حول مفهوم "الجنوب العربي" (3)
بقلم/ د. عيدروس نصر ناصر
نشر منذ: 12 سنة و 6 أشهر و 12 يوماً
السبت 05 مايو 2012 04:49 م

قبل الخوض في موضوع هذا الجزء من الحديث عن "الجنوب العربي" أود الإشارة إلى الملاحظات التالية، تعقيبا على الرسائل وبعض التعليقات التي تستحق التوقف:

1.إن ما كتب عن مفهوم "الجنوب العربي" لا يعبر عن موقف يقوم على العداء أو الإعجاب تجاه هذا المرحلة من التاريخ الجنوبي ولكن ما يمكن التأكيد عليه هنا هو إن الجنوب العربي كان مفهوما يعبر عن مرحلة تاريخية أخذت مداها وصارت جزءا من التاريخ، ولا يمكن استرجاعها لمجرد إننا نحبها أو شطبها لمجرد إننا نكرهها، ومن هنا تكون الدعوة إلى الجنوب العربي هي دعوة إلى مرحلة ماضوية أخذت مداها الزمني واستنفدت ممكناتها التاريخية، وهي دعوة لا تختلف عن الدعوة إلى عودة دولة الجبهة القومية أو الحزب الاشتراكي اليمني في الجنوب، لأن كل منهما يعبر عن مرحلته، وسواء أحببناه أم كرهناه لا يمكن استرجاعه فقط لمجرد أن ما جاء بعده كان أسوأ منه، أما إذا ما أرادت القوى المعبرة عنه استعادة مكانتها في الحياة السياسية الجديدة فلن يكون ذلك إلا من خلال الاحتكام إلى المعطيات الجديدة وأهمها التعددية والديمقراطية والقبول بالآخر والاحتكام إلى دولة المؤسسات والمواطنة المتساوية وحكم القانون.

2.إن الحديث عن نهب الجنوب لا يمكن أن يعني بأي حال من الأحوال أن كل الشمال مسئول عنه، ولربما اضطررت هنا إلى تكرار ما قلته مرارا إن المشكلة الجنوبية ليست صراعا بين الشمال والجنوب، وإن الحديث عن مظلومية الجنوب لا تعني بالضرورة أن كل جنوبي هو مظلوم وكل شمالي ظالم، بل إن المسألة فيها من النسبية مثلما في كل الظواهر والحوادث والعلاقات التي تظل نسبة التنافر والتجاذب فيها متغيرة على الدوام وأضيف هنا إلى إن الكثير من المحسوبين على الجنوب قد كانوا شركاء في عملية النهب والسلب، كما إن ضحايا السلب والنهب والإقصاء والتهميش في الشمال يتجاوز عددهم الملايين.

أن الإصرار على التمسك بمفهوم "الجنوب العربي" يلحق بالقضية الجنوبية من الأضرار أكثر مما يقدم لها من الفوائد، فعلى الأقل هو يقحم على القضية الجنوبية مفهوما غير متفق عليه وغير محسوم ومملوء بالتشوش والالتباس بحيث يصرف عنه الكثير من الأنصار دون أن يضيف إليه أصدقاء وأنصارا جدد، أما إذا كان المقصود بذلك العودة إلى "اتحاد الجنوب العربي" فكما قلنا إنه قد أخذ مداه في التاريخ ولم تعد استعادته ذات أفق تاريخي أو وطني، ناهيك عن أن أصحابه أنفسهم قد تخلوا عنه، وفضلا عن ذلك إن الحديث عن "الجنوب العربي" يضع الشركاء الإقليميين والدوليين في حيرة من التعاطي معه ذلك إنه يفتقد إلى الأساس القانوني والسياسي والتاريخي، فلا المنظمات الدولية ولا المنظمات الإقليمية ولا المحيط العربي والإسلامي يعترف يشي اسمه الجنوب العربي، وبالتالي فالمطالبة بالجنوب العربي تقدم من يتبنونه كالذي دخل في شراكة باسم أحمد مثلا ويريد أن ينهيها أو يواصلها باسم يعقوب، وهذا يفقده كل المبررات القانونية في التعاطي مع القضية على إنه شريك.

وإلى جانب ذلك فإن الكثير من أنصار القضية الجنوبية على الساحة الجنوبية واليمنية عامة لا يشعرون بأنهم يستطيعون أن يتعاطوا بثقة مع هذا المفهوم هذا إن لم يتسبب لهم المفهوم بمزيد من النفور والاستفزاز، وبذلك تخسر القضية الجنوبية من الأنصار دون أن تكتسب شيئا مقابل هذا المفهوم.

وفي اعتقادي إن التخبط في المفاهيم والمسميات ينطلق من غياب الفهم المعمق للقضية الجنوبية وإدراكها إدراكا كافيا وكما قلت سابقا فإن ذلك يأتي بفعل غياب عاملين أساسيين هما الرؤيا السياسية المعمقة والواضحة وما يعبر عنها من برنامج سياسي مدروس ومعلن ومقنع للناس، والأداة السياسية الواحدة المعبرة عن القضية الجنوبية ومن هنا فسيكون من المهم تأصيل الفهم المعمق للقضية الجنوبية وإيجاد أداتها السياسية الواعية والفاعلة والمقبولة في الوسطين المحلي والإقليمي.

