|
في هذه الحياة محرابان ..أولهما محراب الصلاة...وفيه الصلاة واجبة....وهو معراج الى العلا يسمو بالروح إلى السماء نحو خالقها العظيم ...فتتصل بالمصدر الأول...الذي هو أصل كل مصدر.
وثانيهما محراب الحياة ...وهو المحراب الأوسع ....ذو الآفاق الممتدة في كل الأبعاد ....وفيه الصلاة واجبة....وبين الصلاتين اختلاف كبير.
فالصلاة الأولى صلاة كيفيتها معلومة ،وهي مفروضة خمساً في اليوم..أما الصلاة الثانية فهي أكبر من أن توصف أو أن تحدد....إنها الحياة..
تنزل الإسلام يوم تنزل بنظام دقيق لكل الحياة، فيه تقرير مفصل لكل كل دقيقة وصغيرة، فيه النبأ اليقين، وفيه السعة، والجمال والكمال، وفيه علم كل علم ، واحتياج كل البشر...وما الشح في البحر، لكن الغواص قليلُ الحيلة.
وفي هذا المحراب شمول يتسع لكل ضيق، ويملأ كل فراغ، ويسد كل خرق، وفيه من التجدد ما يجعله متميزاً عن كل غير، فريداً عن كل نظام، سابقاً لكل حديث، وهو في نفس الحين أعتق من كل عتيق.
وهنا أحب أن اكتب عن بعض هذه السعة في سطور لا تتسع لهذا البعض...ولكن القبس يدل على المشكاة.. ومبتغي النور سهْلٌ عليه الإتباع.
فحياة الإنسان في الإسلام، مشمولة في كل جوانبها، متابَعة في كل حركاتها، مكفول الأجر فيها مع كل نفَس، ولو نظرنا بسرعة في كتب الأذكار، لرأينا من الأحاديث ما يعجب لها النبيه، فهذه الأحاديث والأذكار من الشمول بأن جعلت لكل حركة من حركات الإنسان،ذكراً محدداً له أجره المعين.
فإذا أصبح قال دعاء الإستيقاظ من النوم....وإن دخل الحمام قال دعاء الدخول، وإن خرج قال غفرانك...وإن توضأ قال باسم الله، وإن أنهى وضوءه قال الدعاء...وإن نزع ملابسه دعا، وإن لبس أيضاً...وإن نظر في المرآة قال الدعاء...وإن خرج من المنزل قاله...........وهكذا دواليك في كل حركة، ولولا خوفي من ملل القارئ لذكرت لاستكثرت، ولاستصحبت الأحاديث أكثرها، ولكني أرشد إلى كتاب الأذكار للنووي ورسالة المأثورات للإمام البنا...
وتلك التي ذكرت إشارة إلى شمول الإسلام روحياً في حياة المسلم فكل حياته مرتبطة بفلك الإسلام في ذلك المحراب الكبير..
وبعدها ننتقل في الشمول والعموم من حياة الفرد إلى حياة الأمة .
فالنظام التشريعي :
وهو الذي يعد أدق نظام تشريعي عرفته البشرية،وأشمل نظام عرفه التاريخ، حدد لكل شئ حكم، ودقق فأصاب، وما من مشكلة في حياة الإنسان والمجتمع إلا ولها في الشرع حل.
فشموله التشريعي أسدل رداءه على كل شئ، فمن العلاقات في الأسرة وتكوينها، إلى الطلاق، والمواريث التي عجزت كل نظم البشرية أن تأتي بنظام -على الأقل- مقارب في عدالته لقانون الله وشرعه،مروراً بالضمان الإجتماعي(حق الناس في بيت المال)، إلى الجنسية في الإسلام،ونظام الهجرة، والتملك ونظام العقوبات ومنها ( الحدود)، وفيه من الأحكام أنفعها وإن قسى، فالقسوة على الظالم من أجل الأمة ليست سوى رحمة عامة،وحفظ شامل.
ولست هنا في سبيل ذكر الأحكام التشريعية فليس مكانها مقالة كهذه، إنما هي علم متكامل له قواعده وأسسه وعلماؤه، ولكني بصدد ذكر حادثتين أولاهما ذكرها لي والدي عندما كنت صغيراً عن رجل كان يسب الحدود ويصفها بالظلم...مردداً كلمات المعري في القديم..
يد بتسع مئينٍ عسجد وديت.....ما بالها قطعت في ربع دينار.
وكان يشاكس ويناظر ويدعي أن السجن أشد فاعلية، وأكثر رحمة، حتى جاء من يسرق من بيته ما قل وزنه وغلا ثمنه، فسرق ذهب امرأته،فخرج يصيح أن لو رأيته لقتلته.
وصاحبنا هذا مثل لكل الأنظمة حيث أحكامُهم قائمةٌ على أسس نفسية عاطفية دائماً، لذا نجد أن كل مشرع من البشر تطغى عاطفته على تشريعه (قسوة أو رحمة)، بينما تشريع الله نابع عن علم مسبق وحكمة بالغة.
وقصة ثانية ذكرها لي أستاذ التربية الإسلامية في الصف الأول الثانوي، عن تقارير وزارة الداخلية اليمنية عام 1996 حينما كثرت سرقة السيارات، فقطعت يد أكابر المجرمين على الملأ وصورها التلفاز اليمني، فنقص معدل الجريمة بنسبة94%.
