آب 2009 09:51 م

كان الصباح مشحونا. السماء تزمجر دون سحاب.. ولجت "صعدة" حربها السادسة , وولجت فندق سبأ لحضور ندوة "نظام القائمة النسبية" المقامة من قبل مؤسسة فريدرش إيبرت الألمانية, ومنتدى التنمية السياسية اليمني..

كانت الندوة قد جمعت ممثلي أكبر قطبين حزبيين في اليمن "محمد قحطان عن التجمع اليمني للإصلاح المعارض, وعبد الله غانم عن المؤتمر الشعبي العام الحاكم".. وقُدِّمت فيها ورقة واحدة حول موضوع الندوة "الشائك سياسيا" كان صاحبها محمد قحطان- الرئيس السابق للدائرة السياسية في حزب الإصلاح, وعضو الهيئة العليا للقاء المشترك حاليا.

وأنا أستمع, والندوة في مستهل افتتاحها, إذا بالأستاذ علي سيف حسن- رئيس منتدى التنمية السياسية, يبين إلى أن الورقة التي ستقدم للنقاش كانت قد كُتبت على عجل في ظرف ليلة واحدة, وأنها, أي الورقة, قدمت لهم في الثامنة من صباح يوم انعقاد الندوة -13أغسطس"آب"2009م- لكنهم طبعوها على عجل, وليحمد اللهَ محمد قحطان -والكلام لـ"حسن"- أنها طبعت بهذه السرعة حتى إنَّا –نحن الحاضرون- تسلمنا الورقة دون اسم صاحبها, وفي نفس الوقت دون عنوان.

أردت من خلال هذه الديباجة أن أنقل صورة حسية, لحالة الاستخفاف التي أصبحت موضة مخزونة في لاوعي الأغلبية, وعلى ما يبدو, في لاوعي نخبنا المثقفة.

فأن يكون موضوع جدلي بهذه الأهمية, وفي ظروف بالغة التعقيد, نمر بها جميعا, كانت كل اعتقاداتي تذهب إلى أن مزيدا من الجهد سيذل في سبيل المناقشة الجادة, والعميقة, للخروج بقيمة نرى أنها ستضيف درجة لسلم الحلول المنهار.. إلا أن شيئا من هذا لم يحدث, وحدث أن الواقع يتراءى أمامنا على نحو يجعل الكابوس حقيقة, وربما يبشر بأن منحدر المجهول طريق يصعب على مركبتنا شق بديل عنها, بنفس ما يصعب على قائد هذه المركبة أن يتحكم بكابحها.

من قدم ورقة نقاش في الندوة "محمد قحطان" ومن عقّب "عبد الله غانم- رئيس سياسية الحزب الحاكم" إضافة إلى من تحدث أيضا "محمد جسار- رئيس إعلامية وفكرية الرابطة" كل هؤلاء وغيرهم ممن شاركوا فيما سمي بـ"الحوار المعرفي" في الندوة, أعرف أنني أقدرهم واحترمهم, أو على الأقل لا يمكن أن أقدح في أي من أحدهم, لكنني متأسف مما أسميتها بحالة الاستخفاف في لاوعي المثقف, وهنا المشكلة لا تملك إلا أن تفاقم من إنتاج نفسها, خصوصا عند ارتباطها بخارج إرادة الإدراك والوعي, وهو ما يعني أن حالة الغيبوبة قد طالت لتحصد, لا سامح الله, أدمغة, ما زال الصالح العام يرى فيها القادرة على إيجاد معادلات الخروج من نتيجة يصعب تخيلها.

وحين كانت الندوة تحت يافطة "حوار معرفي" كان هذا يعني إن فكرا خلاقا سيجد مساحة لطرح رؤاه ووجهة نظره, وإن الحديث سيكون عند مستوى من النضج, وقدر من التعمق, حتى نجد للقواسم المشتركة مكانا في واقع الفرص التاريخية المتاحة.

إلا أن ما أذهلني أن يأتي قحطان ليصف "المؤتمر الحاكم" بكيت وكيت, ويرد عليه غانم بحيص وبيص, ويقوم عبد الرحمن بافضل في نفس سياق قحطان, وينظم طارق الشامي إلى خط غانم, وهلم جرا, مع عدم التعميم على كل المتحدثين في الحوار المعرفي للندوة.. وفي هذا الإطار, ربما كانت "مدرسة المشاغبين" الشهيرة تحمل هدفا عميقا, ومغزى متسامي.. مع إعجابي برئيس دائرة الإعلام والفكر في حزب الرابطة- محمد جسار, الذي قدم طرحا يهتم بالفكرة وبالقيمة المعرفية, وبأسلوب متوازن وصيغة رصينة, ومحاججة منطقية.