كيف نفهم القضية الجنوبية؟

لست ممن يحبون ادعاء تقديم التوجيهات أو طرح النصائح والروشيتات لهذه القضية أو تلك، لكنني أرى بتواضع شديد إننا اليوم ندفع ثمن أخطاء من قدموا الجنوب هدية مجانية لأسوأ قيادة عرفتها الجمهورية العربية اليمنية، وبالتالي فإن الخلل الأساسي يبدأ عند العام 1990م، عندما هرول الطرفان إلى ما سمي حينها بالوحدة بلا دراسة ولا شروط تكفل نجاح المشروع الوحدوي وبلا أسس تضمن الوصول بالحلم إلى بر الأمان وبلا ضوابط تردع من يخل بشروط الشراكة وتحمي حقوق الشركاء.

لم تكن حرب 1994م مجرد نزاع بين طرفين اختلفا على الشراكة أو إن أحدهما يرغب في الاستحواذ على ما لدى الآخر، بل إنها كانت تكثيفا لتناقض بين مشروعين مختلفين في المضمون وفي الأسس وفي الأدوات،: مشروع الدولة الحديثة بما هي أداة لانتقال اليمن بشطريه المندمجين حديثا إلى فضاءات التنمية والحرية والتقدم لكل أبنائه والمواطنة المتساوية بعيدا عن التمايزات القبلية والجهوية والعرقية والسلالية والاجتماعية، ومشروع الغنيمة والسلب والنهب والاستحواذ بما هو أداة لتكريس الانقسام الرأسي والأفقي بين مكونات المجتمع اليمني وتغليب لنزعة الغلبة والهيمنة والاستعلاء، وقد كانت نتيجة الحرب هي هزيمة المشروع الأول وانتصار المشروع الثاني بدليل أن سياسة الغنيمة انتشرت على أوسع نطاقها حينما تحول كل الجنوب إلى غنيمة بيد السالبين والناهبين الجنوبيين والشماليين، . . الجنوبيين الذين لم ينهبوا ريالا واحدا عندما كانوا شركاء في حكم الجنوب، قبل الحرب، والشماليين الذين تحول الكثير منهم بين عشية وضحاها من حفاة يبحثون عن مسكن بالإيجار في عدن إلى ملاك لعشرات الكيلومترات وإلى مساهمين أو ملاك للشركات والبنوك والمؤسسات الاستثمارية بفضل نهبهم للجنوب، وامتدت سياسة الغنيمة لتشمل الشمال أيضا فكثير من المتنفذين لم يستأسدوا ولم يتغولوا إلا بعد حرب 1994م عندما شرعوا في نهب ما تبقى من أراضي ومؤسسات وممتلكات الدولة والمواطنين في محافظات الشمال بفضل اطمئنانهم للقضاء على مشروع الدولة المدنية التي كان يمكن أن تمنعهم في مواصلة مشروعهم.

وهكذا فإن القضية الجنوبية لا يمكن أن تفهم إلا في سياقها التاريخي والمتعلق بـ:"تدمير الدولة ونهب الثروة ومصادرة الحقوق وتهميش المواطنة والاستيلاء على الأرض والمنشآت وتزوير التاريخ ومسخ الهوية وتسطيح الثقافة وتحويل حلم الوحدة من وحدة الشراكة إلى وحدة الضم والإلحاق وما ترافق مع كل ذلك من إزهاق للأرواح وإراقة للدماء"

 إن هذا المدخل يبدو ضروريا للدخول إلى مهمة المعالجة المطلوبة والممكنات المتوفرة والخيارات التي يمكن الذهاب إليها لمعالجة هذه القضية العادلة والمشروعة وإن اكتنفتها بعض مظاهر التشويش والتضبيب المتعمدين وغير المتعمدين.

وللحديث بقية

برقيات

*همسة في أذن الرئيس عبد ربه منصور هادي: لا أعرف أحدا ممن عينتهم أو أحلتهم من القيادات العسكرية والأمنية، لكنني أتمنى عليك أن تتمسك بتنفيذ قراراتك حتى وإن كانت خاطئة، ولا تترك مجالا للوساطات والمحسوبيات، كما أرجو أن لا تنسى الكفاءات الجنوبية المقعدة منذ العام 1994م وأنت تعيد هيكلة المؤسسة العسكرية والأمنية سواء كانت هذه الكفاءات محسوبة على الزمرة أو الطغمة اللتان ودعهما الجنوبيون إلى الأبد.

*إصرار الرئيس المخلوع على تسليم قيادة المؤتمر لابنه أحمد وعبده الجندي على تسليم رئاسة حزبه لزوجته يبين لنا نوعية الأحزاب التي نتعامل معها، والتي لا تختلف كثيرا عن شركات استثمارية ينقلها الأب لابنه والزوج لزوجته.

*قال الشاعر الفلسطيني الكبير معين بسيسو:

أنا المــــــــقيّد لكنِّي سأنطـــــلقُ وأترك السجن خلفي وهو يحترقُ

وأخلع الكفن الدامي وقد رشحت خـــــــــيوطهُ بدمائي وهي تنبثقُ

واهدم الصنم المجـنون صارخةً حريتي في يــــــديهٍ وهي تختنقُ

هي الحياة تناديـــني وملء دمي أحسّ أمواجها الحمراء تـــــندفقُ

ولن يعيق خطاي الشوك مرتفعاً ولن يخـــــدّرني من ورده العبقُ