وفي الإقتصاد:
يثبت الإسلام كل يوم فحولته، وأنه لهذا المضمار سيد، وبعد ظلم الظالمين تتساقط صياصي القوم وقلاعهم عياناً، وليست تمر بنا يوم دون أن نسمع بانهيار أحد كبار البنوك في العالم وأعرقها، فنظام الفوائد(الربا) أعلن هزيمته أمام حرب الله (فأذنوا بحرب من الله)، وفي كل يوم يسقط فيه بنك عريق لأكلة أموال الفقراء وشاربي عرق الكادحين، يعلن الإسلام انتصاراً لحقيقة العدالة التي نادى بها قديماً (فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون).
واليوم يعلن كبارات القوم أنه لا بد من نظام إقتصادي جديد يخلف نظام السوق المفتوحة، وما التراقيع التي تقوم بها حكوماتهم (700 مليار في أمريكا- 1000 مليار في أوروبا) إلا كإمداد مريض بنزيف داخلي بقربة دم على حد تعبير أحد الإقتصاديين الإمريكيين.
إنهم باختصار (كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه).
في مجلس الشيوخ الفرنسي قامت سيدة فيه لتعلن أنه لابد من جعل الفوائد صفراً، وجعل الضريبة2% في تقارب كبير مع نظامنا الإسلامي العريق.
وفي 5-10-2008 قال بوفيس فانسون رئيس تحرير مجلة "تشاليجز" (أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بدلا من الإنجيل لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبقوها، ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري؛ لأن النقود لا تلد النقود).
وفي مجال السياسة:
كان الإسلام أكثر وضوحاً فقال الله تعالى (إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
فالدين القيم عند الله حكم بما أنزل وعبادة خالصة له وحده.
ولذلك لا فرق بين الصلاة في المحراب الصغير،بقيام وركوع، والصلاة في المحراب الكبير بسياسة شرعية منبعها كتاب الله وسنة رسوله، تقوم على أن يهيمن الإسلام على كل ما تحته.
والسياسة في الإسلام، نبل وسلام، حب ووئام، رعاية مصالح الناس ولو سهر الحاكم دون أن ينام، وهي أخذ على يد الحاكم إن أخطأ، وهي أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وهي باختصار تحقيق العدالة على كل الأبعاد الداخلية والخارجية، وقد أثبت التاريخ أن أنظف سياسة عرفتها الأرض كانت تحت لواء الخلافة الراشدة.
وفي تراثنا ما تفيض به المكاتب وتئط تحته الرفوف، ولمن شاء أن يعود إليها.
وثم بعد مرور الزمان وكرور الأيام ينبعث أشقياء القوم ليعلمونا بانتهاء أجل الإسلام، وأنه لم يعد يصلح لهذه الحياة ،فالمادة الحافظة في علبة الإسلام -كما يخيل إليهم- قد انتهى مفعوله- ففسد ما في الكيس، وكيس عقولهم أفسد.
بحثت عن سبب لأقوالهم فلم أجد إلا :
جهلاً مطبقاً، أو حقداً دفيناً، أو جحوداً جلياً، أو مصلحةً تزيلها عدالة الإسلام، أو كفراً بواحاً.
وهؤلاء من أبناء جلدتنا بيننا وبينهم الأيام، تثبت كل يوم خطأ رؤاهم، فيرجع الجاهل ويؤوب، ويزداد حقد الحاقد وجحود الجاحد، وصاحب المصلحة متبدلة أفكاره، وفي كل يوم له حزب ووجهة، ولا أظن أن في قومنا كفاراً .
وقد رد الأعظمي عليهم فقال:
إسلامنا لا يستقيم عموده ....بدعاء شيخ في زوايا المسجد
إسلامنا لا يستقيم عموده....بقصائد تتلى بمدح محمد
إسلامنا نور يضئ طريقنا...إسلامنا نار على من يعتدي
وقوله:
ما أنزل القــرآن كي يتلى علـى .... قـبر تـمدد فيـه ميــت لا يـعي
مـا أنـزل الـقـرآن كيــما تقـتنى .....منه التمائم في صدور الرضع
مـا أنـزل الـقـرآن إلا مـنـهـجـاً.....لـلـنـاس يـهـدف لـلنعيم الأمرع
تـسـتنـبط الآيات مـن أحـكـامـه....ويـكـون لـلتشريع أفضل مرجع
ختاماً...
إن المسجد له محراب ، والأرض لنا مسجد ولها محراب، ومحرابها أوسع، وبين المحرابين صلة وصلاة، وأمرنا أن نصلي في المحرابين ، ولمن شاء أن يرضى ولمن شاء النكوص، وشمس الإسلام تشرق من جديد، والسابق من حث الخطى ومشى دون تؤده، وصبر على اللأواء والجوع والعطش، (فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً)، والأيام أكبر شاهدٍ، وأعظم مربٍ، والمستقبل لهذا الدين(ويومئذ يفرح المؤمنون ).
والله المقصود، وله الحمد في الأولى والآخرة.
Mohammed.a90@hotmail.com
في الجمعة 28 مايو 2010 05:42:21 م