وفي نفس اللحظة التي كانت فيها "الميج" تقصف مناطق في صعدة, كان الحوار المعرفي مُتحفا بابتسامات السياسيين.. معارضة وحاكم كانا يلوكا ثقافة استهلاك الزمن, دون أي شعور بالمسئولية.. كان غانم يقول إن المؤتمر حزب نال رضا الشعب وسيحكم أربعين عام أخرى, وكان قحطان يشرح لنا كيف وقّّع على عقد بمائة ألف, أو بخمسين ألف ريال يمني, وأنه استلم نصفها الصباح, وسيصرف له النصف الآخر لاحقا, وهكذا دواليك..

وإذا كان هذا حال أنموذج من نخبنا السياسية المثقفة, والتي تعتلي اليوم مكانة كبيرة في الحياة السياسية, ويفترض أن تحتلها أيضا في المجتمع, وهي بهذا الشكل على خارطة الواقع, فمن سيكون همه أمر هذا البلد؟ خصوصا وأنهم مدعوون تحت ضغط الحاجة الماسة إلى إفراز حلول حكيمة, لما يفوق "25 مليون نسمة", لصياغة رؤى, وإبداع برامج, وخلق آليات لها القدرة على كسر مخاوف القادم المجهول.

ونحن نعرف أن دستور الجمهورية اليمنية-1990م, صاغ التعددية السياسية في منعطف تاريخي مشهود, قدَّم تحولا لتوليد طاقات, وصناعة حلول, ومواجهة متطلبات مستقبل الجمهورية الوليدة سياسيا؛ حتى يتناسب حجم التغيير مع حجم الطموح.. ولم يصغ ذلك من أجل أن يكون هناك حزب حاكم متفرد بالسلطة (ليس كما اقتنع به الشعب أن يتفرد, بل كما أراد لنفسه الفردية كغاية تبررها أي وسيلة) ولا أن تكون هناك معارضة تقف عاجزة عن إنتاج برامج تعبر عن رؤيتها في الأزمات التي يعاني منها المجتمع, أو حتى تقف وقفة جادة ولو لمرة واحدة لصالح الشعب وفئات المتضورة, خارج نطاق الحسابات الخاصة.. ولا أن تكون هناك أحزاب أخرى, ولّدتها حاجة المسرح السياسي إلى ديكور.

وعودة.. فإن حالة الاستخفاف التي تعاملت مع موضوع جاد, كنظام القائمة النسبية, والذي وقع فيها منتدى التنمية السياسية طيب السمعة, وبعض من سياسيينا (ثمة متحدث عاب منظمي الندوة في أنها لم تتعامل مع الموضوع بما يستحقه من الاهتمام, ووقع فيما أعاب) أقول إن تلك الحالة, وربما غيرها حالات لا إحصاء لها, توحي لنا, بأن هناك أزمة مفجعة في الوعي والفكر, مضافة إلى أزماتنا الاقتصادية والسياسية وغيرها, وأعتقد أن الخلل الذي أصاب القيم, وأصبح عندنا ما يسمى بفساد القيم أو الأخلاق, وهو مما لاشك فيه أنه غدا ظاهرة لا أعتقد أن أحدا سينكرها, هذا الخلل هو الذي سبب أزمة الوعي عند النخب المثقفة, التي أقصدها هنا, باعتبار أننا أصبحنا نشاهد, وعن مضض, حالة من "الميوعة" في المعظم أضحت تجتاح منهج كل شيء في محيط جعلته من أكثريتها.

إنه, ولأجل ألا تنغلق نافذة الأمل, يجب علينا جميعا ويتحتم, وفي المقدمة نخب المجتمع وفئاته المثقفة, أن نغتنم فرص التاريخ, التي قد لا نجد سواها, من أجل معالجة ضمير القيم والأخلاق في ذواتنا, أولا, حتى نُوجد الدافع المستلهِم لالتقاط مثل هذه الفرص التاريخية, في حيز زمني ما زال جوادا ولم يبخل, ثانيا.. لبناء ما ننشده دائما.. يمنا آمنا مستقرا, يحتضن أبنائه بدافع الحب والحفاظ على الكرامة والإنسانية والحق الفطري في العيش الكريم..

nashwanalothmani@hotmail.com